الزلزال “مسائل وأحكام” – مجلة بلاغ العدد ٤٦ – شعبان ١٤٤٤هـ
الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فقد استيقظ الناس في مناطق من شمال سوريا وجنوب تركيا ليلة الاثنين الخامس عشر من شهر رجب لعام 1444 هـ، على وقع زلزال مدمر أدى إلى وفاة قرابة خمسين ألف شخص ودمار كبير في المباني، أسأل الله أن يرحم موتى المسلمين ويعافي جرحاهم ويربط على قلوبهم، وإزاء هذا الحدث الكبير كانت هذه التذكرة المختصرة ببعض ما يتعلق بالزلازل من مسائل:
أولا – معنى الزلزال:
جاء في لسان العرب: “الزَّلْزَلَة فِي الأَصل: الْحَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ والإِزعاج الشَّدِيدُ؛ وَمِنْهُ زَلْزَلَة الأَرض”.
وقد ورد معنى زلزلة الأرض في القرآن الكريم بألفاظ عدة؛ مثل: الزلزال والرجفة والخسف والصدع والدك والميد والرج، قال تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، وقال جل وعلا: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)، وقال سبحانه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)، وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)، وقال تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)، وقال تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)، قال تعالى: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا)..
ثانيا – الحكمة من الزلزال:
لله جل وعلا الحكمة البالغة، وإليه يرجع الأمر كله، وخلق سبحانه كل شيء فقدره تقديرا، وفي وقوع الزلازل بالأرض حكم عديدة تجتمع كلها أو بعضها في هذه الزلزلة أو تلك، ولِما في الزلزال من أهوال وتغيرات تكثر الأسئلة عن الحكمة والسبب والدلالات المتعلقة بالزلازل، قال تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)، ومن تلك الحكم:
1 – ابتلاء الناس وتمحيصهم:
الدنيا دار ابتلاء واختبار وتمييز وتمحيص؛ فيقع الابتلاء على الناس جميعا مؤمنهم وفاسقهم وكافرهم فيتمايزون ويتفاضلون فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير، والزلزال نوع من أنواع الابتلاء والاختبار الذي يميز الصادق من غيره، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وقال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، وقال تعالى: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
2 – الانتقام من المجرمين:
الزلزال جند من جنود الله جل وعلا (وَلِلهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، ينتقم الله تعالى به من أعدائه ويقصمهم ويهلكهم، قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وقال تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» رواه البخاري.
3 – إصابة المذنبين:
يصيب الله جل وعلا الناس بسبب بعض ذنوبهم وببعض ما قدمت أيديهم ببعض المصائب التي تكون ذكرى لمؤمنين وتنبيها لغافلين وبلاغا وإنذارا..، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وقال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وفي الحديث القدسي، قال الله تعالى: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رواه مسلم.
وزُلزلت الأرض في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخطب رضي الله عنه وقال: “أَحدَثْتُم لَقَدْ عَجِلْتُمْ، لَئِنْ عَادَتْ لأَخْرُجَنَّ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانِيكُمْ” رواه ابن أبي شيبة والبيهقي.
4 – تحذير الأمم وتخويفهم وتأكيد الحجة عليهم:
في الزلازل تنبيه وتحذير وتخويف؛ فتتأكد الحجة على الناس، ويعتبر من أراد الله به خيرا ويرجع إلى سبيل المتقين ويزداد الشقي شقاء حتى يحل عليه العذاب المهين، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وقال جل وعلا: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، وقال سبحانه: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا).
ومما تحويه الزلازل من ذكرى أنها تذكر بالساعة؛ فكثرة الزلازل من علامات يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ، وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ» رواه البخاري.
5 – تطهير العباد واجتباؤهم:
يبتلي الله عباده المؤمنين ببعض آلام الدنيا تكفيرا لذنوبهم ورفعة لدرجاتهم واصطفاء لهم للمقامات الكريمة ليرتقوا في أنوار العبودية، قال جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)، وقال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، وقال تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «قلت: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الترمذي وابن ماجه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه الترمذي.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ» رواه البخاري.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صعقة موسى عند الجبل قد تكون سببا لكرامته عند الصعق يوم القيامة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ، أَمْ حُوسِبَ بِصَعْقَةِ الأُولَى» متفق عليه.
