مقدمة في الجهاد بالكلمة || الركن الدعوي ||مجلة بلاغ – العدد ٢٥ – ذو القعدة ١٤٤٢⁩

مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن الجهاد وإن كان الأصل الاصطلاحي له أنه يطلق على جهاد السنان، فإنه يطلق أحيانا على عدد من أنواع الجهاد كجهاد النفس وجهاد الكلمة وجهاد المال..، مثله مثل كثير من المصطلحات التي يحدد لها السياق أحيانا معان أخص أو أعم من المعنى الاصطلاحي المشهور، وهذه نبذة عن “جهاد الكلمة” والذي هو نوع من أنواع الجهاد بمعناه العام.

أولا- تعريف “الجهاد بالكلمة”:

الجهاد لغة: بذل الطاقة واستفراغ الوسع والمبالغة في ذلك. واصطلاحا: بذل الوسع في محاربة الأعداء. والكلمة تطلق على الحرف الواحد من حروف الهجاء، وتقع على لفظة مؤلفة من جماعة حروف ذات معنى، وتقع على قصيدة بكمالها وخطبة بأسرها. “لسان العرب والمعجم الاشتقاقي”.

فمعنى “جهاد الكلمة”: بذل الطاقة واستفراغ الوسع في حرب الأعداء باستخدام الكلمة.

وبهذا المعنى فإن “الجهاد بالكلمة” هو نوع من أنواع الدعوة إلى الله تعالى بالكلام يختص بمواجهة ودعوة الكفار والمنافقين والفساق والمبتدعة، على تنوع مراتب مواجهتهم ودعوتهم ووسائلها.

وقد تأتي أحيانا كلمة “الجهاد بالكلمة” بمعنى عام يتعلق بكل أنواع الدعوة بالكلمة؛ سواء كانت دعوة تعليم أو تذكير أو زجر وتوبيخ أو هجاء، وسواء كانت دعوة للصالحين أو مستوري الحال أو الفاسقين أو الكفار..

ثانيا- أدلة مشروعية “الجهاد بالكلمة”:

دلت على مشروعية “جهاد الكلمة” كثير من الأدلة؛ منها:

– قال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، وهذه آية مكية نزلت قبل أن يُشرع جهاد السيف؛ لذا قال الطبري في تفسيره: “جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها”.

– قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فقد أمرت الآية بعموم جهاد الكفار والمنافقين، وجهاد بعضهم بالسنان قد يتوقف أحيانا بعهد أو ذمة أو استتار حال المنافق، فأرشد ذلك إلى أن جهادهم يشمل أنواعا من الجهاد مع جهاد السنان؛ لذا قال السعدي في تفسيره: “بالغ في جهادهم والغلظة عليهم حيث اقتضت الحال الغلظة عليهم. وهذا الجهاد يدخل فيه الجهاد باليد والجهاد بالحجة واللسان، فمن بارز منهم بالمحاربة فيجاهد باليد واللسان والسيف والبيان. ومن كان مذعنا للإسلام بذمة أو عهد فإنه يجاهد بالحجة والبرهان ويبين له محاسن الإسلام ومساوئ الشرك والكفر”.

– عدد من الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه مسلم.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» رواه أبو داود والنسائي.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه» رواه أحمد.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

ثالثا- فضل “الجهاد بالكلمة”:

– الجهاد بالكلمة نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله بالنفس والذي يتكامل مع غيره من أنواع الجهاد كالجهاد باليد والجهاد بالمال، وقد وعد الله جل وعلا المجاهد بماله ونفسه بالأجر العظيم والثواب الجليل، كما قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

– والجهاد بالكلمة نوع من أنواع الدعوة إلى الله والدلالة على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال الله جل وعلا: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

– ولبعض أنواع الجهاد بالكلمة فضائل خاصة ككون كلمة الحق عند سلطان جائر أفضل الجهاد؛ قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: “جعلها أفضل الجهاد؛ لأن قائلها قد جاد بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله فلا يكون بذله نفسه مع تجويز سلامتها كبذل المنكرِ نفسَه مع يأسه من السلامة”، وأضاف المناوي في فيض القدير: “ولأن ظلم السلطان يسري إلى جم غفير فإذا كفه فقد أوصل النفع إلى خلق كثير، بخلاف قتل كافر”.

وقال الزبيدي في الإتحاف: “ولما علم المتصلبون في الدين أي الأشداء فيه أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك الكلام إذا قتل لأجل كلامه فهو شهيد ويبعث في زمرة الشهداء عند الله يوم القيامة كما وردت به الأخبار التي تقدم ذكر بعضها، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين على أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى، محتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله تعالى، لا يبالون في الله لومة لائم، ولا يلتفتون إلى كثرتهم وتواطئهم، ولا يكترثون لممانعتهم ولمقاطعتهم، متكلين على من هو منشئهم وكافيهم، مستنصرين بمن هو قاصمهم وشانئهم”.

