“يوم الجنائز” وعلاقته بالصدع بالحق – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٢٦ – ذو الحجة ١٤٤٢ هــ

الأستاذ: خالد شاكر

حكى الذهبي في السير عن سالم بن المنذر، قال: “لما سمعت الضجة بوفاة الأوزاعي، خرجت، فأول من رأيت نصرانياً قد ذرَّ على رأسه الرماد، فلم يزل المسلمون من أهل بيروت يعرفون له ذلك، وخرجنا في جنازته أربعة أمم: فحمله المسلمون، وخرجت اليهود في ناحية، والنصارى في ناحية، والقبط في ناحية”.

ولعل هذه الجنازة المهيبة وما قد يشبهها هي مما حدا بالإمام أحمد بن حنبل أن يقول وقد فشت البدعة في ذلك الزمن: “بيننا وبينكم يوم الجنائز”، وصدق قوله رحمه الله فجاءت جنازته مهيبة، قال الذهبي: “قال الخلال: سمعت عبد الوهاب الوراق يقول: ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا الإسلام مثله -يعني: من شهد الجنازة- حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف. وحزرنا على القبور نحوا من ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب، ينادون من أراد الوضوء..، قال الخلال: سمعت ابن أبي صالح القنطري يقول: شهدت الموسم أربعين عاما، فما رأيت جمعا قط مثل هذا -يعني: مشهد أبي عبد الله-“.

وتتابعت في التاريخ الجنازات المشهودة؛ فقال الذهبي عن جنازة بكار بن قتيبة سنة سبعين ومائتين: “شيعه خلق عظيم أكثر ممن يشهد صلاة العيد”.

وقال عن جنازة بنان الحمال: “خرج في جنازته أكثر أهل مصر، وكان شيئا عجبا من ازدحام الخلائق”.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية عن جنازة ابن تيمية: “اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى الجامع، وامتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات، إلى اللبادين والفوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك، ووضعت في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلي عليه أولا بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام، ثم صلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظهر، وحمل من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وصار النعش على الرؤوس، تارة يتقدم وتارة يتأخر، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها من شدة الزحام..، وعظم الأمر بسوق الخيل..، وغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا القليل من الناس أو من عجز لأجل الزحام، وحضرها نساء كثير بحيث حزرن بخمسة عشر ألفا، وأما الرجال فحزروا بستين ألفا وأكثر إلى مائتي ألف..، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي انتهوا إليها، هذا مع أنه مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان..، وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق”.

– وإن هذه المشاهد العظيمة لتستدعي النظر في الواقع الاجتماعي لهؤلاء الأئمة:

فلم اختص هؤلاء العلماء بجنازات مشهودة تفوق جنازات كثير من العلماء؟

وما الذي يجعل جميع أهل البلد بشبابهم وشيبهم ورجالهم ونسائهم يشاركن في تلك المآتم الكبرى؟

ولماذا يحزن اليهود والنصارى على موت عالم من علماء المسلمين؟

 

* والذي يظهر عند تحليل جزء كبير من تلك الجنازات، أن تلك الجنازات الحافلة والحزن العام هو بالإضافة لفضلهم وعلمهم، بسبب صدعهم بالحق، ووقوفهم أمام الجبابرة، وتحملهم الأذى في سبيل الله، فوجد الناس فيهم صوت الحق الذي يقمعه الطغاة، وكانت تلك الجنازات تحمل معنى التظاهر ضد الطغيان الذي قمع الناس وأرهبهم.

وهناك معنى آخر يظهر كذلك في بيئة تلك الجنازات وهي أنها تكون بعد ذهاب زمن شدة الطغيان، وفي زمن وجود بعض متنفس للناس لإظهار ما كتموه في قلوبهم.

فالأوزاعي رحمه الله له موقف مشهود مع عبد الله بن علي عم السفاح، وكان عبد الله بن علي هذا كما يقول الذهبي: “جبارا، عسوفا، سفاكا للدماء..، نازل دار الملك دمشق، فحاصرها أياما، وأخذها بالسيف، وقتل بها إلى الظهر نحوا من خمسين ألف مسلم من الجند وغيرهم، ولم يرقب فيهم إلا ولا ذمة، ولا رعى رحما ولا نسبا”، وقد سأل سفيان الثوري الأوزاعي قائلا: “حدثنا يا أبا عمرو حديثك مع عبد الله بن علي”، فقال الأوزاعي: “لما قدم الشام، وقتل بني أمية، جلس يوما على سريره، وعبأ أصحابه أربعة أصناف: صنف معهم السيوف المسللة، وصنف معهم الجزرة [نوع من السلاح له فأس]..، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافركوب [المقرعة]، ثم بعث إلي. فلما صرت بالباب، أنزلوني، وأخذ اثنان بعضدي، وأدخلوني بين الصفوف، حتى أقاموني مقاما يسمع كلامي، فسلمت، فقال: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير.

قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ فسأل مسألة رجل يريد أن يقتل رجلا. فقلت: قد كان بينك وبينهم عهود.

فقال: ويحك! اجعلني وإياهم لا عهد بيننا.

فأجهشت نفسي [خافت وفزعت]، وكرهت القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله عز وجل فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام.

فغضب، وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال لي: ويحك! ولم؟!

قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه).

قال: ويحك! أوليس الأمر لنا ديانة؟!

قلت: وكيف ذاك؟

قال: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوصى إلى علي؟

قلت: لو أوصى إليه، ما حكم الحكمين.

فسكت، وقد اجتمع غضبا، فجعلت أتوقع رأسي تقع بين يدي.

فقال بيده هكذا -أومأ أن أخرجوه-.