ثالثا – ما يشرع فعله عند وقوع الزلزال:
تشرع عند حدوث الزلزال عبادات عديدة؛ منها:
1 – الصبر:
فالمؤمن يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، فعليه بالصبر والاحتساب لينال الأجر العظيم، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
2 – الخوف والاعتبار والتوبة والذكر والدعاء والتضرع:
ينبغي أن نشعر عند حدوث الزلازل بالوجل والخوف مما اقترفناه من معاص فنعتبر بما حصل في الأرض من تغير، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، وقال جل وعلا: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا).
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)» متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ كُسُوفًا، فَاذْكُرُوا اللهَ حَتَّى يَنْجَلِيَا»، وفي رواية: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» متفق عليه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله أن يأتي العذاب من تحت الأرجل، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ)، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، قَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» رواه البخاري.
– والاستغفار نافع في دفع العذاب فيكون البلاء رحمة وتخفيفا لا انتقاما، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
– والتضرع والإلحاح في الدعاء عند نزول البأس فعل الصالحين، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)، وقال تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)، وقال جل وعلا عن المشركين: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
– وقد سبح موسى عليه السلام الله جل وعلا عندما تزلزل الجبل، قال تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، والتفكر في زلزال الأرض يدعو للتسبيح، قال تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وتسبيح يونس عليه السلام كان سببا في خروجه من الكرب في بطن الحوت، قال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
– والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لكفاية الهم، فعن أُبي بن كعب رضي الله عنه، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللهَ اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: مَا شِئْتَ. قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ» رواه الترمذي.
– ومن دعاء الكرب ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: «أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» متفق عليه.
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ؟ اللهُ اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» رواه أبو داود وابن ماجه.
3 – الاستعانة بالصلاة، وصلاة الجنازة على شهداء الزلزال:
الصلاة عمود الدين والمحافظة عليها سلوك المسلمين، ويجدر التنبه لمواقيتها والتذكير بها خاصة في أيام الزلازل؛ حيث تضطرب حياة كثير من الناس ويغفلون عن بعض المهمات.
والصلوات الخمس لها مواقيت محددة تؤدى فيها على الصفة المقدور عليها، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» رواه البخاري، ومن لم يجد الماء أو تعذر عليه استعماله تيمم.
– ويمكن لمن وقع عليه الحرج ونالته المشقة وحصل له الخوف بسبب الزلزال وصعب عليه أداء كل صلاة في وقتها أن يجمع الظهر مع العصر وكذلك يجمع المغرب مع العشاء عند العذر والمشقة الطارئة؛ فالخوف على النفس أو الأهل أو المال من مبيحات جمع الصلاة عند كثير من العلماء، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا سَفَرٍ» رواه مسلم، وهذا يدل على أن الخوف عذر من الأعذار المبيحة للجمع.
– ويشرع الإكثار من صلاة السنة عند الزلازل، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)، فيجتهد في صلاة النافلة المطلقة فرادى بهيئتها المعروفة، وهناك قول مرجوح ذهب إليه بعض أهل العلم أنه تصلى عند الزلزلة جماعة صلاة مثل صلاة الكسوف أو قريبة منها؛ لورود ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي بإسناد ضعيف قريب من هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والظاهر أن ابن عباس رضي الله عنهما قاس الزلزال على الكسوف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عندما رجف جبل أحد مثل صلاة الكسوف، ولا صلاها عمر رضي الله عنه عندما تزلزلت الأرض في عهده، فالأقرب عدم قياس الزلزال على الكسوف في هذه الصلاة الخاصة، قال الشيرازي في المهذب: “وَلا تُسَنُّ صَلاةُ الجَمَاعَةِ لآيَةٍ غَيْرِ الكُسُوفِ، كَالزَّلازِل وَغَيْرِهَا؛ لأَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ قَدْ كَانَتْ وَلمْ يُنْقَل أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلى لهَا جَمَاعَةً غَيْرَ الكُسُوفِ”.
– وورد السجود عند الآيات، فقد «قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاتَتْ فُلَانَةُ، بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَّ سَاجِداً، فَقِيلَ لَهُ: تَسْجُدُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا، وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه أبو داود والترمذي.
– ويجوز قنوت النوازل عند استمرار الزلازل، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ» رواه البخاري، وثبت قنوت النوازل عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال ابن نجيم في البحر الرائق: “قال جمهور أهل الحديث: القنوت عند النوازل مشروع في الصلوات كلها”.
* وتغسيل موتى الزلزال المسلمين، وتكفينهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، واجب، وإخراج الموتى من تحت الأنقاض لذلك واجب أيضا.
– وإن انفصل جزء من جسم الميت فإنه يغسل، ويوضع مع بقية الجسم إن وجد، وإن شق تغسيل الميت وتكفينه بالوجه الأكمل وكان في ذلك حرج بسبب كثرة الموتى أو الإرهاق أو عدم المعين فيكفي القيام بالواجب من ذلك وهو تعميم بدن الميت بالماء ولو مرة واحدة، ويجزئ أن يغطى البدن بأي ملابس أو قماش طاهر، وإن تعذر تغسيل الميت لأن الجسد لا يتحمل الماء أو ما شابه ذلك فإنه ييمم.
– وإن دُفن المسلم بلا تغسيل فإن كان جسده تغير عادة فإنه لا يُنبش القبر لأجل ذلك، وإن كان جسده لم يتغير ولكن إخراجه فيه نبش لقبور غيره وإيذاء لأجسادهم لاختلاط القبور وامتلائها بالموتى فلا ينبش كذلك، وإن لم يكن الجسم تغير عادة ولا فيه إيذاء لغيره من الموتى، فهل ينبش من أجل التغسيل؟ جمهور الفقهاء على أنه يُخرج ويُغسَّل.
– وإن دفن بلا تكفين، فجمهور الفقهاء على أنه لا يخرج من القبر لأجل التكفين؛ لأن في التكفين ستر وقد حصل بعض الستر بالتراب.
– وإن دفن بلا صلاة عليه، فجمهور الفقهاء على أنه لا يخرج من القبر لأجل ذلك، ويصلى عليه عند القبر.
– ولو اختلط موتى مسلمين مع موتى كفار ولم يتميزوا غُسِّل الجميع وكفنوا وصُلِّي عليهم ودفنوا.
– ولو لم تمكن الصلاة على الميت حضورا لتعذر إخراجه من تحت الأنقاض أو اختفاء جسده بالغرق أو التهام السباع له أو الحريق..، فإنه يصلى عليه صلاة الغائب كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي.
4 – مواساة المتضررين والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المؤمنون إخوة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه.
– فإنقاذ العالقين تحت الأنقاض واجب على الأمة، بل المسارعة والعجلة والمبادرة لإنقاذهم واجبة على القادرين، وهي فرض كفاية، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
– وتعزية أهل الميت في الزلزال وجبر كسر مصابهم عبادة، فالميت تحت الهدم شهيد، قال صلى الله عليه وسلم: «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ» متفق عليه.
– وتجب رعاية المتضررين خاصة الضعفاء من العجائز والنساء والأطفال حتى يجدوا قوام عيشهم، قال صلى الله عليه وسلم: «رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ» رواه مسلم، وتدفع في ذلك الزكوات الواجبة وصدقات التطوع..
– والصدقة نافعة عند البلاء، خاصة على الفقراء الصالحين المتضررين من الزلزال، قال صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ» رواه الترمذي وابن ماجه، وفي رواية الكسوف: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» متفق عليه.
ومن الصدقة عتق الرقاب، قال البخاري في صحيحه: “بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ العَتَاقَةِ فِي الكُسُوفِ أَوِ الآيَاتِ”، وذكر فيه قول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: «كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الخُسُوفِ بِالعَتَاقَةِ» رواه البخاري، وإذا كان عتق الرقاب سببا لرفع البلاء فإن سجن الصالحين ظلما وعدوانا من أسباب نزول العقاب، وتحريرهم من تلك السجون من أسباب رفع العذاب.
– ويشرع تذكير النفس والناس ووعظهم؛ فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم عندما كسفت الشمس، وخطب عمر رضي الله عنه عندما زُلزلت الأرض.
– والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يدفع العذاب العام، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا» متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
رابعا – الآثار المالية المترتبة على الزلزال:
للزلزال آثار مالية عديدة، ومن أكثر المسائل التي تقع في ذلك:
– إن مات أقرباء ولا يُعلم أيهم مات أولا، فلا نصيب لأي منهم في تركة الآخر، وتوزع التركة على بقية الورثة الذين عُلمت حياتهم عند الوفاة؛ لأن سبب استحقاق الميراث هو العلم بحياة المرء عن وفاة المورث، وهذا العلم غير ثابت في حال من ماتوا ولم يُعرف أيهم مات أولا، قال السرخسي في المبسوط: “اتَّفَقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَرَثَتِهِ الْأَحْيَاءِ، بِهِ قَضَى زَيْدٌ فِي قَتْلَى الْيَمَامَةِ حِينَ بَعَثَهُ أَبُو بَكْرٍ لِقِسْمَةِ مِيرَاثِهِمْ، وَبِهِ قَضَى زَيْدٌ فِي الَّذِينَ هَلَكُوا فِي طَاعُونِ عَمْوَاسَ حِينَ بَعَثَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِقِسْمَةِ مِيرَاثِهِمْ، وَبِهِ قَضَى زَيْدٌ فِي قَتْلَى الْحَرَّةِ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِهِ فِي قَتْلَى الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِهِ أَخَذَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ”.