رابعا- وظائف “الجهاد بالكلمة”:

جعل الإسلام للجهاد بالكلمة وظائف عديدة تحقق بعض غايات الإسلام ومقاصده، ويسعى المجاهد لأدائها عبر كلمة الحق وجهاده بالكلمة، ومن تلك الوظائف:

– الدعوة إلى الله جل وعلا: قال جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر قال له: «على رِسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يُهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النَّعَم» متفق عليه.

 

– إقامة الحجة وإزالة الشبهة: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، وقال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

– تحريض المؤمنين على فعل الخير والجهاد في سبيل الله تعالى: والتحذير من التقاعس عن الجهاد، وبيان حال الأعداء وحكم الله فيهم وخطرهم على الدين، قال تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا).

– النصح للمسلمين: وإرشاد المجاهدين لسديد الرأي وتحذير الجيش من المخاطر وإبلاغ أخبار العدو لمن يستفيد منها، قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

– الدعاء واللجوء إلى الله تعالى والإكثار من الذكر: فإنما النصر من عند الله تعالى، والدعاء من أهم أسبابه، قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)، وقال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» رواه النسائي.

– البراءة من الأعداء وتخويفهم والفت في عضدهم: قال تعالى: (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وقال جل وعلا: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)، وقال عليه الصلاة والسلام: «لَصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة» رواه أحمد.

 

– هجاء الأعداء وإغاظتهم والانتقام منهم وشفاء صدور المؤمنين: قال تعالى: (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فأرشدت الآية إلى أن إغاظة الكفار والنيل منهم ولو صغرت تلك الإغاظة وذاك النيل، عمل صالح من أعمال المحسنين، فيدخل في ذلك ذكر مثالبهم والتشنيع عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: «اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشق بالنبل» رواه مسلم.

خامسا- وسائل وأساليب “الجهاد بالكلمة”:

للجهاد بالكلمة وسائل وأساليب كثيرة نص العلماء على بعضها، فنجد في السيرة النبوية التواصل الفردي والجماعي، والجهاد بالكلمة السري والجهري، والوعظ والخطابة والمحاجة والجدال، والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والاعتبار بالقصص وإنشاد الشعر واستثارة العقل بالسؤال والاستنكار والتقرير، وإلانة القول والزجر البليغ..، ويقاس على تلك الوسائل والأساليب في كل زمان ومكان ما يتوافق معها.

وهذه أمثلة لبعض وسائل الجهاد بالكلمة عند القتال ذكرها صاحب كتاب “المدينة النبوية في فجر الإسلام”، ننقلها باختصار يسير: “فمنها: الشعر الذي كان يؤدي وظائف إعلامية كثيرة كالإجابة عن هجاء المشركين وتعيير المشركين والدعوة إلى الإسلام وذكر خصائصه ومدح المسلمين، ومنها: الشعارات وصيحات القتال ك”أحد أحد” في غزوة بدر، و”يا منصور أمت” في غزوة بني المصطلق وهي من صور الجهاد باللسان التي اتخذها المسلمون لتحقيق عدة أهداف كالتعارف أثناء الالتحام بالأعداء أو في الظلام وإثارة انفعالات الشجاعة والحماسة في نفوسهم مع إخافة العدو وبث الرهبة في قلبه، ومنها: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومنها: التكبير عند الحرب، ومنها: الرجز في الحرب ليزيد في النشاط ويبعث الهمم، ومنها: البشارة بالنصر قبل عودة الجيوش..”.

سادسا- مراتب “الجهاد بالكلمة”:

يمكن تقسيم الجهاد بالكلمة باعتبار لينه وغلظته إلى أربع مراتب:

– المرتبة الأولى: مرتبة التعريف: وهي أول مرتبة في الدعوة للحق بالتعريف به وإبراز حججه، ويدخل فيها قوله تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، وهكذا كانت بداية دعوة الأنبياء لأقوامهم، قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

 

– المرتبة الثانية: مرتبة الوعظ: وفيها يكون تحريك النفس بموعود الجزاء ووعيده والترغيب بما عند الله والترهيب من عقابه، كما في قول شعيب عليه السلام لقومه: (وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)، وكما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ).

 

– المرتبة الثالثة: مرتبة التعنيف: عندما يتمادى العدو في عناده واستكباره ويستمر في ظلمه وعدوانه يكون الزجر والتعنيق والتوبيخ، وتقريعهم بما يليق بهم من طغيان أو فسوق أو إفساد أو جهالة أو ضلالة أو لعنة، فبعد أن بلغت الرسالة فرعون وأقيمت عليه الحجة ولم يتذكر أو يخشى بل اتهم موسى عليه السلام بأنه مسحور، عنفه موسى عليه السلام وقال له: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا).

وقال تعال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).

وقال صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش بمكة لما آذوه وهو يطوف بالكعبة قبل الهجرة: «تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح» رواه أحمد.

– المرتبة الرابعة: مرتبة الهجاء: عندما تشتد العداوة وتبلغ المواجهة مراتب متقدمة تكون الغلظة على العدو بالكلام وإغاظته عقوبة له وتنفيرا عنه وتحقيرا لشأنه، وهذا من الغلظة في الجهاد التي أمر بها القرآن الكريم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ): “أمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وأذهبَ الرفق عنهم” رواه الطبري في تفسيره، وقال صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «اهجهم وجبريل معك» متفق عليه.

وعندما جاء عروة بن مسعود يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ولم يتأدب بأدب الرُّسل وطعن في الصحابة أمامهم قائلا للرسول صلى الله عليه وسلم: “إني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك”، جاءه الرد المهين من أبي بكر الصديق رضي الله عنه قائلا: “امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه” رواه البخاري.

ويخرج حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يوم أحد لمبارزة سباع، فيقول له: “يا سباع، يا ابن أم أنمار، يا ابن مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله، ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب” رواه أحمد.

وقد شرع الإسلام اللعان في خلاف يحصل بين الزوج وزوجته ولكنه خلاف يتعلق بالعرض، فيدعو الرجل باللعنة على نفسه إن كان كاذبا وتدعو المرأة بنزول غضب الله عليها إن كان صادقا، مما يدل على أن عظيم الكلام يكون عند الأمر العظيم.

وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» فرد ابنه متأثرا بتغير الحال بعد زمن النبوة قائلا: “والله لنمنعهن” يقول الراوي: “فأقبل عليه عبد الله، فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن!” رواه مسلم، وقد ورد في بعض الروايات أنه لعنه، فهذا الإغلاظ من عبد الله بن عمر رضي الله عنه هو لقبح تلك المعارضة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في القرن الأول.

ورأى عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: «قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة» رواه مسلم، فهذا تقريع له؛ لأنه خالف السنة في شعيرة ظاهرة زمن الصحابة وانتشار العلم مما يدل على استهتار بطلبها.

– وهذه المرتبة هي من الحكمة في الدعوة؛ فالحكمة وضع الشيء في موضعه، فكما أن القتال بالسيف يمر بمراحل من الإنذار والمبارزة ثم يشتد القتال وتطير الرؤوس ثم يكون بعد النصر القتل أو المن أو الفداء أو الرق، فكذلك الجهاد بالكلمة تتنوع مراتبه بتنوع المراحل، فإذا حمي الوطيس قوبل سب الأعداء بما يشينهم أبد الدهر.

والهجاء مثل القتال بالسيف أهوال تصيب الأعداء، مع الانضباط بضوابط الشرع، فكما أن القتال بالسيف فيه قتل ولكن مع إحسان القتلة وعدم قتل الوليد والمرأة..، فكذلك الهجاء فيه تحقير للعدو وإهانته مع عدم الابتداء بسب للعدو يؤدي لسبهم الله جل وعلا، ومراعاة تحقيق مصلحة الإسلام ودفع المعرة عنه.

ومن تأمل كثيرا مما روي عن العلماء والصالحين والمجاهدين عبر التاريخ  من عبارات غليظة في حق المبتدعة والفساق والمنافقين والكفار وجدها من هذا الباب وفي مرتبة الهجاء التي ليست هي مرتبة التعريف والوعظ؛ فالرفق في مرتبة التعريف والوعظ والذي هو خير كله لا يتنافى مع ضرب الرقاب عند التقاء الصفوف ولا يتنافى مع الهجاء في مرتبة الردع والتأديب والغلظة والإغاظة، فهذا الضرب للرقاب والهجاء في موضعهما هو رفق كذلك بالبشرية وتخليص لها من إفساد المتمردين.

ولقد ترى بعض المتأثرين بمذاهب الحب والجمال ودعاوى الحوار مع الآخر، ينكرون العمل بتلك المرتبة -بل وينكرون العمل بالمرتبة السابقة مرتبة التعنيف التي عليها مئات أو آلاف الأدلة-؛ فتتعكر نفوسهم من ألفاظ الهجاء القوية التي يطلقها المجاهدون على الأعداء، دون اعتبار لأن هذا الهجاء هو في مقابلة إجرام المعاندين المستمرئين لقتال المسلمين أو أسر المؤمنين أو تعذيب الصالحين أو انتهاك حرمات الله أو التفنن في الكفر بشريعته..، فضلا عما يصاحب ذلك الإجرام عادة من إقذاع الأعداء المعاندين في سب المسلمين أو مجاهديهم أو علمائهم أو دينهم أو رسولهم صلى الله عليه وسلم.

* وختاما: أسأل الله أن يوفق عباده الصالحين للجهاد في سبيل الله حق جهاده؛ بالسنان والمال والكلام، فيا فوز من ضرب بسهم في كل باب من أبواب الخير.

والحمد لله رب العالمين.

بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى