Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.

أخلاق الفاتحين – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٢٨ – صفر ١٤٤٣ هـ

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فقد أشرقت شمس الإسلام اليوم من أفغانستان الواقعة في بلاد خراسان، وكلمة خراسان تعني في الأصل بلد شروق الشمس، وخرج المحتل الصليبي صاغرا ذليلا من تلك الأرض العزيزة من أرض الإسلام، ورفرفت راية التوحيد عالية خفاقة رغم أنف الكافرين، (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).

وبهذه المناسبة السعيدة والنصر المجيد في تاريخ أمتنا العظيمة، فهذه مدارسة لبعض أخلاق الفاتحين؛ استشعارا بعظيم نعمة الله جل وعلا على أمتنا بهذا النصر المبين:

أولا: الفرح بنصر الله جل وعلا:

الفرح بنصر الله جل وعلا عبادة يرجى ثوابها، وهو من الفطرة السوية وعلامات الإيمان ودلائل الولاء والبراء، ويدخل في عموم قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

فحب النصر والبشرى به من صفات المؤمنين، كما قال تعالى: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

وإذا كان المسلمون يفرحون بنصر الله للكفار النصارى الروم على الكفار الوثنيين الفرس، فكيف لا يفرحون بنصر الله للموحدين على الكفار؟ قال تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ومن الفرح بنصر الله جل وعلا زف البشارة بالنصر للمسلمين، وقد بوب البخاري في صحيحه بابا بعنوان: “البشارة في الفتوح”، وأورد فيه حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه لما هدم ذي الخصلة وأنه أرسل رسولا للنبي صلى الله عليه وسلم يبشره بتمام الأمر.

ومن البشارة بالفتح كذلك «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر بعث بشيرين إلى أهل مدينة: بعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وبعث عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية؛ يبشرونهم بفتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم» رواه الحاكم، وهو حديث حسن بمجموع طرقه.

بل إن الحزن لنصر الله المسلمين من علامات النفاق، قال تعالى عن المنافقين: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا).

 

ثانيا: شكر الله تعالى والتواضع له سبحانه وتسبيحه واستغفاره:

مع تنزل الفتح وهطول البركات وظهور المنن، يهرع المؤمن إلى شكر الله جل وعلا والاعتراف له سبحانه بالتفضل بالنعم، فيزداد المؤمن في مواطن النصر تواضعا وافتقارا لله جل وعلا، فإن من الواجبات المترتبة على النصر شكر الله جل وعلا، كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وفي القرآن الكريم سورة النصر تعلمنا أدب المنتصرين، قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، يقول سيد قطب في تفسير هذه الآيات: “الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار، التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه. وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه وفتحه على رسوله، ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم، بعد العمى والضلال والخسران.

والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل: الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء. وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري..

والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر، من ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصر، وزلزلة..

والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره؛ فجهد الإنسان مهما كان، ضعيف محدود، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان..

ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والاتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين، ليرقب المنتصر الله فيهم”.

وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة متواضعا شاكرا لله جل وعلا قارئا للقرآن، كما في حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته، وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّع» متفق عليه، والترجيع نوع من تحسين التلاوة.

وشكر النعمة يكون بالقلب واللسان والجوارح، محبة وانقيادا وإخلاصا..، وذكرا وحمدا وثناء..، ومداومة على العبادات وزيادة الاجتهاد فيها، ولزوما للتقوى بشمولها وعمومها، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

* سجود الشكر:

ومن أنواع الشكر سجود الشكر، فقد أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتابا للرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلام همدان، «فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا» رواه البيهقي بإسناد صحيح، ووردت عدة أحاديث بهذا المعنى وإن كان في بعضها مقال لكن تقوم بمجموعها المشروعية، كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه: «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو يسر به خر ساجدا شاكرا لله تعالى»، وصح سجود الشكر عن عدد من الصحابة، كما في حديث توبة كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: “سمعت صوت صارخ، أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج” متفق عليه.

وقد أمر الله جل وعلا بني إسرائيل بإظهار الخضوع والدخول سجدا عند فتح الله القرية لهم، فقال تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وهو أمر وإن كان واجبا عليهم يومها وليس واجبا علينا، لكنه يفيد المعنى العام وهو إظهار الخضوع لله جل وعلا.

 

* حول صلاة الفتح:

ورد في حديث أم هانئ رضي الله عنها يوم فتح مكة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعدما ارتفع النهار يوم الفتح، فأُتي بثوب فستر عليه، فاغتسل، ثم قام فركع ثماني ركعات، لا أدري أقيامه فيها أطول، أم ركوعه، أم سجوده، كل ذلك منه متقارب، قالت: فلم أره سبحها قبل ولا بعد»، وقد أخذ بعض العلماء من ذلك مشروعية صلاة الفتح ثمان ركعات، كما قال ابن القيم في زاد المعاد: “هذه صلاة الفتح، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصنا أو بلدا صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكرا لله عليه، فإنها قالت: ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها”، وإن كان هذا الاستدلال يحتاج تأملا فقد نصت أم هانئ رضي الله عنها في رواية أخرى في صحيح مسلم على أنها صلاة الضحى، فقالت: «صلى ثمان ركعات سبحة الضحى»، وقد سئلت عائشة رضي الله عنها: «أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه» رواه مسلم، فكأن للقدوم والنزول في مكان زيادة اختصاص بصلاة الضحى، يضاف إلى ذلك أن الفتوح كثيرة في عهد النبوة، ولم يرد تخصيص يوم النصر بمثل ذلك، ولكن يستفاد من ذلك ألا ينشغل الإنسان بالفتح عن العبادات المسنونة.

ثالثا: إظهار شعائر الإسلام ومحو شعائر الكفر والدعوة إلى الإسلام:

الجهاد وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، وطريقة من طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو ليس قتال ملك ولا مال ولا وطن ولا نفوذ ولا جاه ولا عصبية ولا حمية جاهلية..؛ لذا كانت العناية بتحقيق الثمرة المرجوة منه عند الفتح أولوية ذات أهمية كبيرة.

والأصل عدم إكراه الكفار على الدخول في الإسلام، لكن إظهار شعائر الإسلام ومحو شعائر الكفر والدعوة إلى الإسلام ليست من الإكراه، بل هي تهيئة للنفوس لسماع الحق والتفكر فيه والإقبال عليه بعد أن تحطمت ثقتهم في باطلهم وزالت العوائق التي كانت تزين لهم الباطل وتمنعهم من الإقبال على الخير، قال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).

وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لعلي رضي الله عنه: «ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» متفق عليه، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أوصاه قائلا: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى» متفق عليه.

وفي فتح مكة «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» متفق عليه، «ثم دخل الكعبة، فوجد فيها حمامة عيدان [صورة حمامة مصنوعة من عيدان النخل]، فكسرها، ثم قام على باب الكعبة، فرمى بها» رواه ابن ماجه بإسناد حسن، ثم «خطب يوم الفتح بمكة، فكبر ثلاثا، ثم قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وهو صحيح، ثم بايع النبي صلى الله عليه وسلم جمعا ممن أسلم من الرجال والنساء، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا لكسر الأصنام في القرى التي حول مكة، فبعث كما في الطبقات الكبرى لابن سعد “سرية خالد بن الوليد إلى العزى..، ثم سرية عمرو بن العاص إلى سواع..، ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة”.

 

رابعا: التمسك بالقوة ومواصلة الإعداد:

الجهاد ماض إلى يوم القيامة، والتدافع بين الحق والباطل مستمر دائم؛ لذا فلا ينبغي أن تكون لحظة النصر وأيام الفتوحات مدعاة للغفلة عن القوة والبعد عن الحذر، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه «إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال» رواه البخاري، أي أقام في الأرض الواسعة من ديارهم، قال ابن حجر في الفتح: “قال ابن الجوزي: إنما كان يقيم ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال، فكأنه يقول: من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا”.

وعندما ظن بعض الناس أن الحرب قد وضعت أوزارها غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه، قال: «كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: كذبوا، الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» رواه النسائي وهو صحيح.

* معاقبة بعض أئمة الكفر:

ومن إظهار القوة عند النصر معاقبة بعض الناكثين كبار المجرمين عقوبة لهم وردعا لغيرهم، فقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ألا يكتموه شيئا من الذهب والفضة فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عصمة، فكتموا مالا لحيي بن أخطب، فاستخرجه المسلمون فانتقض بذلك صلح اليهود، فقتل المسلمون منهم رجلين وسبوا نساءهم وذراريهم، والقصة صحيحة مذكورة بطولها في صحيح ابن حبان.

كما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم بعض أئمة الكفر يوم فتح مكة ولم يجعلهم داخلين في العفو العام الذي شمل أهل مكة، فقُتل بعضهم ثم عفا عن بعضهم بعد ذلك.

خامسا: التحلي بمكارم الأخلاق:

مع تهاوي قلاع العدو وسقوط حصونهم تستقبل عادة الشعوب المغلوبة الفرسان الغالبين، وقلوبهم ممتلئة بفيض من المشاعر المتداخلة؛ شعور بالخوف والقلق، مع شعور بالحزن والألم، مع شعور بالرجاء والأمل..، وهي تترقب ما سيصنعه الفاتحون بهم.

وصدق من قال: لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين، الذين استطاعوا بفضل الله تعالى من فتح قلوب الشعوب بعد فتح حصونها، فدخل الناس في دين الله أفواجا، حتى أصبحوا أئمة يحملون راية الإسلام ويبلغونها لمن وراءهم.