فخرجت، فركبت دابتي، فلما سرت غير بعيد، إذا فارس يتلوني، فنزلت إلى الأرض، فقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين. فكبرت، فجاء -وأنا قائم أصلي- فسلم، وقال: إن الأمير قد بعث إليك بهذه الدنانير، فخذها. فأخذتها، ففرقتها قبل أن أدخل منزلي”.

فكان هذا الموقف العظيم للأوزاعي من المواقف العظيمة التي جعلته ناطقا باسم الأمة معبرا عن حقيقة الحق الذي تعتقده؛ ولذا فلا عجب أن يصفه العلماء بأنه “جمع العبادة والعلم والقول بالحق”، وأنه “رجل عامة”، ويقول أحد أمراء الدولة العباسية عند وفاته: “رحمك الله أبا عمرو، فلقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني”.

 

وإذا لاحظنا أن الأوزاعي توفي بعد ذهاب سلطان الطاغية عبد الله بن علي بسنين عديدة، وفي آخر زمن أبي جعفر المنصور، بعد أن خفت سطوة وبطش أبي جعفر المنصور، علمنا لماذا حزن حتى اليهود والنصارى على وفاته، وأنهم حزنوا لوفاة صوت الحق المدافع عن الأمة ضد الطغيان.

 

وكذلك بكار بن قتيبة الذي شيعه خلق عظيم، اجتمع له الأمران؛ الصدع بالحق والأذى بسبب ذلك، ووفاته بعد وفاة الجبار الذي آذاه، فله موقف مشهود مع ابن طولون، يقول الذهبي عن ابن طولون: “جبار، سفاك للدماء..، أحصي من قتله صبرا، أو مات في سجنه، فبلغوا ثمانية عشر ألفا”.

ومختصر موقفه مع ابن طولون أن ابن طولون أراده أن يخلع الموفق من ولاية العهد، فجمع العلماء والأعيان، وقال: قد نكث الموفق أبو أحمد بأمير المؤمنين، فاخلعوه من العهد. فخلعوه، إلا بكار بن قتيبة، فقيده ابن طولون وحبسه إلى أن مات ابن طولون، فخرج من الحبس ومات بعد ابن طولون بأربعين يوما.

وكذلك بنان الحمال الذي خرج في جنازته أكثر أهل مصر، صدع بالحق في وجه ابن طولون وأوذي ومات بعد ابن طولون، قال عنه الذهبي: “كان كبير القدر، لا يقبل من الدولة شيئا، وله جلالة عجيبة عند الخاص والعام، وقد امتحن في ذات الله، فصبر، وارتفع شأنه..، أمر ابن طولون بالمعروف، فأمر به أن يلقى بين يدي سبع، فجعل السبع يشمه ولا يضره، فلما أخرج من بين يدي السبع، قيل له: ما الذي كان في قلبك حيث شمك؟ قال: كنت أتفكر في سؤر السباع ولعابها..، ثم ضرب سبع درر”.

 

فهاتان الجنازتان المشهودتان لبكار بن قتيبة وبنان الحمال؛ لهما ارتباط بالصدع بالحق في وجه ظالم سفاك للدماء هو ابن طولون، وكذلك ارتباط بزوال ملك ابن طولون وتعبير الناس عن شكرهم للعلماء وبغضهم للطغاة.

وقد نقلت بعض الملابسات المتعلقة بجنازة الأوزاعي وبكار بن قتيبة وبنان الحمال رحمهم الله لعدم اشتهار تلك الملابسات في الثقافة العامة المعاصرة، وتركت نقل الملابسات المتعلقة بجنازة أحمد بن حنبل وابن تيمية رحمهما الله لاشتهار كثير من أحداثها في الثقافة العامة، وتشترك مع الملابسات المذكورة في صدع الإمامين بالحق في وجه السلاطين الظلمة وتعرضهم للأذى في سبيل الله بسبب ذلك، وصبرهم، ثم وفاتهم في ظل ضعف حال من آذوهم، فكانت الجنازات تحمل معنى من معاني الثورة الاجتماعية ضد الظلم والطغيان؛ لذا قال عبد الوهاب الوراق أحد خواص الإمام أحمد: “أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنة والطعن على أهل البدع، فسَرَّ الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من العز وعلو الإسلام وكبت أهل الزيغ”.

* وفي العصر الحديث ومع وجود وسائل التواصل الحديثة زادت أهمية المعنى الاجتماعي للجنازات والتوظيف السياسي لها، وعمل الأعداء على تصدير نخب فاسدة أمام المجتمعات المقهورة من فنانين ولاعبين وملاحدة وطغاة..، ومحاولة الضخ الإعلامي لربط الناس بهم وبجنازاتهم، وإن من الخيانة المشاركة في تقديم تلك النماذج الفاسدة كقدوات للأمة.

 

على الطرف الآخر تعمل المنظومة الجاهلية المعاصرة على التضييق المستمر على علماء الأمة الصادقين ودعاتها المخلصين، بل والتضييق أحيانا على جنائزهم ومنع المشاركة الجماهيرية العامة فيها وترهيب حضورها؛ خوفا من الأثر النفسي والاجتماعي لتلك الجنازات المباركة، ومع ذلك فلا يخلو الأمر من حوادث تتوفر فيها ظروف مناسبة تساعد على انطلاق جماهير الأمة لتشارك في جنازات العلماء والدعاة والمجاهدين ورجال العمل الإسلامي فيظهر بعض فضل هؤلاء الأخيار وبعض الخير الموجود في الأمة.

 

أسأل الله أن يجازي أهل الفضل فضلا، وأن يتقبل من عباده الصادقين الصادعين بالحق، وأن يعجل انتقامه من الظلمة الفاسقين، والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسخة من المجلة يمكنك الضغط هنا  

لقراءة باقي المقالات يمكنك الضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى