فاجعة الأسر – الركن الدعوي -مجلة بلاغ العدد ٤٣
مجلة بلاغ العدد ٤٣ - جمادى الأولى ١٤٤٤ هـDecember 02, 2022
جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
* قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
* بمثل هذه الآية يتجلَّد المسلمون من الأسرى والمحبوسين في سجون الكافرين وأشياعهم، كما ويتصبّر بها أهلوهم وذووهم، ولكل منهم [أسوة وقدوة]، فالمأسورون أسوتهم النبي الكريم يوسف سجين البغي والعدوان، والأهلون قدوتهم صاحب الصبر الجميل، يعقوب، عليهما السلام.
* إنَّ فاجعة الأَسْر شيء لا بدَّ منه في كثير من ملاحم المسلمين مع الكافرين، وهو من جملة ما يمحِّص الله -تعالى- به عباده المجاهدين، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، والإثبات هو الحبس والأسر، وهو أشد المصائب على النفوس الأبيَّة، التي لا تقبل ضيماً ولا ذلة، بخلاف طرفي الأمر في جهاد الأعداء: النصر أو الشهادة، فهما حُسنيان، كما قال الله -تعالى-: ((قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)) [التوبة: 52].
* إنّ الأسر إذا حاق بمسلم وجب على المسلمين السعي إلى تخليصه بكل سبيل شرعي، وشأنٌ كهذا أوضح من أن يحتاج إلى فتوى شرعية، أو يتوقف على دراسة فقهيَّة، ولكن، لا بأس من التأكيد على هذه المسؤولية العظيمة، حتى ينهض جميع المسلمين بأعبائها، ويقدروها حق قدرها.
* عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فكوا العاني –يعني: الأسير-، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض» رواه البخاري.
* وفي الصحيح -أيضاً- عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال: “لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة”. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: «العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر».
* وإنّ في السيرة العملية لعبراً تؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فك الأسارى، ومن ذلك القيام بالفداء، فعن عمران بن حصين-رضي الله عنه- «أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فدى رجلاً برجلين».
وكان من ديدنه -عليه الصلاة والسلام- نصرة الأسرى بسهام الدعاء التي لا تخطئ أبداً، كما في الصحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف».
* قال ابن العربي المالكي -في أحكام القرآن-: “إلا أن يكونوا أسارى مستضعفين: فإنّ الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم، إن كان عدوانا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعدة والعدد، والقوة والجلد” اهـ.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى: “فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات”.
* مواقف السلف مع الأسير:
كتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى بعض عماله: “أن فادِ بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع مالهم”.
وسمع الحكم بن هشام أمير الأندلس أن امرأة مسلمة أُخذت سبية فنادت: “واغوثاه يا حكم”، فعظم الأمر عليه وجمع عسكره واستعد وحشد وسار إلى بلاد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة، وأثخن في بلادهم، وافتتح عدة حصون، وخرّب البلاد ونهبها، وقتل الرجال وسبى الحريم، وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة حتى خلصها من الأسر ثم عاد إلى قرطبة ظافرًا.
أما المنصور بن أبي عامر فهو -كما قال الذهبي-: “البطل الشجاع الغزاء العالم، جم المحاسن، كثير الفتوحات، ملأ الأندلس سبيًا وغنائم، وأكثر من غزو النصارى حتى اجتمع له من غبار المعارك التي خاضها ما عملت منه لبنة وألحدت على خده، أو ذر ذلك على كفنه” سير أعلام النبلاء.
هذا البطل المغوار ساق له الذهبي موقفًا رائعًا في فك أسرى المسلمين فقال: “ومن مفاخر المنصور أنه قدم من غزوة فتعرضت له امرأة عند القصر، فقالت: يا منصور: يفرح الناس وأبكي؟! إن ابني أسير في بلاد الروم، فثنّى عنانه وأمر الناس بغزو الجهة التي فيها ابنها”.
* والوسائل المعينة على فكاك الأسرى كثيرة، يجب منها ما لا يتم الواجب إلا به، ومن ذلك على وجه التمثيل لا الحَصر:
أولاً: الدعاء في الصلوات والخلوات وفي كل وقت يتأكد فيه استجابة الدعاء، وهذا أقلّ الواجب.
ثانياً: بذل المال في سبيل تحريرهم من أسرهم، وبهذا تواردت النصوص وعليه كلمة العلماء قاطبة.
ثالثاً: القتال والجهاد في سبيل الله حتى تخليصهم من سجنهم وكسر قيدهم لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: «فكوا العاني».
رابعاً: المداومة على ذكر قضيتهم والتذكير بهم على المنابر وفي كل وسائل التواصل الاجتماعي وفي جميع المحافل.
خامساً: تبديلهم بما عند المسلمين من الأسرى.
* اللهم فكّ قيد أسرانا وأسرى المسلمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.