– مِلك كل شيء تهدم أو تأثر هو لصاحبه الأصلي قبل الزلزال؛ فملك ركام البيت لصاحب البيت، وملك الأثاث لصاحب الأثاث، فإن اختلط ملك عدة أفراد ولم يتمايز كان لكل واحد منهم نسبة مثل نسبته قبل التضرر.
– وإن بيع عقار أو أثاث بالآجل، وتسلَّمه المشتري، ثم تلف بالزلزال، فإن بقية ثمنه على المشتري يدفعه حين ميسرة.
– وإن تبين أن المهندسين أو الصناع الذين أقاموا البناء قاموا بغش مؤكد أدى لانهياره أو تضرره فإن هناك مسؤولية تلحقهم بذلك، ويمكن الرجوع للقضاء الشرعي للفصل في مقدارها.
– وإن تهدم العقار أو تعذر سكنه بسبب الزلزال فإن للمستأجر فسخ العقد واسترجاع ما دفعه عن المدة المتبقية التي لم يسكنها، فإن كان المالك معسرا فنظرة إلى ميسرة، وإن تضرر العقار ضررا بينا فللمستأجر فسخ العقد أو إمضاؤه، وله إن وافق المالك تعديله.
– وإنقاذ العالقين تحت الأنقاض فرض كفاية على الأمة، ولمن أنفق في ذلك: بالمعروف، من ماله الخاص، بلا نية التبرع، مالا كثيرا، أن يرجع بما أنفقه على بيت المال أو ما يقوم مقامه، فإن لم يوجد بيت المال أو عجز بيت المال عن دفع ذلك، فهل يعود بما أنفق على من أنقذه إن كان له مال؟ قال ابن رجب في القواعد: “من يستحق العوض عن عمل بغير شرط؟.. أن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين وقيام بمصالحهم العامة أو فيه استنقاذ لمال معصوم من الهلكة.. ومنها: من أنقذ مال غيره من التلف كمن خلص عبد غيره من فلاة مهلكة أو متاعه من موضع يكون هلاكه فيه محققا أو قريبا منه كالبحر وفم السبع..، وكذلك لو انكسرت السفينة فخلص قوم الأموال من البحر فإنه تجب لهم الأجرة على الملاك، ذكره في المغني لأن فيه حثا وترغيبا في إنقاذ الأموال من الهلكة فإن الغواص إذا علم أنه يستحق الأجرة غرر بنفسه وبادر إلى التخليص بخلاف ما إذا علم أنه لا شيء له”.
خامسا – الاحتياطات المخففة من أثر الزلزال ودراسة أسبابه وتوقع حصوله:
الزلزال بلاء يشرع توقيه وأخذ أسباب تفادي أضراره، فلا بأس ببناء الأبنية التي تقلل من ضرر الزلزال، أو ارتداء الملابس الواقية، أو الإقامة في مكان لا بناء فيه، أو الانتقال إلى أرض أقل زلزلة، أو إطلاق الأصوات التحذيرية عند وقوعه، إلى غير ذلك من أسباب الوقاية.
وكذلك لا بأس بدراسة الحقائق العلمية والنظريات الجادة المتعلقة بحركة الأرض وزلزالها والتوقعات المترتبة عليها، طالما اعتقد المرء أن (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)، وأن ما في هذه الدراسات من أسباب هي بتقدير الله جل وعلا، مع الابتعاد عن التخرصات والتكهنات المبنية على التوهم والدجل والسحر والتنجيم، وكذلك البعد عن بث الهلع في النفوس.
* وختاما: فأعوذ بوجه الله الكريم من عذابه، وأسأله سبحانه اللطف في قضائه، ولنتذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي وَآوَانِي، وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ، وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ» رواه أبو داود.
والحمد لله رب العالمين.