الجهاد و الأنا – الركن_الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٦١ – ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛
الجهاد ذروة سنام الإسلام، أشرف العبادات لأفضل العباد، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذروةُ سنامِ الإسلامِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ لا ينالُه إلا أفضلُهم» أخرجه الطبراني.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟»، قلت: بلى يا رسول الله، قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» رواه الترمذي.
الجهاد عبادة ترفع صاحبها المنازل العالية وتحيزه العزة والشرف والرفعة دونًا عن سائر العبادات والطاعات، فبها العزة والرفعة ودونها الذلة والوضاعة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعِينةِ وأخذتم أذنابَ البقرِ ورضيتم بالزرعِ وتركتم الجهادَ سلط اللهُ عليكم ذُلًّا لا ينزعُه شيءٌ حتى ترجعوا إلى دينِكم» رواه أبو داود.
هذه الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية قد تهلك المجاهد إن خالطتها الأنا فلا تتركه حتى تحبط عمله وتزهقه وتجعله هباء منثورا، فما دخلت الأنا على أحد إلا حولته من الخير إلى الشر ومن العز إلى الذل ومن الرفعة إلى الوضاعة بل ومن الإيمان إلى الكفر.
*معنى الأنا: هي شخصية المرء التي يرى بها نفسه سواء سلبًا أو إيجابًا، وما أكثر امرؤٌ من ذكر الأنا والحديث بها إلا دل على محبة النفس وغرورها وإكبار أفعالها وتعظيمها..
ولأن المجاهد في سبيل الله يقدم الكثير من البذل والتضحية والشجاعة والفداء في جهاده فهو من أكثر العباد الذين يتعرضون لمواقف قد يدخل عليهم فيها العجب بعظيم عملهم وما يقدمونه، فإذا دخلت الأنا على نفس المجاهد أحبطت عمله ودلت على حظ النفس والغرور وعدم إخلاص العمل لله، وقد تورد صاحبها المهالك إن دلت على كبر أو عجب حين ترى أنها أعلى وأكبر من باقي المجاهدين أو المسلمين.
الأنا أول معصية عصي بها الله عز وجل في السماوات والأرض، قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12]، عصى الله عز وجل لأن الأنا في نفسه متكبرة متعجرفة، لم تر أفضل منها فوسوست إليه، أنا خلقت قبله، أنا مجاهد قبله أنا خير منه وأنا أشجع وأنا الأقوى وأنا المجاهد الصنديد وأنا المرابط وأنا المدافع وأنا المسؤول وأنا الأمير وأنا حامي الحمى وأنا وأنا، فأورد نفسه المهالك والخزي والعار والندامة إلى يوم القيامة وطرد من الجنة، قال تعالى: {فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ} ثم زاده طردًا ولعنًا: {ٱخۡرُجۡ مِنۡهَا مَذۡءُومٗا مَّدۡحُورٗاۖ} والعاقبة النار {لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمۡ أَجۡمَعِينَ} [الأعراف:18].
*وردت كلمة أنا في القرآن على ثلاثة معان؛ منها:
أ- الربوبية والألوهية العائدة على أسماء الله عز وجل وصفاته؛ المتعلقة بألوهيته وربوبيته وقدرته وعلمه، قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقال تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12].
ب- الكبر والتعالي والتجبر؛ عند الطغاة والكفرة العتاة الذين تكبروا على الله عز وجل وأنبيائه وخلقه فادعو الألوهية والربوبية واستعبدوا العباد، وأولهم:
*إبليس: {أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ} [الأعراف:12]
*النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]
*فرعون: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ} [النازعات:24]
فأهلكهم الله؛ وبقي إبليس يضل من يضل من الناس ليجتمع معهم يوم القيامة فيدخلوا النار سويًا.
ج- التوضيح والتبيين بالمهمة المناطة بالرسل والأنبياء والدعاة؛ في معرض الحديث عما كلفوا به دون تعظيم النفس أو النظر إلى حسنها وما قدمته.
قال تعالى: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188]
وقال تعالى: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} [يونس:108]
وقال تعالى: {أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف:45]
وقال تعالى: {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} [يوسف:69]
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف:110]
*أسباب دخول الأنا على نفس المجاهد:
1 – عدم تزكية المجاهد لنفسه وتربيتها وكسر عجرفتها؛ يتركها كالطفل دون تربية، يقول الشاعر:
والنفس كالطفل ان تهمله شبّ على *** حُبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطـــــم
والنفـسُ راغـبـةٌ إذا رغّبتَـهـا *** وإذا تُـرَدُّ إلـى قلـيـلٍ تـقنعُ
2 – كثرة المادحين؛ وتعظم الأنا وتفحش حين يكون الممدوح مجاهدًا عاديًا أو قياديًا ذا مكانة عالية، ففي كل لقاءٍ استقبالٌ وأناشيد ومراسم وحضور وجماهير وتبجيل ممجوج، وزاد في أيامنا ما يسمى بالإعلام الذي يعمل على المدح الزائد المذموم والذي قد يوصل للعصمة عن الخطأ والصواب والتقديس والعياذ بالله، فيقول لولا فلان لما حررنا ولا انتصرنا ولا أمنا في ديارنا وو، وقد كره صلى الله عليه وسلم هؤلاء المدّاحين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رجُلًا مدَح رجُلًا عندَ ابنِ عمرَ فجعَل ابنُ عمرَ يرفَعُ التُّرابَ نحوَه وقال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا رأَيْتُم المدَّاحينَ فاحثُوا في وجوهِهم التُّرابَ» أخرجه أحمد.
3 – إطلاق نفوذ المجاهد دون رقيب أو حسيب؛ وهنا تتضخم الأنا فيرى المجاهد نفسه القائد الأعلى والملك الأعظم وصاحب السلطة المطلقة الذي يُحاسِب ولا يحاسَب، فيقتل ويسجن ويأسر ويعفو وينفق ويشتري ويبيع ويعاهد ويوالي ويعادي ويعذب من يشاء كما يشاء دون أن يكون هناك من يسأله أو يحاسبه فيقع في الخطأ والدم والمال والعرض الحرام.
4 – إكثار المجاهد من الحديث عن نفسه وتكرار كلمة (أنا)؛ أنا جاهدت وأنا رابطت وأنا حررت وأنا دشمت وأنا قدمت وأنا أسست وأنا دافعت وأنا هاجمت وأنا جُرحت وأنا بذلت وأنا ضحيت وأنا بنيت وأنا وأنا وأنا..، فيرى نفسه وما فعل وينسى أن الله هو الذي منّ عليه ووفقه ويسر له الخير، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ الخَنْدَقِ يَنْقُلُ معنَا التُّرَابَ، وهو يقولُ: «واللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ ما اهْتَدَيْنَا، ولَا صُمْنَا ولَا صَلَّيْنَا، فأنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا» صحيح البخاري.
5 – عدم قبول المجاهد للنصيحة؛ أو اشتراط سماعها من مجاهد أو شخص أعلى منزلة دون عموم المسلمين، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة:206]، نفس المتكبر صاحب الأنا أكبر من أن تسمع نصيحة أو تتلقى نقدًا سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، بل يدفعه ذلك إلى مزيد تكبر وتعجرف وفساد وربما زاد فوق رد النصيحة ظن السوء والقيام بمعصية.
*الأمراض التي تصيب صاحب ((الأنا)) وتؤذيه وتجعله منبوذًا بين الناس وقد تحبط عمله عند الله عز وجل كثيرة، لكن أسوأها أمران، هما:
1 – الأنانية وحب النفس:
أنانية إبليس ورجاء أن يكون فعل السجود له لا لغيره أهلكته، كيف يسجدون لآدم ولا يسجدون لي وأنا خير منه أنا من نار وهو من طين، والخطر أن يكون لسان حال المجاهد لماذا يحبون فلانًا ولا يحبونني ويعظمون فلانًا ولا يعظمونني ويصدرون فلانًا ولا يصدرونني.
2 – التكبر والغرور والعجب:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرِ … إنَّ الكِبْرَ مَن بطِرَ الحقَّ وغمَصَ النَّاسَ» رواه مسلم.
*علاج مرض الأنا:
1 – إخلاص المجاهد لله عز وجل وصدق النية؛ وهو الركن الأساسي في القضاء على الأنا والأنانية والتكبر والعجب والغرور وحب النفس للمجاهد.
والإخلاص: هو تنقية الشيء وتهذيبه، وأصله خلص أي انتهى، أخلص في عمله أنهى منه الرياء والسمعة والعجب وحظوظ النفس، وإخلاص العمل أي جعله كاملًا لله عز وجل لا يبتغي به وجهًا من وجوه النفس أو المال أو الناس، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] فأخلص في جهادي ورباطي وغزوي ودعوتي وصدعي بالحق وفي كل أمري.
2 – اتهام المجاهد لنفسه بالضعف والتقصير وعدم تبرئتها؛ قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِيۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]، وكان من دعاء النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قوله: «اللهمَّ رحمتَك أرجو فلا تكِلْني إلى نفسي طَرْفةَ عينٍ أصلِحْ لي شأني كلَّه».
3 – صدق توكل المجاهد على الله عز وجل؛ ويقين العلم بأنه الموفق للخير والطاعة والمعروف، قال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12]، وقال تعالى: {قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لَٱسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوٓءُ} [الأعراف:188].
4 – إكثار المجاهد من العبادات المتنوعة مع الجهاد؛ فلا يعلم المجاهد أي عمل يقبل أو يرد، لذا لابد من إكثار الاستغفار والصلاة والصيام والصدقة وغيرها، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ”، وفي القيام عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: “كانَ لا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إلَّا رَأَيْتَهُ” صحيح البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقالَت: “لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسولَ اللَّهِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: «أفلا أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا»” صحيح البخاري.
5 – تواضع المجاهد؛ ومساعدة أهل بيته وعدم التكبر والتعالي على الخلق، قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخيطُ ثوبَه ويخصِفُ نعلَه ويعمَلُ ما يعمَلُ الرِّجالُ في بيوتِهم” صحيح ابن حبان.
الأصل في المجاهد في سبيل الله الذي يبتغي نصرة دين الله والدفاع عن أعراض ومقدسات المسلمين أن يكون ممن جاهد نفسه وهواه وشيطانه ابتداء ورباهم حتى استطاع أن يخرج ويبيع نفسه في سبيل الله، أما أن يكون مجاهدًا ونفسه على هواها غير منضبطة أو متخلقة بأخلاق الصبر والحلم والمحبة والمشاركة وفعل الخير واحترام الناس وتحمل أذاهم ومساعدتهم وخفض الجناح ومليئة بالعجب والغرور ويرها أنها مجاهدة وعلى خير عظيم معصومة من الزلل والأخطاء وحتى إن أخطأت أو أذنبت فذبنها مغفور؛ فهذا منكر كبير وخطير عظيم؛ يجب الانتباه من الوقوع فيه بمعرفة الأسباب المؤدية إليه، ومعرفة أمراض النفس وشهواتها وما يشوبها، ثم العمل على تربيتها وتزكيتها لئلا تورد صاحبها المهالك.
أخيرًا؛ أخي المجاهد إياك أن تكون من أول من تسعر بهم الناس يوم القيامة بسبب الأنا وحب النفس والرياء والهوى التي قد تهلكك، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول: «أولُ الناسِ يُقضى فيه يومَ القيامةِ رجلٌ أتى به اللهُ فعرَّفَه نِعَمَه فعرَفَها، فقال: ما عملتَ فيها؟ فقال: فقال: قاتلتُ في سبيلِك حتى استُشهدتُ، فقال: كذبتَ إنما أردتَ أن يقال: فلانٌ جرئٌ فقد قيل، فأمر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ» رواه مسلم.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم طهر نفوسنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.