معرفة الواقع والمتوقع شرط في الاجتهاد | كتابات فكرية | مجلة بلاغ – العدد الثامن عشر – ربيع الثاني 1442 هـ
الأستاذ: حسين أبو عمر
لا يحسن كتاب الطهارة..
لا يحسن رفع الحدث..
لا يحسن الوضوء..
لا يحسن الصلاة..
لا يتقن بابا من أبواب الفقه..
يستفتي في الحيض..
ومع ذلك يتكلم في العظائم والأمور العامة وفي النوازل، التي لو حدثت زمن عمر لجمع لها أهل بدر؛ هذه الألفاظ -وأكثر منها- نسمعها ونقرأها من الكثير من طلبة العلم؛ إذا رأوا شابا جاهلا في العلم الشرعي يتكلم في المسائل العامة.
لكن هؤلاء “الشرعيين” معظمهم وكذلك الحال بالنسبة لأمراء الجماعات يجتهد كل واحد منهم وبشكل منفرد، ويتكلم في أمر العامة، ويتصرف في أحداث لو حصلت زمن عمر لجمع لها أهل بدر حقيقة، ولو حصلت في أي دولة تحترم نفسها لجمعت لها مراكز دراسات (سياسية واقتصادية واجتماعية…) للنظر فيها.
فهل مصيبتنا تكمن في جرأة شاب مغمور جاهل على الكلام في النوازل، أم تكمن مصيبتنا في أن من يقود ومن يستلم دفة التوجيه عندنا هم أناس:
يوما يتقاتلون من أجل مصلحة الساحة!!
ويوما آخر يتحالفون كذلك من أجل مصلحة الساحة!!
ويوما يعلنون إمارات!!
ويوما يعلنون دولا!!
وواحد يتصور نفسه في حالة ظهور وعلو على الأتراك!!
وآخر يريد تقريب وجهات النظر التركية – السعودية!!
وآخر يريد تقريب وجهات النظر الأمريكية – التركية!!
وآخر يخاطب الإدارة الأمريكية: “فسحت الإدارة الأمريكية تحت بند “سياسة عدم التدخل” المجال لدولة الاحتلال الروسي”!!
وآخر وآخر..؛
يقول الشيخ ناصر العمر -فرج الله عنه- في رسالته المعنونة ب “فقه الواقع”: “وجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيسي من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحوة”.
فقه الواقع:
يقول الشيخ ناصر العمر في رسالته: “لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علما لا هوية له، وفنا يخضع للأهواء والأمزجة، وفقه الواقع له أصوله ومقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق”.
لكن كيف سيُحصل أصول هذا العلم من لم يكلف نفسه ربما بقراءة كتاب واحد في السياسة والعلاقات الدولية؟! من الطبيعي أن تجد كل هذا الجنون السياسي وكل هذه التقلبات عند من بضاعته في ذلك هي أوهام وأماني ورؤى وأحلام وأهواء..
إن معرفة الواقع والإلمام بالأحداث الجارية هي من الواجبات المتحتمة على من يتصدرون للشؤون العامة ولتوعية الأمة وقيادتها، والإحاطة بهذا العلم علما وفهما شرط من شروط الاجتهاد، ولا يتمكن الحاكم من الحكم بالحق إلا بتحقيقه؛ كما نص على ذلك الكثير من العلماء؛ قال ابن القيم -رحمه الله- في “إعلام الموقعين”: “ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن، والأمارات، والعلامات، حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر”.
وكذلك نص الشيخ الألباني -رحمه الله- على أنه يجب على من يتصدرون لقيادة وتوجيه الأمة أن يكونوا عالمين بالواقع؛ قال -رحمه الله-: “وأنا لا أخاِلفُ في صورَةِ هذا العلم الذي ابتَدعوا لهُ هذا الاسمَ، ألا وهو “فقه الواقع”؛ لأنَّ كثيراً مِن العُلَماءِ قـَد نَصُّوا على أنَّه يَنَبغي على مَن يَتَوَلونَ تَوجيهَ الأمَّةِ وَوضعَ الأجوبَةِ لِحَلِّ مشاكلهم: أن يَكونوا عالِمينَ، وعارفين، بِواقِعِهِم؛ لذلك كان مِن مَشهورِ كلماِتهِم: “الحُكمُ على الشيءِ فَرعٌ عَن تَصَوُّرهِ”، ولا يَتَحقَّق ذلك إلا بمَعرفَةِ (الواقِع) المُحيطِ بالمسألَةِ المُرادِ بَحثُها، وهذا مِن قَواعدِ الفُتيا بِخاصَّةٍ، وأصول ِالعلم ِبعامَّةٍ”. [فقه الواقع سؤال وجواب].