إن الوفاء بالوعود والالتزام بالعهود والعفو عن المذنبين والإحسان إلى المهزومين وتأليف قلوب المعادين..، هي بعض أخلاق فرسان الإسلام حملة مشعل الهداية والرحمة للعالمين.

فلعظم المروءة ومحاسن الأخلاق والوفاء بالعهد وسوء الغدر نجد الوصية العظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم لجيوشه بألا يُسمُّوا ذمتهم وعهدهم ذمة الله جل وعلا، ولا يسموا اجتهادهم في الحكم حكم الله جل وعلا، لكي لا يُنسب الخطأ لو حصل إلى الشرع بل إلى تقصير العبد، وهو تقصير ينبغي العمل على تلافيه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي المجاهدين عند الغزو، قائلا: «إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» رواه مسلم.

ولما قال سعد بن عبادة يوم فتح مكة: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة”، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» رواه البخاري.

وفي هذا اليوم أراد صلى الله عليه وسلم أن يتألف قلوب بعض أهل مكة فكان من ذلك أن قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» رواه مسلم، ثم لما خرجوا معه إلى حنين مجاهدين خص مسلمة الفتح بمزيد فضل من الغنائم تأليفا لقلوبهم.

ومن تأليف القلوب كذلك أنه لما أسلمت هوازن بعد ما كان منهم من حرب على الإسلام يوم حنين، رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي تأليفا لقلوبهم.

 

* تنوع التعامل مع رؤوس المغلوبين:

ولعل التأمل في تنوع تعامله صلى الله عليه وسلم عام الفتح مع أشراف مكة يبين جزءا من السياسة النبوية في مثل تلك الحال؛ فهناك من أقبل مسالما قبل دخول مكة رغم سابقة عدائه للإسلام كأبي سفيان، ومنهم من قاتل وقاوم كعكرمة بن أبي جهل، ومنهم من لم يُعرف بشدة عداوة للإسلام بل كان له ميل للإسلام قبل فتح مكة كعتاب بن أسيد، فأبو سفيان أسلم فأُكرم وتألف قلبه، وعكرمة قاوم فأُهدر دمه، حتى فر ثم عاد تائبا، أما عتاب بن أُسيد فهو شاب في العشرين من عمره له نسب حسن في قريش وله ميل قديم للإسلام مع حسن شمائل، فجعله صلى الله عليه وسلم أميرا على مكة دون غيره من سادات مكة من مسلمة الفتح؛ فلم يكن تأليف القلب لشخص ما أو سيد من السادات يعني تأميره على قومه، بل روعيت في الإمارة يومها معايير إيمانية خاصة.

سادسا: إكرام المجاهدين الفاتحين:

الثلة المؤمنة المجاهدة التي تحملت الشدائد في سبيل الله حتى حصل الفتح لها فضلها ومكانتها، وما أجمل تكريم الله جل وعلا لهم في قرآنه الكريم وتفضيله إياهم على سواهم، قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا).

ولما وجد بعض الأنصار شيئا في أنفسهم لكثرة العطاء الذي تألف به رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمة الفتح، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: يا رسول الله قد رضينا» متفق عليه، فما أعظم هذا الفضل والقسم الذي نالهم.

* توزيع الغنائم على الفاتحين:

ومن تكريم الفاتحين توزيع الغنائم عليهم والتعجيل بذلك، فهو من الحلال الطيب الذي رزقهم الله إياه، كما قال جل وعلا: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وهو من عاجل ثواب المؤمنين، كما قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).

وقد مضى عمل المسلمين على التعجيل بتوزيع الغنيمة، كما قال الزرقاني في شرحه لمختصر خليل: “السنة التي فعلها عليه الصلاة والسلام أو العمل الذي مضى عليه السلف، القسم لغنائم الكفار بحكم حاكم ببلدهم؛ لتعجيل المسرة للغانمين وذهابهم لوطنهم، ونكاية للعدو، ويكره تأخيره لبلد الإسلام كما في الجزولي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يرجع من غزوة فيها مغنم إلا خمَّسه وقسمه قبل أن يرجع، كبني المصطلق وحنين وخيبر، ثم لم يزل المسلمون بعده على ذلك”.

وهذا التوزيع العادل والعاجل للغنائم من أسباب منع الغلول الذي قد يقع فيه بعض من ضعفت نفسه عند رؤية الغنائم، (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

* وختاما: فهذه بعض أخلاق الفاتحين وآداب المنتصرين، تزامن ذكرها مع فتوحات بمشرق الإسلام وبوادر نهضة في عدد من ساحات الجهاد، فعسى أن تتابع بإذن الله قريبا فتوحات وتنهدم عروش طغاة.

والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا 

لقراءة مقالات مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى