واقع الثورة السورية والمآل.. مصارحة ومناصحة – كتابات فكرية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٣ – المحرم ١٤٤٦ هـ
الأستاذ: حسين أبو عمر
من تتبع ما كتبه الخبراء المختصون بدراسة الصراعات، والسياسيون الذين شاركوا فعليًا في التوسط لحل بعض النزاعات، حول مسار الصراعات وأنواعها وآمادها، وطرق انتهائها، وعند أي ظروف يمكن إنهاؤها، وما العوامل الواجب توفرها لإنهاء صراع ما؛ ثم أسقط ما ذكروه على الثورة السورية -بدون أن يكون خاضعا للوهم والأماني الخدّاعة- سيلاحظ تطابقاً مذهلًا في المسار، وسيجد أن غالب ما ذكروه من عوامل وظروف يمكن عندها إنهاء صراع ما تنطبق على الثورة السورية في واقعها الحالي.
وسنبدأ بنموذج “المصيدة”، الذي طوره كل من جويل بروكنر وجيفري روبين، يفترض منظرو المصيدة أن صانعي القرار في النزاعات المستعصية يمرون عبر أربع مراحل:
• المرحلة الأولى: يستهدف أحد الأطراف أو كليهما لتحقيق إنجازات محدودة، وتكون الخسائر فيها محدودة.
• المرحلة الثانية: تصاعد في الخسائر، ويواكبه ارتفاع سقف الأهداف.
• المرحلة الثالثة: استنزاف متبادل في الموارد والطاقات، وكل طرفٍ يعمل على تهويل صور الخسائر التي لحقت بالخصم، والتقليل من شأن خسائره.
• المرحلة الرابعة: استنفاد في الموارد، والتوقف عن اعتبار التضحيات بمثابة ثمن للنصر، والبحث عن مخرج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
والمرحلة الرابعة في نموذج المصيدة هي المرحلة التي يمكن عندها إنهاء الصراع، أما قبل ذلك فلا يمكن الوصول إلى حل.
ولا شك أن الثورة السورية مرت بالمرحلة الأولى، عندما كانت المطالب في بداية الثورة تقتصر على إجراء إصلاحات، وبتغيير رئيس حكومة، أو رئيس فرع أمني… ثم انتقلت للمرحلة الثانية، عندما استخدم النظام الحل الأمني والقتل والبطش؛ فارتفع سقف المطالب، وأصحب تنحية ومحاسبة رأس النظام، وتغيير النظام بشكل جذري مطالب رئيسية… ثم دخلت في المرحلة الثالثة: أيام اشتداد المعارك، والإقبال على التضحيات واعتبارها ثمنًا لتحقيق النصر… ثم بعد الهزائم العسكرية التي مُنيت بها الثورة بدأت تتسلل إلى نفوس بعض المتصدرين نفسية المرحلة الرابعة، فبدأوا يروجون لفكرة الخروج بأقل الخسائر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه..
وقد جاء في ((دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد 2012م)) ما يفيد نفس الفكرة، حيث جاء فيه: “وإذا طال أمد الصراع، فعلى الأرجح ستخف توقعات المتحاربين بتحقيق انتصارٍ عسكريٍ إلى حدٍ بعيد، ومن ثم سيكونون أكثر عرضة للتوصل إلى تسوية حقيقية، ومن غير المحتمل أن يصل المتحاربون إلى هذا الاستنتاج إلا بعد أن يجري الاقتتال لبعض الوقت، مما يشير إلى أن الصراع المسلح في بعض الأحيان يحتاج إلى أن يمضي في مساره لفترة من الوقت حتى يتسنى إجراء مفاوضات جادة”.
ولهذه الفكرة نظريةٌ تؤصل لها تحت مسمى “منح الحرب فرصة” وهي نظرية ومؤلَف للمفكر الأمريكي إدوارد لوتواك؛ والمقصود هنا أن أطراف الصراع لن تقبل بحلول تفاوضية أو الاستسلام في البداية، وإنما ستصل لهذه النتيجة مع الزمن؛ ولذلك من الأفضل الانتظار حتى يصل أطراف الصراع أو أحدهما إلى التوقف عن اعتبار الخسائر بمثابة تضحيات ضرورية لتحقيق النصر، ويبدأ بالبحث عن مخرج؛ وهي نظرية لها قبولٌ كبيرٌ في أوساط الباحثين؛ ومعظم من قرأت لهم من الغربيين حول الحرب الروسية – الأوكرانية على سبيل المثال؛ كانوا يقولون إنّ الحل الآن غير ممكن، وإن الكل مجمع على “منح الحرب فرصة”.
أما طول المدة التي تحتاجها معظم الحروب حتى تصل إلى “لحظة النضج” بحيث يصبح الحل ممكنًا، فقد جاء في ((وثيقة السلام 2023))، وهي وثيقة سنوية تصدرها أهم أربعة مراكز أبحاث ألمانية مختصة بدراسة الصراعات، أن: “الحروب، التي لا تنتهي خلال السنة الأولى، لديها احتمالية عالية أن تتحول إلى حروب طويلة، تمتد في المتوسط لأكثر من عشر سنوات”.
في مقابلة مع ((مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية)) في 11 أبريل 2013م وصف أنتوني كوردسمان، أستاذ كرسي أرليه بورك في الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مدير سابق لتقييم الاستخبارات في مكتب وزير الدفاع، وعمل مستشارًا لوزارتي الخارجية والدفاع خلال الحربين الأفغانية والعراقية، وصف مصطلح “الربيع العربي” بأنه مصطلح غبي، وسمى ما بدأ يحدث في العالم العربي بـ “العقد العربي”؛ يعني اضطرابات ستستمر لعقد من الزمان، وتنتهي.
ومن العوامل المساعدة على إنهاء الصراعات الإفراط في استعمال القوة والقتل والتدمير، قال صموئيل هانتجتون في كتابه ((صراع الحضارات)): “عندما تصل الخسائر إلى عشرات أو مئات الألوف، ويصل عدد اللاجئين إلى مئات الألوف، وتتحول مدن مثل (بيروت) و (غروزني) و (فوكوفار) إلى أنقاض، يبدأ الناس في الصراخ: (…جنون… جنون… كفى… كفى!!)”.
وهذه الطريقة هي التي استعملت مع المدن السورية، والعراقية، ويجري الآن تطبيقها على قطاع غزة..
ومن العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى إنهاء الصراعات هو دخول أطراف ثانوية على خط الصراع عن طريق الدعم وغيره، ثم تمسك هذه الأطراف بخيوط الصراع؛ وقد أشار إلى هذه الفكرة صموئيل هانتنجتون في كتابه ((صراع الحضارات))، حيث قال: “بينما يوسع التجمع -الأقرباء درجة ثانية وثالثة حول أقربائهم ثقافيا- من الحرب ويطيل أمدها، إلا أنه كذلك شرط ضروري وإن كان غير كاف لتحديد الحرب وإيقافها، المتجمعون من الدرجة الثانية والثالثة عادة لا يريدون أن يتحولوا إلى مقاتلين من المستوى الأول، ومن هنا يحاولون إبقاء الحرب تحت السيطرة، كما أن لهم أيضًا مصالح مختلفة أكثر من المشاركين الرئيسيين الذين يكون كل تركيزهم على الحرب، كما أنهم مهتمون بقضايا أخرى في علاقاتهم ببعضهم، ومن هنا فإنهم في مرحلة ما من المحتمل أن يجدوا أن من مصلحتهم إيقاف الحرب، ولأنهم إذا تجمعوا حول أقربائهم يكون لهم نفوذ عليهم، وهكذا يصبح المتجمعون عوامل كبح وإيقاف”.
ذكر هانتجتون عدة أساليب قد يستخدمها الحلفاء لإيقاف الحرب، إيقاف الدعم أحدها؛ قال: “سحب الدعم، والحقيقة خيانة الأطراف الثانوية للأطراف الرئيسية”.
في سوريا، تخطى الأمر ما ذكره هانتنجتون كثيرًا؛ حيث بات القرار بيد التركي بالكامل، وما عادت الكثير من الفصائل تملك من أمرها شيئًا، بل أصبح بعضها تتسابق إلى تقديم أوراق اعتماد عند السيد “الحليف”، وتقاتل غيرها من الفصائل إرضاءً له، وبعضها تحول إلى مرتزقة تقاتل في عدة قارات!
أما الأجسام السياسية؛ فهي بالأصل صناعةٌ خارجيةٌ، تُجلب كـ “شاهد ما شفش حاجة” لحضور مؤتمرات الدول، وتُستعمل كمطية لتمرير مشاريعها..
كذلك جاء في ((دليل وكالة الاستخبارات الأمريكية لتحليل التمرد 2012)) أن من العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الوصول إلى تسوية: “قطع الرعاة الأجانب أو الحلفاء للدعم أو ضغطهم على المتمردين أو الحكومة للتفاوض”.
ومن المؤشرات التي جاءت في ((دليل وكالة الاستخبارات الأمريكية لتحليل التمرد 2012)) حول إمكانية إجراء مفاوضات بين الحكومة والمتمردين للوصول إلى ما يسمى تسوية تفاوضية: “استعداد الجانبين لقبول وساطة طرف ثالث ومراقبة وقف إطلاق النار”.
ونختم الكلام عما جاء عن الخبراء في خل النزاعات بما ذكره سامي الخزندار في كتابه ((إدارة الصراعات وفض المنازعات: إطار نظري)) حيث قال: “في كثير من الأحيان يمكن الوصول إلى تسوية بين الأطراف المتصارعة في الصراعات العنيفة، نتيجة لتغيرات تؤدي إلى قيام الأطراف المتصارعة، أو أحدهما بإدخال تغيير أو تعديل في الأولويات أو المطالب أو المواقف الأساسية…. وعادة، يحدث التغيير في الأولويات والمطالب الأساسية نتيجة متغيرات عديدة، منها:
حدوث تغيير في القيادة السياسية لأحد الأطراف، كأن تأتي قيادة سياسية براغماتية، بدلًا من قيادة أيديولوجية سابقة…
قد يحدث التغيير في المواقف والأولويات أيضًا، نتيجة التغيير في الظروف والتحالفات المحلية والدولية والإقليمية المحيطة بقيادة الأطراف المتصارعة…
عدم تغيير أو جمود، في الظروف الميدانية للصراع، مما يجعل فرصة الانتصار مستبعدة”.
ويُضاف إلى ما ذكره هؤلاء الخبراء حالة الشرخ الكبير، وانعدام الثقة بين المكونات القائمة والحاضنة الشعبية، وفيما بين المكونات نفسها، وحالة الظلم والاستئثار، وتولية غير الأكفاء، وعدم تحصين الجبهات التحصين الكافي، وتفكيك الأدلجة، وتحول أكثر الفصائل إلى أدوات ضبط وسيطرة أكثر من كونها فصائل للدفاع عن المحرر فضلًا عن التحرير، وغير ذلك من الإشكاليات الموجودة…
*هل التركي جاد في المصالحة مع النظام؟
في البداية، لا بد من التنبيه على أن الدول عندما تبني سياساتها، فإنها تبنيها على ما تقتضيه مصالحها، أو مصالح النخبة الحاكمة فيها، ولا تبنيها على مقتضى مصالح أو أماني أو مشاعر الغير، كما ينبغي التنبيه على أن تصورات النخبة الحاكمة في دولة ما لمصالحها، لا تنطلق من تصوراتنا نحن لمصالح تلك الدولة؛ وذلك لاعتبارات كثيرة، ليس هذا مكان التفصيل فيها.
النخبة الحاكمة في تركيا باتت ترى في الثورة السورية عبئاً ألحق بمصالحها أضرارًا كبيرة؛ وذلك على مستوى أمن ومصالح الدولة، وعلى مستوى مصالح النخبة الحاكمة نفسها: من نشوء إقليم كردي انفصالي على حدودهم الجنوبية، يهدد أمنهم القومي ووحدة الدولة، إلى الأضرار التي لحقت باقتصاد الدولة، والتي يرجع جزء يسير منها إلى أحداث تتعلق بسوريا، وصولًا إلى تهديد استمرار سيطرة النخبة الحاكمة على الحكم؛ بسبب استثمار المعارضة السيئ لقضية اللاجئين السوريين في الانتخابات، كما أن طول الزمن مؤثر هنا، وكما صرح الأتراك مرارًا أن هذه القضية لا يمكن أن تبقى إلى الأبد بدون حل. هذا بالإضافة لتطبيع الدول العربية لعلاقاتها مع النظام، وإعادته إلى جامعة الدول العربية.
هل هذه دعوة للتصادم مع الأتراك أو غيرهم من الدول؟ خاصة أن البعض كلما ذكرت تركيا؛ يحصرك في ثنائية إما التبعية المطلقة لتركيا أو معاداتها والصدام معها! والبعض الآخر يستجلب تعامل السيسي مع غزة عند ذكر العلاقة مع تركيا مباشرة!!
هذه ليست دعوة للتصادم مع الأتراك أبدًا، إنما هي دعوة لتحضير أنفسنا لتغييرات السياسة، حتى إذا افترقت المصالح الكبرى نكون مستعدين للدفاع عن أنفسنا.
ولقد وفر الأتراك الحماية للمناطق المحررة لسنوات، فلو كانت الفصائل واعية وجادة في الحفاظ على المحرر لجعلت منه خلال هذه السنوات قلعة حصينة، ولبنت مجتمعًا قويًا متماسكًا، ولكن شيئًا من ذلك لم يحصل.
وهل ذلك يعني أننا أمام حتميات لا يمكن تغييرها، وهل هي دعوة لليأس والاستسلام؟
لا، أبدًا ليست كذلك، وإنما هو شرح للواقع بعيدًا عن العيش في حالة الإنكار والتفكير الرغبوي والأماني الخداعة، وهي دعوة ليتحمل كل واحد مسؤوليته، وليبذل وسعه لتجنيب الثورة هذه النهاية المظلمة.
والحل للواقع الذي بتنا فيه هو ما أجمع عليه كل العقلاء: في تشكيل مجلس موسع لقيادة الثورة، تُدعى إليه كل الشخصيات الرمزية، وأصحاب الخبرة، يمثل أهل الثورة حقيقة، يستطيع الاستحواذ على ثقة الناس، ويكون وراءه ثقلٌ شعبيٌ يعينه على استعادة القرار، ويكون هو الممثل الوحيد للثورة، وتنزع صفة تمثيل الثورة عن باقي الأجسام السياسية، وفي إسناد العسكرة إلى عسكريين أكفاء أمناء، وفي دعم العسكرة وتحصين الجبهات، وفي ترميم العلاقة بين المجتمع والعسكرة، وفي عسكرة المجتمع، وفي كف الظلم والضرائب عن الناس..