سير أعلام شهداء الثورة السورية سيرة الطبيب المجاهد أبو مصعب الحكيم.
جمع وترتيب الشيخ: أبو الوليد الحنفي.
اهداء:
- إلـى المجاهديـن مـن درعـا -مهاجريـن وأنصـار- الذيـن لـم يقبلـوا بتسـويات الـذل والعـار ،ورفضـوا التصالـح مـع النظـام النصيـري المجـرم الـذي دنـس المقدسـات وانتهـك الحرمـات وسـفك الدمـاء وهـدم البيـوت فـوق رؤوس سـاكنيها.
- إلــى المجاهديــن مــن درعــا -مهاجريــن وأنصــار- الذيــن رضــوا أن يفارقــوا ديارهــم ويغــادروا ملاعــب صباهــم ويفــروا بدينهــم؛ ليتابعــوا مســيرة جهادهــم نصــرة لديــن لله وللمســتضعفين.
- إلـى المجاهديـن مـن درعـا -مهاجريـن وأنصـار- الذيـن لـم يعطـوا الدنيـة في دينهـم ،ولـم تغرهـم وعـود المحتـل الروسـي الكافـر، ولـم يسـتبدلوا الـذي هـو أدنـى بالـذي هـو خيـر، بـل اختـاروا درب الجهـاد والمصابـرة درب الأنبيـاء والصديقيـن.
وأقـول لهـم: لـن يطـول ليـل الظالميـن، ولنـا كـرة بـإذن الله، وسـنعود بمشـيئة الله إلـى ديارنـا فاتحيـن، ويومئـذ يفـرح المؤمنيـن بنصـر الله.
مقدمة
الحمــد لله القــوي المتيــن، العزيــز الحكيــم، جامــع النــاس ليــوم لا ريــب فيــه، والصــلاة والســلام على نبيــه المصطفــى ورســوله المجتبــى، وعلى آلــه وصحبــه أعــلام الهــدى وأئمـة التقـى أصحـاب المراتـب العلـى، وعلى مـن سـلك سـبيلهم واتبـع خطاهـم واسـتنار بنورهــم.. وبعــد؛
فهـذه سـيرة: المجاهـد، المهاجـر، الطبيـب، البطـل، الشـجاع، الجـواد، الزاهـد في الدنيـا ،الراغــب فيمــا عنــد الله، صاحــب الخلــق الرفيــع والأدب البديــع، الصــوام القــوام، التالــي لكتــاب الله، الحريــص على تعليــم إخوانــه؛ أبــو مصعــب الحكيــم الأردنــي.
وقد اعتمدت في تدوين سيرته على شهادته أقربائه وإخوانه والعاملين معه، وهم:
- أخوه أبو ياسر.
- أخوه لأبيه أبو إياد، ونقل لي شهادته مكتوبة الأخ أبو دجانة المعاني.
- الأستاذ عبد الله البزايعة، ونقل لي شهادته مكتوبة الأخ أبو دجانة المعاني.
- الطبيــب أبــو حســين الشــامي، وهــو نائــب الحكيــم ســابقا ومديــر مستشــفى عيســى عجــاج في طريــق الســد، وكان يعمــل فيهــا الحكيــم.
- زوجتــه الســورية، وقــد وصلتنــي شــهادتها مكتوبــة عــن طريــق أبــي دجانــة الســني ،نقـلا عـن زوجتـه عنهـا.
- الأخ أبو طارق الحوراني.
- الأخ أبو محمد الحوراني.
- الأخ أبو عبيدة المهاجر.
- الأخ أبو نصوح الشامي.
- الأخ أبو عبد الله المخبري.
- الأخ أبو حمزة الغوطة.
- الأخ أبو مالك درعا.
- الأخ أبو عدي درعا.
- الأخ أبو دجانة السني.
- الأخ أبو دجانة المعاني.
- الأخ أبو هيثم الشامي.
- الأخ أبو جعفر طرقات.
- الأخ أبو العز معربة.
- الشيخ أبو أحمد أخلاق.
- الأخ أبو خليل معربة.
- الأخ أبو خالد مسلم.
- الأخ أبو النصر درعا.
- الأخ أبو أسامة الجولاني.
- الأخ أبو أسامة الشامي.
- الأخ أبو عبادة الشامي.
- الأخ أبو قدامة المعاني.
- الأخ أبو رغد الباشق.
- الأخ عمر الدمشقي.
- الأخ أبو جعفر الطيار.
- الأخ أبو البراء الأردني وقد نقل لي شهادته مكتوبة الأخ أبو سليمان معربةأبو مصعب الحكيم )صلاح عبد الرحيم عناني(مولده ونشأته ودراسته:
ولــد أبــو مصعــب الحكيــم )صــلاح عبــد الرحيــم عبــد العزيـز عنانـي( في مدينـة معـان في الأردن في تاريخ 11/6/1968م وكان مواظبـا على صلاتـه منذ أن كان في الروضـة، ودرس في الأردن، وفي سـنة 1975م ذهـب مع والـده إلـى الإمـارات، ونـال شـهادة البكالوريـا هنـاك.
وفي ســنة 1989م نــال الحــزام الأســود في الكاراتيــه في الإمــارات.
سـافر إلـى الفلبيـن فـدرس فيهـا الطـب البشـري وعاد إلـى الأردن عـام 1997 بعـد دراسـة ثماني سـنوات.
تخصـص في التخديــر عــام 2004 ثـم أصبــح أخصائــي تخديـر.
في الأردن:
كان أبـو مصعـب مـن أهـل الخيـر يشـارك في أعمـال البـر، فعندمـا كان يعمـل في المشـفى كان يمضـي وقتـا طويـل في رعايـة العجائـز اللواتـي يأتيـن بـدون مرافـق، فـكان يتولـى متابعـة أمورهـن بتسـيير الأوراق والذهـاب إلـى الصيدليـة وغيـر ذلـك، حتـى إن بعـض كبـار السـن لمـا علمـوا أنـه خـرج إلـى سـوريا غضبـوا، وقالــوا: كيـف خـرج؟ هـذا يجـب أن يبقـى لمعان.
كمــا كان يســهم في مشــروع إفطــار صائــم في رمضــان، وهــو مــا يعــرف بســبيل معــان ،وهــو مشــروع يطعــم آلاف المســلمين وعابــري الطريــق وســائقي الشــاحنات.
يقـول صيدلـي مشـفى معـان الحكومـي: إن أقـل شـهر كان يخصـم على الحكيـم 400 دينـار كان يدفعهـا لمـن لا يملـك ثمـن الـدواء.
وقـال: إن الحكيـم لـه عـادة لـم يغيرهـا، وهـي أن أي مـال يأتيـه يجعلـه أثلاثـا؛ ثلثـا لأهـل البيـت، وثلثـا للأقـارب، وثلثـا لله.
كمـا أسـس جمعيـة العفـاف وهـي جمعيـة لتزويـج الشـباب الفقـراء فـكان يجمـع مـن أهلالخيـر التبرعـات ويضـع فيهـا أكثـر مـن نصـف راتبـه، واسـتمر على ذلـك أكثـر مـن عشـرسـنوات )كان مسـؤولا لقسـم التخديـر في إحـدى المستشـفيات وراتبـه ألـف وخمسـمائة دينــار أردنــي( وكان والــده يظــن أن راتبــه ســبعمائة دينــار فقــط، حتــى رأى مــرة كشــفا لراتبـه فوجـد أنـه ألـف وخمسـمائة، فقـال لـه: أيـن تذهـب بالباقـي؟ كنـت أظـن أن راتبـك سـبعمائة وهـو الـذي تضعـه في يـدي؟ فقـال: بـالله عليـك لا تسـلني، فألـح والـده وشـدد عليـه، فأخبـره أنـه يضعـه في جمعيـة العفـاف، وقـال: راتبـي كلـه يذهـب إلا مـا أنفقـه في سـبيل الله فهـو الـذي يبقـى.
كما تبرع بسيارة فان لإحدى دور القرآن في معان.
وقام بتدريس أخيه أبي إياد في كلية التمريض في معان على حسابه.
وكانت زوجة أبيه ــ أم أبي إياد ــ تحبه أكثر من أولادها.
وكان الحكيم حريصا على إخفاء أعماله حرصا على كمال الإخلاص لله.
كمــا كان يصــدع بالحــق في الأردن ويقــف مــع المشــايخ في مطالبتهــم بإطــلاق ســراح المظلوميــن مــن أقبيــة المخابــرات، وقــد وقــف بوجــه المخابــرات مــرارا وكان يخــرج في المظاهــرات التــي تدعــو إلــى تحكيــم الشــريعة وتطالــب بالإفــراج عــن الســجناء.
