صريع الظلم – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٦٢ – ذو الحجة ١٤٤٥ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

كان الغرور يملأ إهابه وقد زين له عُجبه بنفسه أن لا ثاني له في الذكاء والدهاء والمكر وما شح بن الزمان على غيره جاد به عليه مدراراً، هكذا كان يحدث نفسه.

لقد أمضى في عمله ثلاث سنوات تمكن خلالها من الحصول على الكثير من الترقيات وهو الآن مسؤولٌ أمنيٌ يحسب له ألف حساب ولا يجرؤ أحد على الاعتراض عليه وإلا اختفى فجأة وأُرسل إلى المكان المجهول في أعماق الظلمات حيث لا رحمة ولا شفقة ولا يسأل الجاني عمّا فُعل في الضحية.

هو لا يعلم على وجه التحديد كم حرمةً انتهكَ وكم حقًا شرعيًا تعداه وكم مبدأً أخلاقيًا وطئه بقدمه حتى وصل إلى ما وصل إليه من المناصب.

كان الغرور يعميه عن النظر في خطورة الطريق الذي يسلكه وانسحاق شخصيته يمنعه من التفكير في سوء الأمور التي ينفذها أو الأهداف التي يبتدع طرائق إجرامية للوصول إليها.

كان منتفخًا منتفشًا لأنه لا يُسأل عما اقترف فمباحٌ له اقتحام البيوت وهتك حرماتها وضرب الناس والتلذذ بتعذيبهم والتفنن في شتمهم والتعدي على أولي الفضل والقدر والاستهانة بأصحاب المنازل الجليلة والمكونات الرفيعة، ثمة أمر واحد محرمٌ عليه جدًا والاقتراب منه خطرٌ وهو الاعتراض على أوامر المعلم أو التفكير في ذلك أو التقصير في تنفيذها، أو إبداء رأي فيها.

كان يستمتع جدًا وهو يداهم المنازل ويخطف المتهم ثم يسوقه بعنفٍ إلى السيارة إلى المكان المجهول وهناك تتضاعف متعته وهو يجلسه أرضًا مقيد اليدين معصوب العينين ثم يبدأ معه التحقيق فتارة يلكمه وأخرى يركله وثالثة يصفعه ورابعة يصعقه بالكهرباء، فإذا ملَّ من التعذيب المباشر أمر به فشُبح، كان يستلذ كثيرًا وهو يسمع المعذبين يتوسلون إليه أن يكف عن تعذيبهم أو يرجونه أن يخفف عنهم شيئًا من العذاب، أسكره الكبر حتى بات يظن نفسه يملك مصائر هؤلاء البؤساء فكلمة منه تريحهم وأخرى تشقيهم ومع كل هذا فقد كان يفر من الخلوة بنفسه أو الانفراد بها، ثمة شعور قوي يغلب عليه عندما يكون وحيدًا، أنه حقيرٌ وضيعٌ تافهٌ لا يستطيع النظر في المرأة حينها لأن دافعًا قويًا داخله يهم بالبصق على صورته أو التقيؤ عند مشاهدة مرآه.

ذات يوم كان يحقق مع شخص قد انتقد المعلم وعاب عليه بعض أفعاله المخالفة للشرع، فسيق إلى المكان المجهول لتبدأ سلسلة الإهانات والتعذيب والتعدي، وكان المحقق كعادته ينتظر من المعذَب الاستغاثة وطلب العفو والصفح والتجاوز عن الزلل الذي وقع فيه ولكنه صُدم عندما رأى ثباتًا وشموخًا وإصراراً على الموقف.

طاش صوابه فهو لم يعتد أن يجد أي معارضة له أو تصيد لغروره فانهال على الرجل بضربٍ وحشيٍ بكل قوته وحتى كاد يتلف.

لقد أشعره هذا الرجل بضآلته وقلة قيمته، لقد بين له أنه تافهٌ لا يعيش لمبدأ ولا قضية لديه يضحي من أجلها، شعر بغيرة كبيرة من هذا الرجل أراد أن يحطمه ويكسر إرادته فسلط عليه أنواع العذاب، ولكنه كان في كل مرة يرجع جارًا أذيال الخيبة والخسران بثبات الرجل كأنه جبلٌ راسخٌ يأبى التزحزح قيد شعرة، كان أشد ما يغضبه استعلاء الرجل وترفعه وإيمانه بأنه يضحي لأجل الحق الذي يعتقده، هو يريد أن يهزمه ولكنه لا يقدر، لقد يئس أن تجدي شدة التعذيب شيئًا، كان أحيانًا يهم أن يجثو على ركبتيه ويرجوه أن يتراجع عن موقفه قليلاً ليسترد كبريائه التي سدد إليها الرجل بثباته طعنةً قاتلةً، قال له ذات يوم بإحدى جلسات التحقيق: “إنك تناضل عن باطلٍ وتدافع عن ظالمٍ ولن يمر طويلُ وقتٍ حتى تكون أحد ضحاياه فيُسلط عليك ويسقيك من أكياس الزعاف التي تسقي منها الناس اليوم الجراح التي فتحتها سياطك في أجساد المعذبين، هي ثغور تجأر إلى بارئها بالدعاء عليك وكأن قد استجيب لها فحل بك ما تحله اليوم بهم”.

اخرس أتهددني أيها السافل وقام إليه يضربه بيديه ورجليه ويسبه بأقذع الشتائم، ازرع ازرع يا هذا فلسوف تحصد قريبًا نتاج ما زرعت، اخرس اخرس لا أريد سماع صوتك أبداً اغرب عن وجهي، لا أريد أن أراك ثانية، سوف أعدمك وأرمي جثتك للكلاب، كان يريد الانتهاء من هذه القضية بسرعة فقد أحالت حياته إلى جحيم وبصرته بمخازيه التي حرص طوال المدة الفائتة على نسيانها وتجاهلها، هو يريد أن يستعيد الحياة التي كان يعيشها، حيث ينتشي بأوهام السيطرة والقدرة وخوف الناس منه وخضوع المعذبين له، وتعاليه على من دونه، مضت شهور والأمني سادر في غيه لا يرعوي لنصح، ولا يرتدع عن ظلم، لا يبالي بجرائهم لأنه غير محاسب عليها.

وفي إحدى الليالي دُعي إلى اجتماع طارئٍ فذهب مبادرًا يريد أن يستعرض منجزاته ويفخر بجرائمه ويباهي بقسوته وشدته.

ولما دخل فُوجئ بمن يقبض عليه ثم يجرده من أماناته ويقيد يديه ويعصب عينيه، حاول الاعتراض وأبدى مقاومةً وصرخ كثيراً: “أنا الأمني كيف تجرؤون سوف تدفعون الثمن غاليًا”، وقطع صراخه صفعاتٌ على وجهه وضرباتٌ على رأسه طالما وجه مثلها سابقًا مشابهة لضحاياه في ظروف مشابة، وقيل له: “اخرس” فخرس ثم سيق إلى المكان المجهول الذي يعرفه جيداً ومع أنه كان معصوب العينين إلا أنه لم يتعثر أبداً فهو يحفظ المكان شبراً شبراً، رمي في بيت خاص يسمونه منفردة هي ذات المكان الذي رمى سابقًا كثيرًا من ضحاياه كان يفكر لابد من وجود خطأ ما، حتمًا سيكتشف غدًا وحينها سأخرج ويعتذرون إليّ، ظللت سنين طوالاً مخلصاً للمعلم وقدمت كل شيء لأجله عاديت القريب والبعيد لأجله، هو بالتأكيد سيوبخ من أساء إلي، ويعاقبهم لن ينسى تضحياتي في سبيله، ولن يكفر معروفي عنده.

في الصباح سمع صوت قفل الزنزانة يُفتح فهب واقفاً ينتظر أن يُكرم ويرد عليه اعتباره، ولكن سرعان ما زال وهمه، عندما سمع من يأمره بلهجة قاسية أن يضع العصابة على عينيه ويديه ليقيد، أُخذ إلى غرفة التحقيق وهناك دُهش وهو يسمع التهمة التي وُجهت إليه “التآمر على المعلم”.

صرخ: “ما هذا الهراء أنا روحي فدا المعلم لقد فعلت من أجله وفعلت وعاديت أقرب الناس إليّ في سبيله، وقمعت كل من حاول النيل منه ولو بكلمة ثم توجه لي هذه التهمة”.

اخرس لست مستعدًا لسماع استعراضك البهلواني أنت هنا لتعترف بتفاصيل الجريمة التي ثبتت لدينا، والآن نريد معرفة من هم شركاؤك وماهي تفاصيل الخطة يُفضل أن تتكلم بإرادتك التامة حتى لا نضطر إلى اللجوء إلى الأساليب التي تعرفها جيداً.

القصة كلها كذب أقسم لكم أنها كذب، أنا أشد الناس إخلاصاً للمعلم ولم يخطر على بالي يوماً شيء كهذا، أنا بريء أنا مظلوم، خذوه فيبدو أنه لا يريد أن يعترف بالتي هي أحسن.

انهالت عليه السياط من كل جانب ثم شُبح تماماً كما كان يفعل سابقاً لضحاياه، وبعد الفراغ من الجولة الأولى من التعذيب أُعيد إلى زنزانته وأخذت صور ضحاياه ومشاهدهم تتوارد عليه خُيل إليه أن عدداً من ضحاياه يقفون أمامه ودماؤهم تسيل وهم يريدون الثأر منه.

صرخ كالمجنون وأخذ يطرق الباب بشدة ويستغيث فلما فتح السجان الباب قال: أخرجني بسرعة إنهم يريدون قتلي، أرجوك أنقذني منهم.

تريد أن تظهر الجنون لتنجو دواؤك عندي، أعرف أمثالك كثيرين أيها المجرم، إنهال السجان عليه ضربًا ثم أغلق الباب عليه، محذراً إياه من العودة إلى تكرار هذا الفعل ثانية، وما إن أُغلق باب الزنزانة حتى عاد إلى مرآه طائفة أخرى من الضحايا ينظرون إليه بحدة ويتقدمون نحوه ببطء شديد، حاول أن يقنع نفسه أن ما يراه وهماً وأن هؤلاء لا وجود لهم إلا في خياله، أغمض عينيه وفتحها مراراً إلا أنهم لا يزالون يتقدمون نحوه هرع نحو الباب وطرقه بعنفٍ شديدٍ وفي الحال اختفت صورهم ليظهر الجلاد ثانية ويصبغ جلده بألوان جديدة من العذاب، أغلق باب الزنزانة مجدداً، ومرت بضع دقائق قبل أن يظهر الرجل الذي ذاق على يدي الأمني الويلات كان يبتسم بسخرية ويقول له: ألم أحذرك!! ألم أخبرك أن هذا المصير ينتظرك، ولكنك أصممت أذنيك وركبت رأسك فذق ما جنيت يداك، لا، لا أنت وهمٌ أنت لست موجوداً، كيف أنت تراني أمامك الآن لا يمكنك أن تتجاهلني، انظر إلى دمائي التي تسيل بسبب وحشيتك وإجرامك سأقتص منك الآن، لا، لا، انصرف أرجوك أنت خيال أنت لست أنت لا لا، ابتعد، ابتعد، أنقذوني، وهذه المرة اجتمع عليه عدد من السجانين يضربونه بالعصي والركلات ثم حُمل حملاً وأُلقي في الزنزانة، لم يعد قادراً على التحرك، كل موضعٍ في جسده يؤلمه خاصرته كأنما قطعت بالسكاكين، ظهر له مجدداً عدد من ضحاياه ولكن هذه المرة لم يبدي أي اعتراض، ولم يقو على فعل شيء، أغمض عينيه ولم يفتحها بعد ذلك أبدًا.

في الصباح وجدوه ميتاً في زنزانته فحملت جثته ورميت في إحدى الحفر التي كان يرمي ضحاياه في مثلها وأُهيل فوق رأسه التراب وكتب على القبر مجهول الهوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى