كيف نواجه الأزمات في تربية الأبناء – مجلة بلاغ العدد ٦٧ – جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
الآنسة: خنساء عثمان
إن أكثر ما يشغل الأم الواعية المدركة عظم مسؤوليتها أمام الله في إنشاء جيلٍ يرضى الله عنه ويؤيده وينصر به الإسلام في الدنيا ويباهي به النبي صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة.
هذه الأم تبذل جهدها في تحقيق هذا الهدف والله عز وجل الذي برحمته وفضله لا يضيع أجر من أحسن عملا، يؤيدها بالعون والتوفيق ويحقق لها أملها بالذرية الصالحة، وهذا من فضله وتوفيقه طبعا فمِن المربي الأخذ بالأسباب ومن الله تحقيق النتائج، حتى مع وجود بعض الثغرات في التدبير والجهد البشري فرحمة الله واسعة.
وكم رأينا من أمٍ عاشت لله وكانت ضياءً يستنير به الجيل مصنعًا ينتج الرجال، ولا يعني ذلك أن لا تلاقي هذه الأم مصاعب في التربية، بل إن من أصعب المهمات خاصةً في زمننا مهمة تربية الأبناء تربيةً إسلاميةً صحيحةً لندرة المحاضن التربوية المتجردة لله.
فنرى التباهي حتى في حفظ القرآن الذي لا يقبله الله من العبد إلا بالإخلاص التام له بل بلغ من خطورة التباهي بحفظه أن يكون سببًا لصاحبه بأن تسعر به النار!!!! فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره عن الثلاثة الذين تسعر بهم النار منهم «..ورجلٌ تعلَّمَ العِلْمَ وعلَّمَهُ ، وقَرَأَ القُرآنَ ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعمَهُ ، فعَرَفَها ، قال : فما عمِلْتَ فيها ؟ قال : تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتُهُ ، وقَرَأْتُ فِيكَ القُرآنَ ، قال : كذبْتَ، ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ عالِمٌ ، وقرأْتَ القُرآنَ لِيُقالَ : هو قارِئٌ فقدْ قِيلَ ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ..».
فتجاوزي أختي هذه الصعوبة بزرع الإخلاص في قلب أبنائك وزرع حب الله في صدورهم ثم الخوف منه، وأن يكون التنافس في النجاح والتفوق لله ولطلب رضاه وليس تنافسًا مع أقرانه ليكون هو الأفضل فقط.
وكوني خير قدوةٍ لهم بذلك عندما يرونك تحبين الخير والنجاح لأبناء المسلمين أيضًا وتتركين العادة السيئة التي انتشرت اليوم بين الأقرباء والأقران وخاصةً في الدراسة فنرى اهتمام الأهل كله بالبحث عن إجابةٍ على سؤال: كيف أجعل ابني متفوقاً دراسياً!!! ليحقق ابنهم ذلك بأي وسيلةٍ كانت كي لا يكون ابن فلانةٍ أشطر من ابنهم!
هذا الأمر وغيره من المواقف التي تجبر الطفل على منافسة أحدهم تعذر اكتساب الطفل لصفات سيئة أولها حب نفسه أكثر من الآخرين وتمني فشل الآخرين كي ينجح فيربط فشل الآخرين بنجاحه والعكس، بل علمي أولادك القناعة والرضى بما كتبه الله لهم لتتجاوزي هذا المطب الخطير في التربية.
وهناك صعوباتٌ أيضًا في طريقة تعويد الأبناء على الالتزام بالعبادات وترك المحرمات، وهذه حلها بأن تكون تربية الطفل من الأساس على حب الله بطريقةٍ صحيحةٍ لامتناع الطفل عن ما يحرمه الدين من تلقاء نفسه.
وقد أبدع الشيخ عبد الله علوان رحمه الله في كتابه ((تربية الأولاد في الإسلام)) في الحديث عن كل ما يحتاجه المربي فتدارسيه مع أخواتك في الله به لعل الله أن يجعلك سبباً في رفد الأمة بأبناء يرفعون شأنها، فمنك العمل ومن الله التوفيق.
ولكن!!!!!!
قد لا يثمر الجهد في التربية وتحدث مفاجآتٌ لم تكن تتوقعها ولا غرو في ذلك، فقد روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ مَثَلَ ما آتاني اللهُ مِن الهدى والعِلْمِ كمثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ قبِلت ذلك فأنبتَتِ الكلأَ والعُشبَ الكثيرَ وأمسَكتِ الماءَ فنفَع اللهُ بها النَّاسَ فشرِبوا منها وسَقوا وزرَعوا وأصاب منها طائفةً أخرى إنَّما هي قيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأً فذلك مَثَلُ مَن فقُه في دينِ اللهِ ونفَعه ما بعَثني اللهُ به فعلِم وعمِل، ومثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا ولم يقبَلْ هدى اللهِ الَّذي أُرسِلْتُ به» صحيح ابن حبان، فالغيث واحدٌ والأرض مختلفةٌ والهداية رزقٌ من الله.
وقد تكون الأسباب أخطاءَ غيرَ مقصودةٍ من الأم أو ممن حولها، خاصةً في زمننا هذا الذي ندر فيه نشر العلم النافع والتوعية الهادفة.
وقد يكون السبب هو بطش الحكومات بالأسر المسلمة واعتقال الآباء والإخوة الكبار في العائلة فتهز رياح الابتلاء أركان العائلة المسلمة بأزماتٍ لا يعلم مداها إلا الله ويختل التوازن الذي قد يؤثر على بعض الأبناء في أمراضَ نفسيةٍ قد لا تكتشفها الأم إلا بعد أن تكون قد حفرت أخدودًا عميقًا يصعب علاجه ويطول زمن شفائه، خاصةً إذا كان تغيراً في التربية ونفورًا من التدين والتزام الأوامر الشرعية وهذا عند الأم المسلمة أكبر مصيبة.
وقد لا يكون هذا هو السبب لكن في كل الأحوال فالابتلاء قد حصل للأم بهذا الولد، فلتستعن بالله وتحاول قدر استطاعتها الخروج من هذه الأزمة بالاستشارات وغيرها بالمعالجة بين القوة واللين والحزم والشد والجذب، قال ابن الجوزي رحمه الله: “واعلم زمن الابتلاء ضيف قراه الصبر وعلل الناقه بالحدو تسر”.
واعلمي أن الإنسان قد يُبتلى أحيانًا بأبنائه ليعظم أجره ويكثر جهاده، وعزاؤه أنه حتى من أنبياء الله من ابتلوا في بيوتهم كنوح عليه السلام الذي ابتلي في ابنه وزوجته فقد لبث يدعو 95 سنة ولم يؤمن أهله، ولما جاء الطوفان قال نوح لابنه: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، لكن الابن أبى وغرق مع من اختار أن يكون معهم ولم يكن مع والده الرفيق الرحيم.
فلستِ وحدك على طريق البلاء، والصبر على تعنت الأبناء من أعظم الأعمال الصالحة أجراً وثواباً، وجاءت النصوص ببيان أن الصابرين يحصلون على الأجور العظيمة، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ * أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ} [البقرة:157-155]، وقال تعالى: {إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَیۡرِ حِسَابࣲ} [الزُّمَرِ:10]
والنصوص في بيان فضيلة الصبر وعظم الأجر به كثيرةٌ متعددةٌ خصوصاً الصبر على من حصل منه إيذاء؛ قال تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ} [الشورى:43] وقال تعالى: {وَاصبِر وَما صَبرُكَ إِلّا بِاللَّهِ وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَلا تَكُ في ضَيقٍ مِمّا يَمكُرونَ} [النحل:127].
إنّ صبركِ من أعظم الأعمال الصالحة التي تؤجرين عليها وليكن صبرك رغبةً في الأجر والثواب الأخروي تريدين بذلك ما عند الله ومن ثم فلا تدعي عليه ولا تذكريه بسوء بل قومي بالدعاء له وكف لسانك عن ذكره في مجالسك سواء العامة والخاصة ولا تحزني وتضيق نفسك عندما تصلين لمرحلةٍ لا تستطيعين فيها أن تنهي عن المنكر لشدة عناده واستحالة استجابته فأنت بذلك لست كما تظنين شيطانًا أخرس وإنّما تدفعين البلاء العظيم ببلاءٍ أخف منه ولو لم يكن في الصبر إلّا أن المشكلة لا تكبر ولا تتضاعف فإنّ في ذلك خيراً عظيماً عدا عن أجور الصبر وحسناته.
المهم أن لا تيأسي وكم من أبناء ندموا إما في حياة آبائهم أو بعد موتهم لكن المهم أنهم صححوا مسارهم وعادوا لأصل تربيتهم الإسلامية الصحيحة وما ذلك على الله بعزيز.
فالصبر الصبر فهو زاد الطريق إلى الله عزّ وجلّ ودخول جنته التي هي نهاية المطاف للمؤمن، وهناك تزول الآلام ويذهب الظمأ وتبتل العروق بنعيم الله والله المستعان في جميع الأمور.
أسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلًا، وأن يقصم أعداء الإسلام من أهل الكتاب والمشركين الذين جعلوا أبناءنا هدفاً لإضلالهم ويجعل كيدهم في نحورهم وأن يجعلنا من عباده الذين قال عنهم: {وَالَّذينَ يَقولونَ رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ وَاجعَلنا لِلمُتَّقينَ إِمامًا} [الفرقان:74] إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.