الثغر الأكبر “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٨ – شوال ١٤٤٤هـ
الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الطاعات والعبادات المشروعة الواجبة، وهو ثغر من ثغور الإسلام العظيمة المهمة، ورغم أن الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم والمصنفات والمواعظ المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، إلا أن التقصير في القيام به في واقعنا كبير جدا، ويعظم إثم التقصير إن تهيأت أسباب الدعوة؛ كتحرير البلاد من سلطان الكافرين، وتوافر أهل العلم والمجاهدين، والحاضنة الشعبية المحبة للخير والطيبين..، ثم مع كل ذلك يفشو المنكر ويكثر الداعون له ويقل الخير ويكثر الناهون عنه!، تحت وطأة قيام الجهات والمنظمات المعادية للإسلام بدعم التفلت، وتشويه الغلاة الأفظاظ الغليظين لجمال الشريعة، وصد عُبَّاد المكوس والدرهم والدينار عن سبيل الله، لذا كانت هذه التذكرة المجملة بهذه الشعيرة المعظمة.
– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الثغر الأكبر من ثغور الإسلام:
الأمر بالمعروف وهو كل ما عُرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، والنهي عن المنكر وهو كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه، من أعظم شعائر الإسلام، وهو من أصول دعوة الرسل، ومن ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الحصن الذي يحيط بالإسلام ليمنع عنه تحريف وانتحال المبطلين، والقائمون به هم حماة ثغور الشريعة المتصدون لمكر الشيطان وجنده.
فمن أهم صفات النبي عليه الصلاة والسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ).
ومن أهم وظائف أمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
وكيف لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المنزلة وهو وإن كان من أهم صوره الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله، فإنه تتفرع عنه أصول عظيمة من أصول الإسلام كالدعوة إلى الله، والتذكير بالخير، والجهاد في سبيل الله، والقضاء، والتربية، والتعليم، والوعظ، وعامة الولايات..، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
ولذلك فإن التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلم لثغور الأمة يسبب حلول العقوبات الشديدة؛ فهاهم قوم لعنهم الله جل وعلا لعدم تناهيهم عن المنكر، قال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، وقال جل وعلا: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
والهلاك قد يعم فاعلي المنكر وتاركي النهي عنه، كما في حديث السفينة: «فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا» رواه البخاري، وفي الحديث: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» رواه أبو داود والترمذي، والفوز هو للدعاة الناهين عن المنكر، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
– حشد الناس لسد ثغر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة؛ منه ما هو واجب كفائي ومنه ما هو فرض عين على الجميع، ومعلوم في واقع زماننا أن الكفاية لم تقم وأن هذا الثغر العظيم فيه أماكن كثيرة لم تسد؛ لذا يتعين حشد الناس لسد هذا الثغر المهم وتداعيهم للقيام بمسؤولياتهم تجاهه، كل حسب قدرته فيوفقون بين مسؤولياتهم المتعددة وهذه المسؤولية العظيمة، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ» متفق عليه.
وقد كان المتوقع بعد تحرير الأرض من الكافرين أن يتشبه الناس بالصالحين في القيام بهذه الشعيرة، كما قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)، ولكن أعداء الإسلام يحاربون أجهزة الحسبة العامة بإلغاء مراكزها والتضييق على العاملين فيها وتفريغ عملها من مضمونه الحقيقي، وهذا يضاعف المسؤولية على الصالحين في المجتمع ليتحركوا زرافات ووحدانا خفافا وثقالا للقيام بواجبهم في الأمر بالمعروف وتغيير المنكر وإصلاح المجتمع.
– فمن المهم كذلك إضافة للتحرك العام للدعوة أن تتخصص فئات من الناس وتتفرغ لجعل هذه المهمة شغلهم الشاغل ومسؤوليتهم الدائمة، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وقال جل وعلا: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، فالتخصص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوفر أشخاصا يتقنون مهمتهم، ويضاعفون إنجازهم، ويسدون أهم الثغور أولوية، ويَدُلُّون بقية الناس على الثغور المهمة ويحثونهم على المشاركة في ذلك.
ومما يعين على زيادة عدد المتخصصين في الأمر بالمعروف وتغيير المنكر تواصي المجموعات بذلك وتنظيم عملهم وتنسيقه؛ فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، وكذلك كفالة الموسرين للمتفرغين في هذا المجال.
ومن أولى من يمكنهم التخصص في ذلك وتشكيل المجموعات التي تعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كانت طبيعة مسؤولياتهم تعين على ذلك كخطباء المساجد وأئمتها والعاملين فيها، ومدرسي حلقات القرآن وطلابها، وطلاب كليات الشريعة ومعاهد الدعوة، والمجاهدين حقا في سبيل الله تعالى، ووجهاء المجتمع، والتجمعات الإغاثية والخدمية الصالحة…
– أولويات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من الأولويات التي ينبغي على المجتمع الدعوة إليها ما يتعلق بأصول الدين وأركان الإسلام والتحذير من كبائر الإثم والعدوان؛ كالدعوة إلى تحكيم الشريعة وإنكار تحكيم الطاغوت، ومحاربة مناهج التعليم الإلحادية، ومطاردة المتطاولين على الإسلام وشعائره، والتحذير من وسائل الإعلام الداعية للفجور، والحث على المحافظة على الصلوات الخمس، ومنع البيع وقت صلاة الجمعة، وقمع السحرة والمشعوذين، والتشجيع على العفة والفضيلة والنهي عن التبرج والاختلاط المنافي للأخلاق الحميدة، ودحض أفكار العلمنة والبعثية والفجور والشذوذ، واستنكار المكوس وأفعال اللصوص، وفك أسر المأسورين والبراءة من ظلم أفراخ البعثيين، والترغيب في كفالة الأيتام ورعاية المحتاجين، والتوجيه للجهاد مع الصادقين، وكشف أوكار بيع الخمور والمخدرات، والتنفير من الربا…
– شروط وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط وآداب؛ كالعلم بحقيقة ما يدعو له، والإخلاص، والحكمة، والصبر، ومعرفة أولويات الدعوة، والتزام أخلاق الداعية، ومراعاة مراتب الإنكار، وطريقة إنكاره..، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ)، وقال جل وعلا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وتفصيل ذلك موجود في مظانه من كتب أهل العلم، ومما ينبغي هنا التأكيد عليه:
– أنه كلما عظم الأمر وتعلق بأصول الدين كان العلم به أعم بين الناس، فمثلا وجوب الصلاة وقبح الخلاعة والمجون وتحريم المخدرات..، معلوم مشهور؛ فالعلم الذي تحتاجه الدعوة المتعلقة بهذه الأمور وأمثالها متوفر لعامة الناس، ولا ينافي هذا الحرص على مزيد التعلم.
– وجود الأخطاء ليس مبررا لضعف العناية بهذا الجانب، فالأخطاء موجودة كذلك في المجالات الأخرى كالتعليم والعمل والزواج..، ومع ذلك فالناس تتوجه في هذه المجالات لعلاج الأخطاء ولا تعزف عن ممارستها، وكذلك في الدعوة ينبغي التنبيه على الأخطاء ومعالجتها لا العزوف عنها.
– الشيطان يواجه الدعوة بوضع الأشواك في طريقها؛ فليوطن الداعية نفسه على احتساب مشاق الطريق، فالدنيا دار ابتلاء والآخرة دار جزاء، وقد ذكر الله جل وعلا وصية لقمان في قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
فليعلم السالك لطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وأن أعداء الحق يؤذون الدعاة أذى قد يصل للقتل، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ولكنه أذى لا يفت في عضد الصالحين فتتنزل على قلوبهم من السكينة والطمأنينة ما يملأ حياتهم سعادة ورضا ونورا، قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).
* فاللهم ارفع لواء الدعوة، ووفق الصالحين لسد ثغور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحمد لله رب العالمين.