⁩⁩لهو المجاهد – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد الثاني والثلاثون

العدد الثاني والثلاثون جمادى الآخرة ١٤٤٣ هجرية – كانون الثاني ٢٠٢٢ ميلادي

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛

فرض الله تبارك وتعالى الجهاد على عباده المؤمنين؛ ليتخذ منهم شهداء وليعلم الصادقين والصابرين ويمحص المؤمنين ويمحق الكافرين، قال تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).

  وهذا الجهاد يحتاج رجالًا كالجبال الراسيات تصبر وتصابر وترابط وتتحمل اللأواء والشدة ومشقة الطريق، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

   إلا أنه رغم هذه المشقة والتعب والنصب في هذه العبادة، فقد رخص الله جل وعلا لعباده المؤمنين والمجاهدين في اللهو واللعب والمرح والفرح والترويح عن النفوس، حتى لا تمل النفس وتتكاسل، أو تبتعد عن هذه العبادة العظيمة الجليلة عند حصول التعب والنصب وعند الشدائد، فعن عائشة رضي الله عنها أنها لَمَّا نَظَرَت إلى زَفْنِ الحبشة (رقص الأحباش وهم يتلاعبون) قالت: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «لِتَعلَمَ يهودُ أنَّ في دِيننا فُسْحَةً، إني أُرسِلتُ بحَنِيفِيَّةٍ سَمحَةٍ» رواه أحمد.

  وقد أتى حنظلة رضي الله عنه يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق؛ وهو في حسبانه اللهو واللعب والانشغال بالأزواج والأولاد، فبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الإسلام المعتدل بين العبادة والنفاق وبين اللهو ومراعاة حق النفس والأهل والولد بقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ثَلاثَ مَرَّاتٍ.

  وقد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه بقوله: «صدق سلمان» عندما طلب سلمان من أبي الدرداء رضي الله عنهما أن يؤدي حق زوجته ويروّح عن نفسه، فعن عون بن أبي جُحَيْفة، عن أبيه، قال: «آخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ: إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقَ سَلْمَانُ».

إن لهو المجاهد بنية الإعداد في سبيل الله عز وجل لهو لَهْوٌ يؤجر عليه، ويدخل ضمن قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ).

 

* ولِلّهو المباح أنواع وألعاب رخصها الإسلام، ومنها:

– اللهو بالسهام:

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلا يَعْجِز أَحَدُكُمْ أنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ» رواه مسلم، وفيه: الندب إلى الرمي والتمرن عليه وإتقانه.

 

– سباق الخيل والإبل:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» رواه الترمذي وأبو داود والنسائي، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها» متفق عليه.

– الرماية:

عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارْمُوا بَنِي إسماعِيلَ فَإنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارموا، وأنا مع بني فلان، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا فأنا معكم كلكم» رواه البخاري، وتشمل الرماية التعلم على جميع أسلحة الرمي على اختلاف أنواعها كالسهام والرماح والقنابل والمسدسات والبنادق والرشاشات والدبابات والمدفعية والصواريخ القريبة والبعيدة المدى.

 

– لعب الأحباش:

ولتعلم حقيقة مراعاة حاجة النفس للهو واللعب خاصة عند الفتيان والفتيات، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسعاد عائشة رضي الله عنها؛ فوقف يسترها بردائه مدة من الزمن حتى ترى الأحباش وهم يلعبون، قالت رضي الله عنها: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العرِبة الحديثة السن». متفق عليه.

– المصارعة:

وقد ورد «أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات؛ كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد! ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه غنمه» قال الألباني: رواه أبو بكر الشافعي بإسناد جيد.

* ضوابط اللهو في الجهاد:

الاعتدال في كل الأمور هو سمة الصالحين، فالمجاهد عندما يلهو فإنه ينضبط بالآداب الشرعية؛ فلا يلهو إلا:

– بما أجاز الشرع اللهو به.

– وبما لا يؤدي للمنكرات ولا لفساد ذات البين.

– ولا يفضي إلى الغفلة والانشغال الكبير عن الطاعة.

وقد ذم الله جل وعلا ذما شديدا من أغواهم الشيطان فشغلوا أوقاتهم في الجهاد بالاستهزاء بالدين لعبا ولهوا، فقال جل وعلا: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ).

 

أخيرًا:

على قدر الجهاد والتضحية والتعب والتقديم للجهاد في سبيل الله تعالى، يرفع الله المقام ويخفف الهم والغم والحزن ويفرح المرء ويسليه، رغم البعد عن الأهل والولد، وقلة المال، وهجرة الأرض والديار، وفقد الأخ والصاحب الخليل، وشدة الجهاد وقسوته وأهواله، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، إِنَّهُ لَيُنَجِّي اللهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ» رواه أحمد.

لذا فلنحرص أشد الحرص على التزام طريق الجهاد، طريق العزة والشرف والرفعة والجنان، ولنحرص على التزود من الطاعات والعبادات من صلاة وصيام وحج وصدقة وصلة رحم وقراءة قرآن، مع التزود بالمعروف من الدنيا بما يعين النفس على المسير؛ ففي ذلك الراحة النفسية الحقيقية للمؤمن الحق الذي يبتغي الخير من الله، عسى الله أن يمن علينا برحمة من عنده لا نشقى بعدها أبدًا..

والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٢ جمادى الآخرة ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى