” الالتزام من أجل إشباع رغبات نفسية وهوياتية ” الأستاذ حسين أبو عمر
الالتزام من أجل إشباع رغبات نفسية وهوياتية
قبل يومين كتب الشيخ أبو قتادة الفلسطيني مقالة تحت عنوان: “اتقوا الله يا أهل الوعي!” يتحدث فيها عن التقليل من شأن العبادات عند ما يسمى بأهل الوعي والفكر، وعن تركيزهم على نوع محدد من الوعي والتفريط بالوعي الديني ..؛مما قال فيها:”ثم ألا ترى أن هؤلاء هم أهل فصام مقيت في تجزئة الدين كخصومهم الذين يحاربونهم، فخصومهم يقصرون العبادات على أنواع، وينسون أخرى، وهؤلاء كذلك يقصرون العلم والوعي على أنواع دون أخرى..”
هذه المقالة عادت بالذاكرة بضع سنين إلى الوراء: كنا نجلس انا وصديق لي في الدراسة بعد صلاة الجمعة في إحدى البلدان؛ مر من أمامنا شابان مسلمان “ملتزمان” بسيارة رياضية، يقودان بطريقة صبيانية، كانا قد أطلقا لحيتيهما بطريقة لا توحي أن الدافع لذلك هو خشية الله..؛ هذا المشهد أدخلنا في حوار حول موضوع أن التدين يمكن أن يكون باعثه أحيانا ليس الخوف من الله ورجاء ما عنده، وإنما السعي لإشباع حاجة نفسية وإجتماعية عند الفرد .. الحاجة للشعور بالهوية وتقدير الذات.
أحيانا تجد مثل هذه التصرفات حتى عند بعض المجاهدين؛ يمر الأخ المجاهد وقت الصلاة من جانب المسجد، وقد أرخى شعره ولحيته، وقد رفع صوت الأناشيد التي تحض على الجهاد وإعادة سلطان الله في الأرض، ولا يدخل المسجد للصلاة!!
في هذه الحال، يراودك شعور أن القضية هي الهوية أكثر منها الرغبة فيما عند الله والرهبة مما عنده!
تُعرَّف الهوية بأنها: وعي الإنسان وإحساسه العميق بالانتماء والانتساب إلى مجتمع ما، أو أمة ما، أو دين ما ..
الإنسان مفطور على الشعور بالحاجة للهوية والانتماء وتقدير وتحقيق الذات .. هذه الاحتياجات مثلها مثل باقي الاحتياجات الإنسانية؛ كما يذكر الكثير من علماء النفس، بل هو مفطور على الشعور بالحاجة للتدين!
من الجميل أن تكون للإنسان المسلم هويته، وأن يكون معتزا بانتمائه لأمته؛ لكن المشكلة عندما يكون الدافع لهذا التدين ولهذا السعي لإعادة أمجاد المسلمين وسلطانهم على الأرض هو إشباع رغبة متخفية في مكنونات النفس “الهوية وتقدير الذات” وليس إرضاء الله عز و جل .
من الجيد أن يرضينا ما يرضي الله، لكن المشكلة الكبرى أن يتحول سعينا من إرضاء الله إلى إرضاء أنفسنا!! أن نصبح مشمرين في سبيل أنفسنا لا في سبيل الله!! هذه الحالة يجدها كل واحد منا في نفسه، فاحيانا نعمل بعض الطاعات من أجل عدم تأنيب الضمير لا احتسابا للأجر .. تخلصا لا إخلاصا!
لا أظن أن ساعيا لرضا الله يحتقر العبادات أو شيئا من أوامر الله -عز و جل-، لكن يصدر مثل الأمر ممن ينصر الإسلام من أجل إشباع حاجة داخل نفسه؛ حاجة الشعور بالانتماء لحضارة قوية لها مكانتها، وهذا غالبا ستجد أن مفهومه للحضارة يختلف عن مفهوم المسلم الذي مبتغاه رضا الله؛ يصف عبد الحميد صديقي في كتابه “تفسير التاريخ” تصور المسلم عن الحضارة الإسلامية بكلام نفيس؛ قال:”فالمسلم يرى في عصر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الأربعة من بعده كان أوج الحضارة الإسلامية، ولكن غير المسلمين يرون أن الحضارة الإسلامية بلغت قمة مجدها حين ظهرت فيها الفنون الجميلة وضمت إلى رقعتها أقاليم أخرى واستبدلت بحياة البساطة والاستقامة والصدق والتقوى حياة طافحة بالملذات والترف والقوة والعظمة الدنيوية”
فالحضارة الإسلامية الحق هي بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبتقوى الله والتزام أمره واجتناب نهيه، وبالرجوع وإلى هدي الخلفاء الراشدين؛ يقول مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة”:”وإنه لتفكير سديد؛ ذلك الذي يرى أن تكوين الحضارة كظاهرة اجتماعية إنما يكون في نفس الظروف والشروط التي ولدت فيها الحضارة الأولى، كان هذا صادرا عن عقيدة قوية، ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره؛ ليذكر الناس بحضارة الإسلام في عصوره الزاهرة”
في هذا الموضع لا يمكن أن تمر دون أن تذكر الفارق بين الاستعلاء الإيماني وبين البحث عن الانتماء والهوية؛ الاستعلاء الإيماني: هو أن تمتلأ النفس بتعظيم وتمجيد الدين -كل الدين- وأن تستشعر علوه على سائر الأديان.. بينما في حالة البحث عن الهوية: فالنفس فيها فراغ وتبحث عن سد هذه الحاجة.
قبل الختام، هذه ليست دعوة للزهد في الفكر والوعي، بل هي دعوة لنبذ الوعي المزيف والفكر المنحرف .. دعوة للوعي العميق والفكر الصحيح .. دعوة للعلم بخبايا النفس وغاياتها .. دعوة للخروج من حالة الانتقائية الشهوانية التي نعيشها .. دعوة للدخول في شرائع الإسلام كافة؛ قال تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) وقال:((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)).
هذه الكلمات لاتفي هذا الموضوع حقه، ولكن عسى أن تشحذ همة أحد ممن لديه العلم وفهم النفس البشرية لدراسة هذه الحالة “الالتزام من أجل إشباع رغبات داخلية عند الفرد المسلم”
في الختام، “طبيب يداوي والطبيب عليل”
المصدر : أ. حسين أبو عمر