يقــول الأســتاذ عبــد الله البزايعــة: كان الدكتــور أبــو مصعــب رحمــه الله مــن المدافعيــن عـن قضايـا الأمـة الإسـلامية، وكان لـه نشـاطه في كل تجمـع يعمـل لذلـك، ويشـارك دائمـا بـأي مسـيرة نصـرة لفلسـطين وباقـي قضايـا الأمـة الإسـلامية، وكان يقـول كلمـة الحـق لا يخـاف إلا الله، وهـو مـن المدافعيـن دائمـا عـن قضايـا معـان والشـباب المعتقليـن ظلمـا ،وأذكـر أنـه أيـام أحـداث أبنـاء أبـو ديّـة وأبنـاء إليـاس أو غيرهـم لا أذكـر تمامـا تـم تشـكيل لجنــة لمتابعــة قضايــا معتقلــي معــان في ديــوان إليــاس في حــي القناطــر وكنــت أنــا العبـد الفقيـر لله ضمـن هـذه اللجنـة والدكتـور صـلاح عنانـي والأخ ماجـد الشـراري والدكتور محمـد أبـو صالـح والأخ عبـد الوهـاب كريشـان، وتـم عمـل أكثـر مـن فاعليـة بالتعـاون مـع أهالـي المعتقليـن حتـى بحمـد الله تـم الإفـراج عـن أكثـر المعتقليـن بفضـل الله تعالـى.وكان رحمـه طيـب النفـس وصاحـب أخـلاق عاليـة وناصحـا مخلصـا لإخوانـه، وسـبحان اللهعندمـا ذهبنـا لزيارتـه في بيتـه عندمـا عـاد مـن سـوريا في المـرة الأولى ـــ بسـبب إصابتهـــ لأجـل العـلاج قـال لنـا كلمـه أتذكرهـا جيـدا: بأنـه يتماثـل للشـفاء بسـرعة لـم يتوقعها ،وقـال: الآن عرفـت معنـى دعائنـا عندمـا نقـول: اللهـم إنـي أسـألك شـفاءً عاجـلا، وهـذا مـا حـدث معـي، وبعدهـا بوقـت قصيـر سـمعنا خبـر رجوعـه إلـى سـوريا رحمـه الله تعالـى.
ولــه نصيــب في الخطابــة في المســاجد أيضــا وكان يلقــي محاضــرات في ذلــك؛ منهــا محاضـرات في مدينـة الزرقـاء، ومنهـا في معـان، ونفـي منهـا لأجـل ذلـك إلـى إربـد، فلـم يثنــه ذلــك عــن عملــه، ولــم يكــن يســمح لفرصــة أن تفوتــه، فــكان يتكلــم ويعــظ في المســاجد وعلى أبوابهــا وفي الأســواق والجامعــات وفي المستشــفيات.
حتـى إن متعاطـي المخـدرات وأصحـاب المشـاكل كانـوا يذعنـون لأبـي مصعـب، فقـد كان لـه قبـول عظيـم في النـاس، وقـد هـدى الله على يديـه كثيـرا منهـم، يقـول أخـوه أبـو ياســر: لا أبالــغ إن قلــت: إن عــدد مــن تــاب على يــد أبــي مصعــب والتــزم -بعــد أن كانــوا قبــل لا يصلــون ولا يصومــون ويتعاطــون الحشــيش- تجــاوز المائــة وخمســين أو مائتيــن شـخص، وذلـك لأسـلوبه الحسـن وحكمتـه في الدعـوة، فقـد كان يأخذهـم معـه ويزجهـم في أعمـال الخيـر زجـا حتـى شـرح الله صدورهـم، وهـم إلـى الآن يبكـون عندمـا يتذكـرون حالهـم وبعدهـم عـن الله وكيـف أن الله هداهـم على يـد أبـي مصعـب.
وإذا اعتقـل أحـد العلمـاء كان يذهـب إلـى المشـايخ ويتكلـم معهـم في ذلـك ويجمـع أهلـه وأقاربـه ويقفـون في الشـوارع يطالبـون به.
وعــدد ســكان معــان خمســون أو ســتون ألــف نســمة فهــم يقولــون: نفقــد الحكيــم أبــا مصعــب، فقــد خلــف ذهابــه فجــوة فيهــا.
ويقـول الأخ أبـو البـراء الأردنـي: معرفتـي بأبـي مصعـب مـن الأردن حيـث كان الأخ حريصا كل الحـرص على لـم شـمل الإخـوة ووحـدة الصـف وخاصـة في معـان فقـد كان هنـاك مشـاكل بعـد خـروج الإخـوة مـن السـجون في 2011م فبـدأ بجمـع الإخـوة وتوحيـد صفهـم وجمـعكلمتهــم، وكان خدومــا لإخوانــه، يســاعدهم في المستشــفيات والعــلاج إذ أن التكاليــفعاليـة.
زواجه:
كان أبــو مصعــب متزوجــا بثــلاث نســاء؛ الأولــى فلبينيــة تزوجهــا عندمــا كان يــدرس في الفلبيـن، والثانيـة أردنيـة، والثالثـة سـورية، وقـد رزقـه الله بسـتة عشـر ولـدا تسـع بنـات وسـبعة ذكـور.
نفيره إلى الجهاد:
مـع تزايـد بطـش النظـام النصيـري وتكاثـر جرائمـه وسـفكه للدمـاء قـرر أبـو مصعـب النفيـر تلبيـة لواجـب الجهـاد ونصـرة لإخوانـه المسـتضعفين مسـتجيبا لقولـه تعالـى: )وَمَـا لَكُـمْ لا تُقَاتِلُـونَ فِي سَـبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْـتضْعَفِينَ مِـنَ الرِّجَـالِ وَالنِّسَـاءِ وَالْوِلْـدَانِ اَّلذِيـنَ يَقُولُـونَ رَبَّنَــا أخْرِجْنَــا مِــنْ هَــذِهِ الْقَرْيَــةِ الظَّالِــمِ أهْلُهَــا وَاجْعَــلْ لَنَــا مِــنْ لَدُنْــكَ وَلِيًّــا وَاجْعَــلْ لَنَــا مِـنْ لَدُنْـكَ نَصِيـرًا( فتـرك وظيفتـه وبيتـه وأهلـه ويمـم وجهـه شـطر درعـا فدخـل قريـة معربــة؛ حيــث يوجــد تجمــع لجبهــة النصــرة هنــاك، ولــم يمــض ســوى وقــت قليــل على قدومـه حتـى أعلـن الشـباب عـن عمـل عسـكري لضـرب كتيبـة السـهوة وحاجـز الخربـة ،فقـد بلغهـم أن النظـام النصيـري يتجهـز لاقتحـام المنطقـة فـأرادوا معاجلتـه، وبالفعـل قـام المجاهـدون بضـرب كتيبـة السـهوة بمفخختيـن واقتحـم قسـم آخـر حاجـز الخربـة ،وكان مــن المشــاركين في الاقتحــام الحكيــم أبــو مصعــب، وقــد قَتــل بنفســه عنصريــن للعـدو في تلـك المعركـة.
تعيينه أميرا طبيا:
وفي الشـهر العاشـر مـن عـام 2012م بـدأ النظـام حملتـه لاقتحـام المنطقـة ومـا حولهـا وحاصـر معربـة، وبـدأ القصـف بأنـواع الأسـلحة بالمدفعيـة والراجمـات والهاونـات، وكان أبـو مصعـب مـع المقاتليـن غيـر أنـه يـزور الطبييـن، وبعـد حصـار معربـة لمـدة خمسـة أيـام تـم تأميـن طريـق للطبييـن فخرجـوا، وتسـلم الحكيـم النقطـة الطبيـة مـع شـاب آخـر معـه ،وبعـد تسـلمه إياهـا بيـوم واحـد قصـف النظـام النقطـة الطبيـة داخـل المسـجد بصـاروخفأصيـب الحكيـم إصابـة بالغـة فذهبـت إحـدى عينيـه وأصيـب بصـدره وبطنـه ويـده، وكانذلـك بعـد نفيـره بشـهرين أو ثلاثـة، فخـرج إلـى الأردن بهويـة سـورية ليعالَـج هنـاك وبقي قرابـة سـنة حتـى تماثـل للشـفاء، فخـرج في رحلـة ترفيهيـة سـياحية إلـى وادي رم فـرأى مـن نفسـه قـوة ونشـاطا، فقـرر العـودة إلـى سـوريا ومتابعـة الجهـاد في سـبيل الله.
يقـول الأخ أبـو جعفـر طرقـات: تعرفـت إلـى الحكيـم في الشـهر السـابع مـن عـام 2012م في معربـة، ثـم أصيـب الحكيـم فنقـل ليعالـج هنـاك، وأصبـت أيضـا أثنـاء حملـة النظـام على ريـف درعـا الشـرقي فنقلـت إلـى الأردن لتلقـي العـلاج، فلقيـت أبـا مصعـب هنـاك في المشـفى الإسـلامي، ومـا إن وقـع بصـره علـي حتـى سـألني: أراجـع أنـت إلـى سـوريا أم لا؟ فقلـت: راجـع إن شـاء الله، فقـال: عـازم على ذلـك؟ إن شـفيت فسـأعود إن شـاء الله.
وفي ذات يـوم أجـرى الطبيـب لـي تحليـلا ثـم سـألنا: مـن أيـن أنتـم؟ فقلـت: مـن سـوريا ،وأخـذ الحكيـم يتكلـم مـع الطبيـب الـذي أجـرى التحليـل ببعـض الأمـور الطبيـة ويناقشـه ،فسـأل أبـا مصعـب: مـاذا درسـت؟ فقـال: تخديـر، فقـال: لهجتـك ليسـت سـورية بـل أردنية ،فقـال أبـو مصعـب: قـد مـنّ الله علينـا ونفرنـا إلـى أرض الجهـاد وقـد أصبـت هنـاك، ففـرح الطبيـب بنـا جـدا، وقـال: يـا ليتنـي أقـدر على تقديـم مـا قدمتـم.
قـال أبـو جعفـر: وفي الأردن افتتحنـا طريقـا للإخـوة الذيـن يرغبـون بالنفيـر إلـى الجهـاد ،فـكان أبـو مصعـب يحـرض النـاس على الجهـاد ويحضهـم عليـه ويبيـن لهـم مـا ورد في فضلــه ويتلــو عليهــم في ذلــك آيــات مــن كتــاب وأحاديــث مــن كلام خيــر الأنــام عليــه الصـلاة والسـلام، كمـا كان يسـاعدني في جمـع الأمـوال لإرسـالها إلـى المجاهديـن.
وقـد كان في نفيـر أبـي مصعـب خيـر للجنـوب عامـة؛ فهـو أول مـن افتتـح دور الاستشـفاء هنــاك، وأول مــن أســس كتيبــة طبيــة لتقــوم بالإســعافات الأوليــة في أرض المعركــة للمصابيــن قبــل نقلهــم إلــى المستشــفى، وكانــت الفصائــل قبــل ذلــك تدخــل المعركــة فـإذا جـرح أحـد مجاهديهـا في المعركـة أرسـلته إلـى المستشـفى مباشـرة وقـد يمـوت في الطريـق مـن النزيـف أو غيـره.
وكان أبـو مصعـب رتـب النقطـة الطبيـة ترتيبـا ثلاثيـا يظهـر فيـه شـدة الحـرص على أرواحالمجاهديــن، فــكان يدخــل مــع المقتحميــن عنصريــن مــن الطبيــة، ثــم يجعــل في الخــطالخلفـي نقطـة طبيـة ومعهـم الإخـلاء ثـم إخـوة وظيفتهـم نقـل الأخ إلـى المستشـفى بعـد تلقيـه الإسـعافات الأوليـة، وفـوق ذلـك يرسـل مـع الجريـح إلـى المستشـفى عنصـرا طبيـا لاسـتلام أماناتـه والاهتمـام بـه ضمـادا وطعامـا وشـرابا.
وكان يرفـض أن يعطـي الجريـح المسـكنات القويـة إلا في الحـالات الحرجـة جـدا، ويقـول: دع الجريـح يتألـم ليتعـود الصبـر والجلـد، فـإذا اضطـر لإعطـاء الجريـح ترامـدول كان يطحـن الحبـة ثـم يعطيهـا إيـاه ولا يخبـره باسـمها خشـية مـن أن يحصـل عليهـا بعد ذلك بنفسـه فيعتادها.
وكان يتفهـم مـا يصـدر مـن الجريـح مـن إسـاءة نتيجـة شـدة تألمـه فـكان يقـول لفريقـه:
إذا سـبكم الجريـح فـلا تغضبـوا ولا تجـدوا في أنفسـكم منـه.
حرصه على نفع إخوانه:
لـم يكـن أبـو مصعـب مقتصـرا في جهـاده على القتـال ومعالجـة الجرحـى والمرضـى بـل كان حريصـا الحـرص كلـه على نقـل خبراتـه وعلومـه إلـى إخوانـه، فعنـد قدومـه كان فنيـو التخديـر يخـدرون الجرحـى بطـرق قديمـة، وبمـا أنـه أخصائـي في التخديـر وهـو طبيـب التخديــر الوحيــد في المنطقــة فقــد علمهــم طرقــا حديثــة في التخديــر، وكان النــاس ينتظرونـه إذ لـم يكـن طبيـب بكفاءتـه، فكانـت الحـالات الصعبـة التخديـر ككبـار السـن أو الأطفـال تتـرك لـه ليخدرهـم.
وعندمــا جــاء الحكيــم إلــى بعــض الأماكــن كان فنــي التخديــر يخــدر المريــض ويبقــى مسـتيقظا )كالتخديـر الموضعـي( وكان يعتـذر بسـوء مـواد التخديـر لديـه فجـاء الحكيـم وتمكــن مــن تخديــر المريــض تمامــا بالأدويــة نفســها.
كما كان يخلط الأدوية ليحصل على دواء جديد.
كمـا أقـام عـددا مـن الـدورات لتعليـم الإسـعافات الأوليـة وبعـض الأمـور الطبيـة اليسـيرة ،وافتتــح مركــزا للأطــراف، وأرســل بعــض الإخــوة لتعلــم صناعــة الأطــراف، وعلــم الإخــوة الحجامــة فقــد كان لديــه في الأردن مركــزا ضخمــا للحجامــة.
ولـم يكـن يقتصـر على تعليمهـم الأمـور الطبيـة فقـط، بـل كان يشـدد أكثـر على تعليمهم الأمـور الشـرعية، فـكان يعقـد حلقـة قـرآن بشـكل يومـي بعـد الفجـر ليصحح لهـم تلاوتهم ويصبـر على الأخ المتعلـم صبـرا عجيبـا، ويقـول لـه: لا تتعجـل، اقـرأ متمهـلا حرفـا حرفـا ،وربمـا اسـتمرت الحلقـة بسـبب ذلـك إلـى الثامنـة أو التاسـعة صباحـا، فـإذا انتهـت حلقـة التجويـد بـدأ بـدرس الرياضـة، وكان يجـري أمامهـم مـع أنـه في سـن والدهـم فيتعبـون ولا يـزال هـو في أوج نشـاطه وقوتـه، كمـا كان يلقـي بعـد كل فريضـة موعظـة.
يقـول الأخ أبـو مالـك: كان الحكيـم يعقـد حلقـة تجويـد يوميـا، وكانـت قراءتـي ضعيفـة جـدا فمـا زال يعلمنـي ويرفـق بـي حتـى تعلمـت التجويـد وتعلمـت معـه معنـى الصبـر.
ويقــول الأخ أبــو عــدي: للحكيــم فضــل كبيــر علــي في تعليمــي قــراءة القــرآن والأمــور الطبيـة؛ فقـد أرسـلني في دورة طبيـة مكثفـة مدتهـا خمسـة أشـهر وتكلـم مـع بعـض المستشــفيات مــن أجــل ذلــك.
يقـول الأخ أبـو دجانـة: بعـد أن تزوجـت صـرت أتخلـف عـن دروس الرياضـة، فقـال لـي أبـو مصعـب: إمـا أن تحضـر معنـا وإمـا أن آتـي بالشـباب إلـى بيتك بعـد الجـري فنمـارس حركات الرياضــة الســويدية وتعــد لنــا القهــوة والبســكويت، فتخلفــت فوفــى بوعــده وجاءنــي بالشـباب ليتابعـوا الرياضـة في بيتـي، فعـل ذلـك عـدة مـرات.
ويقـول الأخ أبـو عبـادة الشـامي: أصيبـت خالتـي بجلطـة دماغيـة فأخـذ الحكيـم يسـعى في إسـعافها وعلاجهـا وكأنهـا أمـه، مـع أن معرفتـي بـه في تلـك المـدة كانـت يسـيرة جـدا، ولمـا توفيـت جـاء بالشـباب وأتـى إلينـا معزيـا.
أخلاقه:
مـن أبـرز صفـات أبـي مصعـب محبتـه لخدمـة إخوانـه ومسـاعدتهم والقيـام بشـؤونهم ،ولـم تكـن خدمتـه تقتصـر على عناصـر فصيلـه أو حتـى العناصـر المجاهـدة فقـط، بـل كان يخــدم الجميــع مدنيــا كان أو عســكريا، بــل يعامــل المدنــي كمــا يعامــل المجاهــد؛ ففــي شــرق معربــة مستشــفى، فــكان إذا ســمع صــوت الطيــران بــادر مســرعا بالذهــاب إليهــا لتلقـي الجرحـى ومعالجتهـم، وقـد لا تقصـف الطائـرة ومـع ذلـك فقـد كان مواظبـا على الذهـاب تحسـبا لحصـول أي طـارئ.
ولذلـك كان محبوبـا مـن جميـع النـاس مدنييهـم وعسـكرييهم، ومـع أن بعـض النـاس كان لا يحـب جبهـة النصـرة إلا أنـه يحـب أبـا مصعـب الحكيـم، كان يعطـف على الصغيـر ويجـل ويوقـر الكبيـر، ولـه زيـارات إلـى المخيمـات يعالـج فيهـا جرحاهـم.
كان أبـو مصعـب متواضعـا عريـا عـن الكبـر لا يتميـز عن إخوانـه بشـيء؛ فعندما كان يقسـم المهـام لعناصـره كان يضـع لنفسـه مهامـا كمهامهـم، فلـه دور في تنظيـف أطبـاق الطعام والحراسـة، بـل كان يتطـوع فيقـوم بتنظيـف بيـوت الخـلاء، كمـا كان يسـاعد الإخـوة في إصـلاح سـيارتهم وتبديـل إطارتهـا.
وكان يمنـع أحـدا مـن عيـب الطعـام، ويقـول: إذا لـم يعجبـك فاذهـب واشـتر مـن السـوق مـا تحـب ولكـن لا تعـب الطعـام.
كان أبـو مصعـب عضـوا في شـورى جبهـة النصـرة في درعـا، فلمـا تسـلم الإمـارة أبـو أحمـد أخـلاق سـأله بـالله أن يعفيـه مـن عضويـة الشـورى وإمـارة الطبيـة، فأعفـاه مـن الشـورى ولـم يعفـه مـن إمـارة الطبيـة، وكان الحكيـم يقـول: إذا رجعـت مـن خـان الشـيح فسـأرجع عنصـرا وليـس أميـرا.
وكان أبـو مصعـب يقـول للعناصـر: مـا هـي الرسـالة التـي تحبـون إيصالهـا إلـى مجلـس الشـورى لأنقلهـا لكـم إليهـم؟ مـاذا تحبـون أن أقـول عنـد انعقـاد الشـورى؟ ويسـعى مـنخـلال ذلـك إلـى تعزيـز ثقـة العنصـر بنفسـه، وأيضـا قـد يسـتفيد مـن العناصـر أمـرا غـابعنـه.