وهذا العلم -علم فقه الواقع- ليس جديدا مبتدعا في الأمة بل هو علم أصيل من علومها، وهو شرط من الشروط التي وضعها العلماء على المجتهد والمفتي؛ فتارة يطلقون للتعبير عنه لفظ “تحقيق المناط”، وتارة يطلقون لفظ “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، وتارة “فقه الواقع”. قال الشيخ ناصر العمر -فرج الله عنه-: “وفقه الواقع علم أصيل، تبنى عليه الكثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تتخذ المواقف المصيرية”.
استشراف المستقبل وتقدير المآلات:
ومن الأشياء الواجب توفرها فيمن يتصدرون للقيادة والتوجيه القدرة على الإبصار واستشراف المستقبل وتقدير مآلات الأفعال؛ يقول الشيخ سفر الحوالي -فرج الله عنه- في كتابه “المسلمون والحضارة الغربية”: “ومن أهم ما يحتاج المسلمون إليه من العلوم علم استشراف المستقبل”، ويقول في نفس الكتاب: “وهذا العلم اليوم من فروض الكفايات، ولا يصح لمن مكنه الله منه أن يشتغل بغيره”.
وللشيخ سلمان العودة -فرج الله عنه- مقالة نافعة في هذا الباب تحت عنوان “فقه العواقب”؛ يقول فيها: “الإحاطة بفقه العواقب أو ما يسميه الأصوليون (اعتبار المآلات) فقه جليل يحتاج إليه القاضي في أقضيته، والحاكم والمسؤول في قراراته، والمفتي في فتاواه…، وتحتاجه الجماعات والمؤسسات والدول التي تريد أن ترسم طريقها للمستقبل وأن تكون الشريعة هادية ومرشدة لمسيرتها”.
فهو نوع من دراسة المستقبل والموازنة بين ظاهر الحال والنص، وبين النتائج المترتِّبة على الفعل أو الترك..
وهذا العلم “علم فقه المآلات” هو أيضا علم أصيل من علوم الأمة، وقد نقل غير ما واحد من أهل العلم الإجماع على أنه من الواجبات على أهل الاجتهاد؛ قال الشاطبي -رحمه الله- في كتابه “الموافقات”: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل” إلى أن يقول: “وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة”.
ثم نقل -رحمه الله- الأدلة من القرآن والسنة وفعل الصحابة وتقريرات العلماء على وجوبه، ثم ينقل عن ابن العربي -رحمه الله- قوله: “اختلف الناس بزعمهم فيها، وهي متفق عليها بين العلماء؛ فافهموها وادخروها”.
فالنظر في العواقب والمآلات في الفتيا والحكم على الأفعال أمر متفق عليه بين العلماء كما ينقل الشاطبي -رحمه الله-، فكيف إذا كان يتعلق بهذا الأمر الاجتهادي مصير جهاد وأمة؟!
ولكن، كيف يستطيع استشراف المستقبل وتقدير المآل من لا يفهم الحاضر أصلا؟!
يقول حسين مؤنس في كتاب “الحضارة”: “وعلى أساس فهم الحاضر وسياساته واتجاهاته يمكن تصور المستقبل وحسابه وتوقعاته”.
فهذا هو ديننا، وهذا هو منهج الدول والمنظمات التي تحترم نفسها.. أما أن يجتهد الأمير أو الشرعي -وهذا هو واقع الجماعات- في الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية… وهو جاهل بها كلها -والواقع أصدق شاهد على ذلك- فهذا شأن الدول والجماعات المتخلفة عن شريعة الله وعن الوعي وعن ركب الحضارة، والأمة ما زالت تحصد النتائج القاسية لتصدر واجتهادات هؤلاء. ولا يمكن أن تنهض أمة بهكذا أناس؛ لأن وجود الصفوة العالمة الواعية العاملة شرط من شروط نهوض الأمم؛ كما قرر ذلك غير واحد من فلاسفة التاريخ.
* من كان جاهلا بالحال وبالمآل، بالواقع وبالمتوقع فليس من أهل الاجتهاد، وحقه الحجر عليه عن الكلام في أمر العامة، وعن التصرف في شؤون العامة، وإن تجرأ على شيء من ذلك، فهو من الرؤوس الجهال، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)) متفق عليه.
وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))؛ قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: “قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده”.