ومـن الطرائـف في ذلـك أن أبـا مصعـب وزع نوبـات الحراسـة على الإخـوة الطبييـن وجعـل لنفسـه نوبـة مثلهـم، فلمـا كانـت نوبـة الأخ الـذي قبلـه جلـس ليحـرس فغلبتـه عينـاه فلـم يسـتيقظ إلا بعـد انقضـاء نوبتـه ونوبـة أبـي مصعـب إلا نصـف سـاعة، فهـب مسـرعا ليوقـظ أبـا مصعـب، فلمـا أيقظـه نظـر أبـو مصعـب إلـى السـاعة، وقـال: لمـاذا تأخـرت في إيقاظـي؟ فخشـي الشـاب أن يقـول لـه كنـت نائمـا، فقـال: رأيتـك متعبـا فتركتـك لترتـاح!
ومـن عجيـب اهتمامـه بأمـر المجاهديـن أنـه أراد أن يخطـب لأحـد الإخـوة طبيبـة نسـائية لتجـري عمليـات الـولادة لزوجـات المجاهديـن مجانـا؛ فقـد كانـت تكلفـة العمليـة خمسـة عشـر ألـف ليـرة سـورية )وتسـاوي وقتهـا مائتـي دولار تقريبـا( إلا أن والـد الفتـاة لـم يقبـل ولـم يخبـر الفتـاة أصـلا، فاتصـل الحكيـم بالفتـاة وسـألها عـن ذلـك فقالـت: لا علـم لـي ،ثـم تقـرر أن يـرى الشـاب الطبيبـة في عيادتهـا الرؤيـة الشـرعية، فذهـب إليهـا وكانـت معهـا أمهـا، إلا أن الأمـر لـم يكتـب لـه التوفيـق.
وقـد تـزوج أبـو مصعـب زوجتـه السـورية وكانـت قابلـة وهـي أرملـة عندهـا سـتة أولاد ،فسـأله أبـو دجانـة عـن ذلـك، فقـال: تجـارة مـع الله، أكفـل أيتامهـا ولديهـا بنـت عمرهـا ثلاثــة عشــر عامــا نزوجهــا لمجاهــد مهاجــر، وفعــلا زوج ربيبتــه لأحــد الإخــوة المهاجريــن مــن الأردن.
ويقـول الأخ أبـو النصـر درعـا: أصبـت بطلقـة قنـاص في رقبتـي، فـأدت إلـى الشـلل وتفتت العظـام ولله الحمـد، فـكان الحكيـم يدخـل بنفسـه مـع الأطبـاء الذيـن يجـرون لـي العملية ويشــرف بنفســه عليهــم، وكان يتولــى تخديــري كونــه مختصــا بذلــك، وبعــد ذلــك كان يطلـب يوميـا مـن الإخـوة الممرضيـن تقريـرا عـن حالتـي المرضيـة ويشـدد في ذلـك، فـإذا رأى تقصيــرا منهــم في هــذا الأمــر غضــب ووبــخ الممرضيــن، وعندمــا يكــون موجــودا كان يشـرف على خدمتـي مـع الإخـوة.
وعندمـا كانـت نتيجـة العمليـات التـي أجريتهـا سـلبية رأيتـه متضايقـا جـدا، فجـاء إلـيّوحملنــي مــن فراشــي، وكان يريــد أن يحيــي الإرادة في قلبــي، وأخــذ يســاعدني لعلــي أقـدر على المشـي، ولكنـي فقـدت الوعـي، ثـم اسـتيقظت بعـد دقائـق فرأيتـه يمسـك أدوات التمريــض ولــم يفارقنــي حتــى اطمــأن علــيّ، وبعــد ذلــك كان يذهــب معــي إلــى المستشـفى حتـى أُجريـت لـي آخـر عمليـة وكان يلوم نفسـه على تقصيـره، وبعـد العملية أصابتنـي حـرارة شـديدة لـم تفارقنـي مـع كثـرة مـا أخـذت مـن أدويـة، فلمـا جـاء الحكيـم ليطمئـن على المرضـى كعادتـه ورأى مـا بـي أخـذ التقريـر السـريري فلـم يجـده تامـا؛ لأن الأخ المسـؤول عـن ذلـك كان مشـغولا بمرضـى آخريـن، فغضـب الحكيـم ووبـخ الممرضيـن وبـدأ العمـل بسـرعة، يقـول: أعطـوه كـذا أعطـوه كـذا حتـى انخفضـت حرارتـي والحمـد لله، وكان قــد أنّــب الأخ المســؤول بكلمــات رقيقــة شــديدة مــن شــخص نحبــه، وبعــد أن اطمـأن على حالتـي اعتـذر مـن الممرضيـن فقـد كان سـريع الأوبـة رحمـه الله.
وبعـد أن خرجـت مـن المستشـفى بعـد اسـتقرار حالتـي كان الحكيـم رحمـه الله يزورنـي مــرارا مــع كثــرة مهامــه وأعمالــه، والله إن بعــض أقاربــي لــم يزرنــي كمــا كان الحكيــم يزورنــي.
ولشـدة حرصـه على وقتـه وكثـرة أشـغاله كان يأتـي بوجهـاء القريـة إلـى بيتـي ليجمـع بيـن عيادتـي وبيـن قضـاء عملـه معهـم.
ويقـول الأخ أبـو محمـد: كان الحكيـم يحببـك بالديـن بأفعالـه قبـل أقواله؛ يخاطب الشـباب بتواضــع جــم، يعامــل الشــباب كإخوتــه ويفــرض احترامــه مــع لطــف شــديد، تركــت مــرة الجبهـة وكنـت مصابـا فاهتـم بمعالجتـي كأنـي مـا زلـت مـع الجبهـة، وكان يعظـم ديـن الله جـدا ويحـب طلبـة العلـم ويحتـرم قراراتهـم، وقـد نفـر عـن طريقـه عـدد مـن أهـل معـان وهـم أهـل شـوكة وبـأس وبعضهـم حديـث عهـد بتوبـة مـع قـوة شـكيمة وشـجاعة قلـب، فاسـتفاد منهـم في معاركـه كثيـرا.
يقـول أبـو دجانـة: كان الحكيـم إذا كان في سـيارته ورأى رجـلا أو امـرأة تحمـل أغراضـا نـزل فحمـل الأعـراض ووضعهـا في السـيارة ثـم أركـب الشـخص ومضـى، وفي إحـدى المـرات رأىامـرأة تحمـل حطبـا فنـزل ثـم وضـع الحطـب في الخلـف وجلـس بجانبـه وأركـب المـرأة فيالمقعـد الأمامـي وأمرنـي أن أقـود السـيارة بـدلا عنـه.
ومـرة أركـب امـرأة وابنتيهـا وهـن متبرجـات، فقلـت: مـا هـذا يـا أبـا مصعـب؟ فقـال: اسـكت ولا تتكلـم أبـدا، فلمـا وصـل إلـى المـكان قـال للمـرأة: لمـاذا تلبسـون هـذا اللبـاس؟ هـذا حـرام لا يجـوز، فقالـت: لا نملـك ثمـن اللبـاس الشـرعي، فقال: -وأشـار بيـده- هـذه مركزيتنا اذهبـي إليهـم وقولـي أرسـلني أبـو مصعـب الحكيـم وأريـد أن تعطونـي لباسـا شـرعيا ،وهـم سـيعطونك إيـاه كامـلا مجانـا.
وعنـد تحريـر مدينـة نـوى زار الحكيـم المستشـفى التـي فيهـا وطاقمهـا مدنـي، فـرأى أن حجـاب الممرضـات ليـس شـرعيا، فتكلـم مـع مديـر المستشـفى في ذلـك، فجمـع المديـر الممرضـات وأخبرهـن بالأمـر، فقلـن: لا نملـك ثمـن الحجـاب الشـرعي، فأصعدهن أبـو مصعب جميعــا في حافلــة ومعــه أحــد الإخــوة، ثــم انطلــق بهــن إلــى منطقــة تدعــى الشــجرة ،فاشـترى لهـن حجابـا شـرعيا كامـلا.
يقــول أبــو دجانــة: كان أبــو مصعــب كثيــر الزيــارة لإخوانــه ويــردد دائمــا: )البعــد جفــا( ،ويقـول: لا تبعـد عـن إخوانـك فهـم طيبـون، وكان يـزور جميـع القطاعـات وعنـده تحمـل شــديد في العمــل، وكان يقــول لــي: كــن كالنحلــة، وقــد أهدانــي كتابــا بهــذا العنــوان لأقــرأه.
يقـول الأخ أبـو مالـك: حضـرت مـع الحكيـم معركـة سـد سـحم فـكان مقيمـا تحـت الشـجر ثلاثـة أيـام لـم يغـادر ولـم يتذمـر مـن ذلـك أو يتضجـر.
ويقـول الأخ أبـو النصـر درعـا: في معركـة الجمـرك كان يوجـد تجمـع ضخـم للجيـش النصيري يقطـع الطريـق بيـن منطقتيـن كبيرتيـن، وبعـد أن حـرر المجاهـدون نصـف الكتـل والأبنيـة جــاء الحكيــم فاختــار مكانــا ليكــون نقطــة طبيــة لإســعاف الإخــوة، وبعــد أن اشــتدتالمعركـة تمكـن النظـام مـن حصارنـا لمـدة يوميـن متتالييـن وقطـع عنـا الطعـام والشـرابوجعنـا حتـى إننـا صرنـا إذا رأينـا رغيفـا يابسـا تقاسـمناه، وبينمـا نحـن على هـذه الحـالحصـار مـع قلـة نـوم مـع تعـب وجـوع جـاء إلينـا الحكيـم ومعـه عـدة أشـخاص مـن طاقـم الطبيـة، فطلـب منـا أن نذهـب وتـرك بـدلا منـا الممرضيـن، فذهبنـا معـه ودخلنـا النقطـة الطبيـة وصـار يحضـر لنا السـرلاك )طعـام الأطفـال المسـاعد لحليـب الأم( فكان هـذا طعامنا ليوميـن، فقـد وجـد الحكيـم مسـتودعا منـه في أحـد الأبنيـة فـكان يحضـر لـكل مجموعـة حصتهـم ويجلـس معهـم على الطعـام حتـى فتـح الله لنـا، جـزاه الله عنـا كل خيـر.
ويقـول الأخ أبـو دجانـة: كان أبـو مصعـب يؤثرنـا على نفسـه؛ فـإذا كنـا متعبيـن تولـى هـو قيـادة السـيارة، وفي إحـدى المـرات كان يقـود السـيارة وقـد أكل الإرهـاق قـواه، فسـارت السـيارة بسـرعة حتـى ارتقـت سـاترا للجيـش الحـر.
كان أبـو مصعـب إذا سـمع أن أخـا سـيترك الجبهـة أخـذ معـه بعـض الشـباب ثـم اشـترى بعـض الفواكـه فيقدمهـا لـلأخ ولا يـزال يكلمـه حتـى يعيـده، فـإذا تـرك الأخ كان يقـول لـلإداري: أعطـه كفالتـه ولا تسـحب منـه سـلاحه، وقـد تسـتمر الكفالـة لـلأخ شـهرين أو ثلاثـة يتألـف قلبـه بذلـك، ويكثـر مـن زيارتـه.
ويقـول الأخ أبـو قدامـة: كان أبـو مصعـب شـديد السـخاء والكـرم، يحـب النفقـة في سـبيل الله، ويقسـم الحـوالات التـي تأتيـه؛ فيأخـذ نصفهـا ويضـع النصـف الباقـي في الطبيـة ،ومـن ذلـك أنـه في إحـدى المـرات جاءتـه حوالـة ماليـة فاسـتلمتها ثـم أرسـلتها لـه مـع بعـض الإخـوة، فلمـا رجـع قـال لـي: هـذا المـال للطبيـة أم لأبـي مصعـب؟ فقلـت: لأبـي مصعـب، فقـال: لقـد أخـذ نصفـه ثـم أمرنـي بوضـع الباقـي في الطبيـة.
وحســن خلــق الحكيــم كان ســببا في اجتمــاع المجاهديــن حولــه ورغبتهــم في العمــل معـه، بـل إن عـددا مـن الممرضيـن قـد انتسـب إلـى الجبهـة بسـبب معاملتـه الطيبـة مـع النـاس، يقـول الأخ أبـو طـارق الحورانـي: كنـت أعمـل مـع الإخـوة في الدبابـات، ثـم أردت الانتقــال للعمــل مــع الحكيــم لمــا رأيــت مــن إخلاصــه وحســن خلقــه، فلمــا جئتــه قلــت:
أريـد الانضمـام إليـك، فقـال: ومـاذا سـتعمل معنـا؟ فقلـت: سـأقوم بإخـلاء الجرحـى، ولكـنعنــدي شــرط، فقــال: مــا هــو؟ فقلــت: أن أشــارك في جميــع المعــارك التــي تدخلونهــا ،فقــال: وهــو المطلــوب، فعملــت معــه، فلمــا خــرج أبــو مصعــب إلــى خــان الشــيح ومــن ثَـم إلـى الشـمال حدثـت بعـض المشـاكل فقـررت تـرك الطبيـة، فاتصـل بـي أبـو مصعـب ،وقـال: لمـاذا سـتترك الطبيـة؟ فقلـت: الطبيـة بعـدك تغيـرت، وأنـا أحبـك في الله، فقـال:
إن كنـت تحبنـي فعـلا فابـق في الطبيـة، فامتثلـت وبقيـت معهـم.
ومـن عجيـب حسـن خلـق أبـي مصعـب وحبـه لإخوانـه مـا أخبرني بـه أبـو طـارق الحوراني ،فقـال: أثنـاء وجـودي في دار استشـفاء صيـدا كنـا إذا أذنـا للصـلاة وأردنـا بعـد ذلـك الإقامة يقـول الحكيـم: لا تقيمـوا الصـلاة حتـى يحضـر جميـع الإخـوة فيدركـوا معنـا تكبيـرة الإحـرام فأجرهـا عظيـم جـدا، وكنـا إذا حضـر الطعـام وجلسـنا لنـأكل وأمـام أبـي مصعـب قطعـة لحـم فإمـا أن يقدمهـا إلـى أحـد إخوانـه أو يقـوم بتفتيتهـا ووضعهـا أمـام الإخـوة، وكان يسـمي الخدمـة في الـدار ببرنامـج الطاعـة ويضـع لنفسـه دورا كأحدنـا، وكان يوقـظ الإخوة لصـلاة القيـام ويذكرهـم بالصيـام ويأمرهـم بالسـحور.
ومـن طريـف حسـن أخلاقـه مـا حدثنـي بـه الأخ أبـو مالـك، فقـال: كنـا مـرة في نـوى ونمنا بهـا وكان أبـو مصعـب يشـخر إذا نـام، فقلنـا: الحكيـم يشـخر، فسـمعها، فلمـا كانـت الليلـة التاليـة التـف الحكيـم بلحـاف وجلـس يغالـب النـوم حتـى نمنـا جميعـا ثـم نـام كـي لا يزعجنــا بصــوت شــخيره، ولمــا ذهبنــا إلــى الكحيــل كان ينــام في غرفــة لوحــده حتــى لا يزعجنـا كذلـك، ولا أذكـر أنـا اسـتيقظنا مـرة قبـل الحكيـم.
وكان يمنــع الإخــوة الذيــن وضعــوا أطبــاق الطعــام مــن رفعهــا بعــد الشــبع، بــل يرفعهــا غيرهــم لينــال الجميــع أجــر الخدمــة.
وإذا رأى أحــد أفــراد العمــل الطبــي يقــوم بالعمــل بطريقــة خاطئــة لــم يكــن يقــول لــه:
أخطــأت، بــل يقــول: مــا رأيــك أن تعمــل هكــذا )للطريقــة الصــواب(؟ يقــول أبــو الهيثــم:
كنــت مــرة أخيــط جــرح أخ مصــاب، فرآنــي الحكيــم، فأحضــر مفجــرا، وقــال: مــا رأيــك لــووضعنــا لــه هــذا المفجــر ليخــرج الــدم ســيكون أفضــل، أليــس كذلــك؟
ومـرة جاءنـا شـخص مصـاب بشـظية في ظهـره مـن جهـة القلـب وهـو على وشـك المـوت ،فجــاء الحكيــم ونحــن ننعشــه فجــس نبضــه في العنــق )النبــض المركــزي( وقــال: مــات الرجـل، فجـس بعـض الإخـوة نبـض يـده )النبـض المحيطـي(، وقـال: يوجـد نبـض، فعـاد الحكيـم وجـس عنقـه، وقـال: مـات، إلا أن بعـض الإخـوة أصـر أنـه مـا يـزال حيـا واسـتمر بالإنعـاش، فأحضـر الحكيـم إبـرة وأدخلهـا في ناحيـة قلبـه وسـحب، فلـم يخـرج دم، فخجل الإخـوة وسـكتوا، فقـال لهـم: عجبـا لكـم كيـف سـيكون هنـاك نبـض في المحيطـي إذا لـم يكـن في المركـزي.
كان كثيــر الصبــر على إخوانــه إلا إذا انتهكــت محــارم الله أو رأى خلــلا يضــر بالعمــل وبالمجاهديــن.
يقــول أبــو دجانــة: كان الحكيــم يحــب النظــام والترتيــب في العمــل؛ فدخــل علــي مــرة الصيدليـة فوجـد فيهـا خلـلا وفوضـى، فأمسـك بـي وبـأخ آخـر ثـم ضربنـا ببعضنـا، ثـم أقبــل على الجــدار فجعــل يضربــه غضبــا فقــد كان مجيــدا للتايكونــدو.
ولمـا هُجِّـر المجاهـدون مـن خـان الشـيح إلـى إدلـب كانـت شـوارعها لا تـزال فارغـة، فـكان مـرة راكبـا مـع بعـض إخوانـه في السـيارة، فخالـف الأخ في قيادتـه ولـم يـدر حـول الـدوار ،فقـال الحكيـم: صُـفَّ السـيارة على يمينـي وانـزل، ثـم قـام الحكيـم بقيـادة السـيارة، وقال:
النظـام هـو النظـام.
ويقـول الأخ أبـو مالـك: كنـت أسـعد بعقوبـة الحكيـم؛ لعلمـي أنـه لا يعاقبنـي لهـوى أو لأمـر شـخصي بـل لمصلحـة الجهـاد والمجاهديـن، كمـا كان أبـو مصعـب يترضـى الأخ سـرا بعـد عقوبتـه ليزيـل مـا قـد يكـون علـق بقلبـه مـن نـزغ الشـيطان.
ويقــول أبــو حمــزة: كان أبــو مصعــب قــاس في ظاهــره على الشــباب قليــلا، إلا أنــه في الحقيقـة رقيـق القلـب، ومـن اهتمامـه بإخوانـه أنـه خصـص لهـم سـيارة )تكسـي( ليقضـوابهـا حوائجهـم ويحضـروا مسـتلزماتهم.
وتقــول زوجتــه الســورية: كان رحمــه الله كريمــا جــدا حســن الخلــق محبــا للجهــاد وللمجاهديــن، كان غيــورا جــدا عزيــز النفــس مزّاحــا وحنونــا مــع جديتــه، أحــب العبــادات إليـه الصـلاة والصيـام والصدقـة. حريصـا على سـنة رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم في كل أحوالــه.
ويقــول الأخ أبــو طــارق: كان الحكيــم يشــدد جــدا في أمــر الغيبــة والنميمــة؛ فــإذا جــاءه أحـد وأراد أن ينقـل لـه كلامـا عـن أحـد ذكـره فـورا بقـول الله تعالـى: )وَيْـلٌ لِـكُلِّ هُمَـزَةٍ لُمَـزَةٍ( فـإذا كانـت هنـاك حاجـة حقيقيـة لنقـل الـكلام أحضـر الأخ المنقـول عنـه الـكلام ،وقـال للناقـل: تكلـم الآن أمـام أخيـك لنحـل المشـكلة، كمـا كان أبـو مصعـب حريصـا على ضبـط لسـانه فـإذا تكلـم أثنـاء الربـاط بكلمـة لغـو، اسـتغفر الله، وقـال: أسـألكم بـالله ألا تنقلوهـا عنـي، وبعـد انتهـاء نوبـة الربـاط يعيدنـا إلـى بيوتنـا ويرجـع فيرابـط ثلاثـة أيـام أخـرى عقوبـة لنفسـه .
موقفه من الدواعش:
كان أبـو مصعـب مـدركا لخطـورة الاقتتـال الداخلـي وأنـه سـيؤدي إلـى خلـل عظيـم في الجهــاد ويســمح للنظــام بإعــادة ترتيــب أوراقــه؛ لذلــك كان يحــاول قــدر الإمــكان تجنــب الاصطـدام مـع الدواعـش، بـل لـم يكـن يقـول عنهـم خـوارج، بـل يقـول: إخواننـا عندهـم غلــو وقــد انحرفــوا، ويجــب أن نعيدهــم إلــى جــادة الحــق والصــواب، وقــد اســتفاد أبــو مصعـب مـن موقفـه هـذا فتمكـن مـن إنقـاذ الجرحـى الأسـرى عنـد التنظيـم، فإنـه لمـا شــاع أن لــواء شــهداء اليرمــوك )غالبــه لصــوص وحشاشــين( قــد بايــع تنظيــم الدولــة وجـرت معركـة بينهـم وبيـن جبهـة النصـرة وجـرح بعـض جنـود النصـرة وتمكـن الخـوارج مـن أسـرهم، ذهـب إليهـم بنفسـه بـدون سـلاح، وجلـس مـع أميرهـم، وسـأله: هـل بايعتم تنظيـم الدولـة؟ فنفـى ذلـك، فقـال لـه أبـو مصعـب: أنتـم متهمـون أنكـم خـوارج مبايعون للتنظيـم، ومعكـم ورقـة إعلاميـة رابحـة تنفـون بهـا التهمـة عـن أنفسـكم وهـم جرحـى جبهـة النصـرة، أجـروا معهـم لقـاء إعلاميـا ثـم أطلقـوا سـراحهم حتـى تنفـوا عن أنفسـكم التهمـة، فقبـل قائـد اللـواء بذلـك وأطلـق سـراح الجرحـى، فـكان تخليصهـم بفضـل اللهأولا ثـم بـذكاء وحنكـة أبـي مصعـب.
وذات مـرة قبـض الدواعـش على امـرأة مـن جبهـة النصـرة، فغضـب الشـباب جـدا وأخذتهـمالحميـة، وخشـي الحكيـم مغبـة الأمـر وأن يـؤدي إلـى مـا لا تحمـد عقبـاه، فأمسـك القبضـة وأراد أن يســيطر على الأمــر، فقــال: أختنــا عنــد إخوتنــا، وقــد أوذي بســبب هــذه الكلمــة بعـد ذلـك كثيـرا.
ومـن بديـع فقهـه في التعامـل مـع الخـوارج ومراعـاة أفهـام النـاس -كمـا كان حـال النبـي صلـى الله عليـه وسـلم )لا يتحـدث النـاس أن محمـدا يقتـل أصحابـه(- مـا أخبرنـي بـه الأخ أبـو رغـد الباشـق، فقـال: كان عندنـا أربعـة شـباب مـن معـان رأوا رأي الخـوارج، ثـم إن أبـا العبـاس مـر مـن المـكان الـذي هـم فيـه فانفجـرت عبـوة، ثـم مـر أبـو صـلاح العسـكري بعد عـدة أيـام فانفجـرت عبـوة أيضـا، فقلـت لأبـي جاسـم الأمنـي: إمـا أن تعتقلهـم وإمـا أن أقتلهـم، وذهبـت وجهـزت مجموعـة مـن المجاهديـن وخرجـت لأقتلهـم، واتصلـت بالحكيـم فطلــب منــي أن آتــي إليــه، فلمــا جئــت وأخبرتــه بالقصــة قــال لــي: المســألة لــن تقــف عنـد حـدود أنهـم دواعـش وقتلناهـم، بـل سـتأخذ بعـدا عشـائريا في الأردن، ويقـال عنـا: أننـا نقتـل إخواننـا، وأن يقتلـوا في حـوض اليرمـوك حيـث جماعـة الدواعـش خيـر مـن أن يقتلـوا هنـا، ثـم قـال لـي: دع الأمـر لـي، فذهـب إليهـم وجلـس معهـم في المسـجد -وكان الحكيـم موضـع احتـرام مـن الجميـع- ووبخهـم توبيخـا شـديدا، وقـال لهـم: أنـا تكفلـت بكــم، وقلــت: لا صلــة لكــم بمــا جــرى، فإمــا أن تلزمــوا الهــدوء وتكفــوا عــن المشــاكل أو تذهبـوا إلـى البريـدي في حـوض اليرمـوك إلـى دولتكـم المنشـودة ولا جزاكـم الله خيـرا ،وبعـد بضعـة أيـام ذهـب الشـباب الأربعـة إلـى حـوض اليرمـوك.
واســتمر أبــو مصعــب على هــذه الطريقــة في التعامــل مــع تنظيــم الدولــة حتــى يــأس مـن إصلاحهـم ورجوعهـم إلـى الحـق فشـارك في قتالهـم بنفسـه واقتحـم عليهـم مـع الجنــود خلــف الدبابــة وأضــاع جوالــه في تلــك المعركــة، وكان يقــول للجنــود: نقاتلهــم كمــا أمرنــا الله فنعاملهــم معاملــة المســلمين.
يقـول الأخ أبـو مالـك: كان الحكيـم يسـعف جرحانـا وجرحـى الدواعـش، ويأمـر بالصـلاة علىقتلاهــم ودفنهم.
قصته مع قوات) un( الفيجيين:
في إحـدى المعـارك كان المجاهـدون يطـاردون النظـام في القحطانيـة، فتحصـن العدو فيمشـفى المهدمـة وأمامـه نقطـة لقـوات un فالتجـأ النظـام إليهـم، فجاءهـم أبـو مصعـبالحكيــم -وهــو يجيــد اللغــة الإنكليزيــة- وقــال لهــم: مشــكلتنا ليســت معكــم ولا نريــد قتالكـم، نحـن نقاتـل النظـام، فـلا تدخلـوا ولكـم منـا الأمـان، فقـال الضابـط المسـؤول: لا مشـكلة ولكـن نريـد أن تحافظـوا على الممتلـكات داخـل نقطتنـا، ومعكـم مهلـة إلـى الصبـاح، فوافـق الحكيـم على ذلـك، واسـتمر القتـال طـوال الليـل، فذهـب الحكيـم ليقضي حاجتـه -والمـكان مرصـود وأي ضـوء يشـاهده قنـاص العـدو يرميـه مباشـرة- فأشـعل ضـوء قداحــة فرمــاه القنــاص، فجــاءت الطلقــة بقبعتــه على رأســه، فجــاء إلــى إخوانــه وقــال لهـم: شـاء الله ألا يرزقنـي الشـهادة وأنـا في الخـلاء.
ثـم تـم القضـاء على النظـام في تلـك المنطقـة ولاذ مـن بقـي حيـا مـن جنـوده بالفـرار ،فجــاءت جماعــة الفنوصــي وبــدأت بنهــب محتويــات نقطــة الفيجييــن ثــم تبعهــم بعــد ذلـك جنـود النصـرة، فوقـف الحكيـم غاضبـا وأخـذ يصـرخ فيهـم، ويقـول: هـذا مـال حـرام ،هــذا غلــول، قــد أعطينــا الفيجييــن الأمــان على أرواحهــم وممتلكاتهــم، ولــم يتمكــن الحكيــم مــن الســيطرة على الموقــف بشــكل كامــل فاعتــذر مــن الفيجييــن، وقــال: أنتــم في أماننـا وسنسـعى لإعـادة كل مـا أخـذ منكـم.
فلمـا وصـل الخبـر إلـى مختـار جاء مسـرعا فتسـلم قـوات un وهـو يريـد اعتقالهـم ليبادلهم على أســرى المســلمين في ســجون الصليبييــن، واتصــل أميــن عــام الأمــم المتحــدة بــان كيمــون بالمجاهديــن، وقــال لهــم: نعطيكــم مــا تريــدون ولكــن حافظــوا على حياتهــم ،ولمـا علـم أبـو مصعـب بمـا يريـد أن يفعـل مختـار اشـتكى إلـى الشـرعي الشـيخ سـامي العريــدي، وقــال لــه: لقــد أعطيتهــم الأمــان، وهــذا غــدر وديننــا بــراء مــن الغــدر، فعقــد الشـيخ العريـدي مجلسـا للقضـاء واسـتمع إلـى الشـهود، ولمـا تبيـن لـه صحـة ادعـاء أبـي مصعــب الحكيــم أمــر بإطــلاق ســراح قــوات un ولــم يأخــذ منهــم شــيئا، فامتثــل مختــار للأمـر وحـزن حزنـا شـديدا لمـا فاتـه مـن فـكاك أسـر خيـار المجاهديـن في سـجون النصـارى الصليبييـن، فذهـب أبـو مصعـب إليهـم فذكـر حديـث «قـد أجرنـا مـن أجـرت يـا أم هانـئ ،»وذكـر أن أبـا مصعـب الزرقـاوي رحمـه الله أطلـق سـراح جندييـن أمريكييـن بعـد أن ثبـتأن مســلما أعطاهــم الأمــان، وقــال: ســنخرجهم وتخــرج حلوقنــا معهــم، وقــال الحكيــم: وأنــا أقــول كمــا قــال، وبعــد إطــلاق ســراحهم نقلــوا إلــى نقطــة ثانيــة، فذهــب إليهــم الحكيـم وزارهـم، وقـد أحبـوه لمـا كان منـه في تخليصهـم وحسـن تعاملـه معهـم، وقـد دخـل في الإسـلام منهـم رجـل أو رجـلان، وقـد قدمـت تلـك القـوات لأبـي مصعـب بعـض الأغـراض الطبيـة، كمـا استسـمحهم أبـو مصعـب لأخـذ بعـض المجاهديـن بعـض أغراضهـم الخاصـة أثنـاء احتجازهـم فسـامحوا، وكان أبـو مصعـب قـد حجـز تلـك الأغـراض ومنـع مـن اسـتخدامها حتـى يسـتأذنهم.
عبادته:
كان أبـو مصعـب مـدركا قصـر الدنيـا وحقارتهـا، وعالمـا بمـا عنـد الله مـن الأجـر والثـواب والنعيـم المقيـم، فـكان حريصـا على طـرق شـتى أبـواب البـر والمعـروف، ففـي كل عبـادة لـه نصيـب..
كان يأمــر بالمعــروف وينهــى عــن المنكــر ويحــذر إخوانــه مــن آفــات اللســان، ففــي إحــدى المــرات أراد أحــد المجاهديــن الأردنييــن أن يلقــي طرفــة ،فقـال: كان في واحـد طفيلـي )نسـبة إلـى طفايلـة وهــي منطقــة بــالأردن يتهكــم بأهلهــا أهــل الأردن ،كمـا يفعـل بعـض السـوريين بأهـل حمـص، وبعـض المصرييــن بأهــل الصعيــد( فقاطعــه الحكيــم، وقــال لـه: إيـاك أن تكمـل وإلا سـتقع في غيبـة الطفايلـة جميعــا وعليــك أن تستســمحهم جميعــا.
يقـول أحـد إخوانـه: ذهـب معـي مـرة إلـى بيـت أبـي في طفـس، فخرجـت أخـت لـه صغيرة عمرهـا ثمانـي سـنوات، فأعطاهـا بعـض النقـود وقـال لهـا: أراك في المـرة القادمـة محجبة يــا ابنتي.
ويقـول الأخ أبـو نصـوح: كنـت مـرة على السـفرة مـع الحكيـم، ومـن عادتـي أن أقطـع الخبـزقطعــا صغيــرة، وربمــا أكلــت بعضهــا بيــدي اليســرى، فضربنــي الحكيــم على يــدي، فلــمأدر مـاذا يريـد، حتـى فعـل ذلـك مـرارا، ثـم قـال لـي لمـا رآنـي لـم أنتبـه لمقصـوده: كلبيمينـك.
ويقــول الأخ أبــو خالــد مســلم: كان مهتمــا بالدعــوة إلــى الله فلــم يكــن يتــرك مكانــا إلا ودعـا فيـه إلـى الله وأمـر فيـه بالمعـروف ونهـى فيـه عـن المنكـر؛ سـواء كان في الشـارع أو في المستشـفى أو غيرهمـا، وقـال لـي مـرة في الحملـة الأخيـرة: لـو أقـدر على إجبـار الإخـوة على صيـام النوافـل لفعلـت.
ويقــول الأخ أبــو دجانــة المعانــي: مــرة كنــت في الأردن بعــد إصابــة الحكيــم ورجوعــه للعـلاج، ومـع أنـه كان متعبـا وقـد فقـد عينـه، إلا أنـه لـم يكـن يفتـر عـن الدعـوة إلـى الله، فـكان يطبـع المطويـات ويوزعهـا في الأسـواق والمحـلات التجاريـة، وقـد كنـت معـه في إحــدى جولاتــه فــكان يوصينــا أن نعطــي النــاس الســكاكر قبــل المطويــة.
كمـا كان يرشـد الإخـوة إلـى حسـن التلطـف في النهـي عـن المنكـر، فقـد دخـل مـرة إلـى غرفـة العمليـات فـرأى شـابا مخـدرا، فقـال أحـد الطبيـون لـه: فـلان يريـد أن يدخـن، وقـد قلـت لـه: هـذا حـرام، فقـال الحكيـم: أهـذه طريقـة الدعـوة؟ خـذ بيـده وتنحـى بـه جانبـا وانصحـه منفـردا وليـس هكـذا على المـلأ، ومـا زال الحكيـم يبيـن للشـاب كيفيـة النصـح حتـى قـال لـه: هـو الـذي سـيدخن وليـس أنـا )يقصـد أنـه أولـى بالنصـح منـي.(
ومــن جميــل أخبــار الحكيــم في الدعــوة: أن عقيــدا أردنيــا جــاء إليــه بعــد تحريــر جمــرك نصيـب لأمـر مـا ومعـه بعـض العناصـر، فوقـف الحكيـم مـع العناصـر وصـار يذكرهـم بـالله ويسـألهم عـن صلاتهـم، ويقـول: اتقـوا الله، وهـذا الـذي نحـن فيـه جهـاد في سـبيل الله.
ويقــول الأخ أبــو أســامة الشــامي: كان الحكيــم حريصــا على اســتغلال كل دقيقــة مــن عمـره بطاعـة أو بعمـل صالـح، حريصـا على التعبـد بالصيـام وقيـام الليـل ويحـض الشـباب على ذلـك، ويقـول: لا أتصـور مجاهـدا لا يصـوم الاثنيـن والخميـس، كان قريبـا مـن الشـبابيزورهــم وينصحهــم ويســاعدهم في حــل مشــاكلهم ويرابــط معهــم، كان متواضعــا جــدافـإذا أخطـأ سـارع بالاعتـذار وربمـا عاقـب نفسـه.
يقـول الأخ أبـو دجانـة السـني: كان أبـو مصعـب عابـدا زاهـدا صوامـا قوامـا يحافـظ علىصيــام الاثنيــن والخميــس والأيــام البيــض ويصــوم في الحــر الشــديد، ويقــوم الليــل بــليوقـظ عناصـره الطبييـن جميعـا لقيـام الليـل قبـل أذان الفجـر بنصـف سـاعة على الأقـل ،وربمـا ألـزم بعـض الشـباب بصيـام النفـل فحاججتـه في ذلـك وقلـت: لا يحـق لـك إجبارهـم على النفـل، ثـم ذهبنـا إلـى الشـرعي وذكرنـا الأمـر أمامـه، فقـال الشـرعي لأبـي مصعـب: ليـس لـك إجبارهـم على ذلـك وإنمـا تحضُّهـم وتشـجعهم، والحـق أن أبـا مصعـب كان ينظر إلــى العناصــر نظــرة الأب المربــي لأولاده، وكان يقــول لــي: دع لــي الصغــار أبنــاء الثالثــة عشـرة والرابعـة عشـرة وأنـا أربيهـم.
ولأبـي مصعـب قصـة عجيبـة في التربيـة؛ فقـد أسـر المجاهـدون عـددا مـن عناصـر النظـام في التلـول الحمـر، وصـدر الأمـر بإعدامهـم، وفيهـم شـاب حلبـي، فأعدمـوا إلا الحلبـي فقـد شـهد أحـد الإخـوة مـن أحـرار الشـام أنـه كان يسـاعد في انشـقاق العسـاكر عـن النظـام ،كمـا أن الشـاب كان في طبيـة النظـام كونـه دارسـا تعويضـات سـنية ويحفـظ أجـزاء مـن القــرآن، فعفــي عنــه وتكفــل بتربيتــه والاهتمــام بــه أبــو مصعــب، فصــار الشــاب صوامــا قوامـا عابـدا وقـد رزق الشـهادة بعـد ذلـك.
وكان يمنـع ضـرب الأسـرى ويشـتد في القـول على مـن يضربهـم، ويقـول: الأسـير إمـا أن يقتـل وإمـا أن يعامـل معاملـة حسـنة.
يقـول أبـو دجانـة: أسـرنا جنديـا مـن النظـام وهـو مكسـور الفخـذ، فأقبلـت عليـه أفحصـه ،فحركـت رجلـه ذاهـلا أن ذلـك سـيؤلمه -وكنـت سـابقا أعمـل في الطـب الشـرعي وأتعامـل مــع الجثــث- ولــم يصــرخ الأســير مــن الخــوف، فأقبــل الحكيــم علــيّ غاضبــا وقــال: مــاذا تفعـل؟ فقلـت: أفحصـه، فقـال: يقـول لـك إن فخـذه مكسـور وتحـرك رجلـه؟ خـذه مباشـرة إلـى المستشـفى، فأخذتـه وبقيـت معـه حتـى أُجريـت لـه العمليـة.
ولأبـي مصعـب اهتمـام عظيـم بإصـلاح ذات البيـن ولـو كان معـه جريـح ووضعـه يحتمـل التأخيـر فإنـه يتركـه في السـيارة وينـزل ليصلـح بيـن المتخاصميـن، فقـد كان صاحـب جهاد أمـة وليـس جهـاد فصيـل، فـإذا فتـح الجيـش الحـر معركة ولـم تكـن النصـرة مشـاركة فيهاكان يذهـب ويشـارك فيهـا بالعمـل الطبـي، بـل إنـه في معـارك الصـد في خـان الشـيحمُنــع مــن دخــول المعركــة ليبقــى مديــرا للأمــور في الخــارج، فذهــب إلــى الجيــش الحــرورتـب معهـم ودخـل المعركـة معهـم.
يقـول الأخ أبـو أسـامة الشـامي: كان الحكيـم حريصـا في المعـارك على أن يكـون في الصف الأول مـع الانغماسـيين، وفي إحـدى المعـارك طلـب منـي أن يكـون مـع الانغماسـيين فقـد كانـت هنـاك) bmb(سـتنطلق بالانغماسـيين، فقلـت للعسـكري: اعتـذرْ منـه، كـون العـدد مكتمـل، فذهـب الحكيـم إلـى فصيـل أحـرار داريـا في محـور آخـر وكانـوا سـيدخلون أيضـا )bmb( فطلــب الدخــول معهــم وأصــر، فوافقــوا، وعنــد المعركــة فقدتــه، فســألت عنــه ،فقالـوا: هـو عنـد أحـرار داريـا، فذهبـت إليهـم، فقالـوا هـو في ال) bmb( مـع الانغماسـيين ،فذهبـت ولـم أسـتطع أن أقنعـه بالرجـوع إلا حيلـة، قلـت لـه: الإخـوة في غرفـة العمليـات يريدونـك، فلمـا ذهـب معـي طلبـت مـن الإخـوة أن يمنعـوه مـن الدخـول ثانيـة.
يقـول الأخ أبـو الهيثـم: في إحـدى معـارك الصـد في خـان الشـيح -وكانـت المعـارك شـبه يوميــة- أصيــب هــو وأخ آخــر، وكانــت إصابــة الحكيــم في كتفــه وبطــن رجلــه، فجئــت لأعالجـه، فقـال: ليـس علـيّ بـأس عالـج هـذا الأخ.
ويقـول الأخ أبـو قدامـة: في معركـة اللـواء اثنيـن وثمانيـن جئـت إليـه وجعلت أتكلـم معه ،ولـم أكـن أعلـم أنـه أصيـب بطلقـة وشـظية في رجلـه، فلاحظـت أنه عاصـب رجلـه، فقلت: مـا بهـا رجلـك؟ فقـال: لا شـيء ضربـة خفيفـة، ثـم ذهبـت بعـد ذلـك إلـى المستشـفى فـإذا الشـباب يقولـون: حمـدا لله على سـلامة الحكيـم، فقلـت: مـا بـه؟ فقالـوا: أصيـب ،فقلـت: قبـل قليـل كنـت معـه، فقالـوا: نعـم ولكـن إصابتـه خفيفـة طلقـة وشـظية، وقـد كان واقفـا معـي وكأنـه ليـس بـه شـيء.
يقـول بعـض إخوانـه: ذهبـت معـه مـرة إلـى غديـر البسـتان لحـل مشـكلة هنـاك، فـكانالجميـع يحترمـه ويقـدره، وكِلمتـه عندهـم لا يمكـن أن تصيـر ثنتيـن )تعبيـر شـامي يـدلعلى شـدة التـزام النـاس بقـول الرجـل( فلـم يخـرج حتـى حـل المشـكلة.
وربما طلبه بعض إخوانه أو المدنيين ليتدخل في حل مشاكلهم الشخصية.
والوقــت عنــده غــال، ولا بــد مــن اســتثماره كلــه فيمــا يقربــه إلــى الله، يقــول الأخ أبــوحمــزة: أصبــت بجــراح في بيــت جــن، وبمــا أن الطريــق مقطــوع فقــد نقلــت إلــى درعــامربوطـا على حمـار، وقـد سـقطت عنـه على الطريـق، ثـم أعـاد الإخـوة حملـي عليـه حتـى وصلــت إلــى جباثــا الخشــب، فجاءنــي أبــو مصعــب، وقــال سنســتضيفك عندنــا بضعــة أيـام، فأركبنـي في السـيارة إلـى الحميديـة وكان الطريـق مقنوصـا والسـماء تمطـر، فلمـا وصلنـا إلـى النقطـة الطبيـة، قـال لـي: سـأرابط الليلـة وابـق هنـا، ثـم أخـذ جميـع مـن في النقطــة معــه إلــى الربــاط وبقيــت وحيــدا، ثــم عــاد فجــرا فذهــب بــي إلــى الشــيخ مسـكين فوضعنـي في النقطـة الطبيـة، وذهـب ليرابـط، ثـم عـاد فسـرنا حتـى وصلنـا مزيريـب، وكانـت هنـاك مشـكلة مـع الجيـش الحـر فتركنـي في المقـر وذهـب لحلهـا حتـى العصـر، فوقعـت مشـكلة مقتـل أبـي سـيف الأحمـر فذهـب لحلهـا، وأمـر الإخـوة بنقلـي إلـى دار الاستشـفاء، فوصلـت الـدار بعـد ثلاثـة أيـام مـن لقائـي أبـي مصعـب.
وقَـلَّ أن يـرى الحكيـم أهلـه، فعنـده ثلاثـة أيـام في الأسـبوع ربـاط في دار الاستشـفاء، ثـم ثلاثـة أيـام أخـرى يقضيهـا في المستشـفى، ثـم يـوم في دار الاستشـفاء الأخـرى.
وكان الحكيــم لا يأخــذ دواء تــوكلا على الله ولا يســترقي، يرجــو بذلــك أن يكــون مــن الســبعين ألفــا الذيــن يدخلــون الجنــة بغيــر حســاب.
وكان شــديد الســمع والطاعــة لأمرائــه، ومــن طريــف أخبــاره في ذلــك: أن أميــر درعــا أبــا جليبيــب أصــدر قــرارا، فأخــذ الحكيــم يناقشــه فيــه، فانتهــى الأمــر إلــى أن قــال أبــو جليبيـب: القـرار هكـذا وانتهـى الأمـر، فاحتقـن أبـو مصعـب جـدا إلا أنـه امتثـل، فلمـا خـرج مـن الغرفـة أراد أن يفـرغ احتقانـه فوجـد أمامـه كرسـي فركلـه برجلـه بقـوة شـديدة، ثـم إن أبـا جليبيـب اعتـذر منـه واسـترضاه.
صبره:
كان أبـو مصعـب مثـالا على الصبـر في شـدائد الأمـور ونوائـب الدهـر، فقـد رزق مـن زوجتـهالسـورية بولديـن حمـزة وسـمية، فخـرج ذات يـوم إلـى الربـاط، ونقطـة رباطـه تبعـد عـنبيتـه سـبعين أو ثمانيـن كـم، وتـرك ابنـه حمـزة عنـد نائبـه أبـي حمزة، فقـد كان أبـو حمزة قـد رزق بالبنـات ولـم يـرزق بصبـي، فتـرك الصبـي عنـده لترضعـه زوجتـه فيكـون ابنـا لـه مـن الرضاعـة، فبينمـا الصبـي يمشـي في دراجتـه إذ تعثـر فسـقط فاختلـج فمـات، قـال أبـو دجانـة: فتواصلنـا مـع الحكيـم ليشـهد ابنـه، فقـال لنـا: غسـلوه وكفنـوه وصلـوا عليـه وادفنـوه وواسـوا أمـه، ولـم يسـألنا عـن سـبب وفاتـه ولـم ينـزل حتـى انتهـى رباطـه.
ولـم يكـن هـذا الولـد الوحيـد الـذي تـوفي لأبـي مصعـب، فقـد سـبقه ولـدان آخـران، وكان يقـول: مـن عـدل الله تعالـى أنـه مـات لـي مـن كل زوجـة ولـد.
وكان أبــو مصعــب مهتمــا بتربيــة أولاده ليكونــوا مــن حملــة هــذا الديــن والعامليــن في حقلــه؛ فلــه ابنتــان قــد حفظتــا القــرآن كامــلا، وباقــي أولاده في طريقهــم إلــى ذلــك ،فـأولاده أسـامة ومصعـب وعمـر حافظيـن لثلثـي القـرآن، وأصغـر أولاده حافـظ لعشـرة أجزاء.
ولشدة اهتمامه بأمر الصلاة كان أولاده يصلون في المسجد منذ نعومة أظفارهم.
وكان أبـو مصعـب يصبـر على الآلام التـي تعتريـه أحيانـا بسـبب جراحـه حتـى إنهـا عطلتـه عـن كثيـر ممـا كان يعمـل.
يقـول الأخ أبـو عبيـدة: زوجنـي أبـو مصعـب ربيبتـه، وقـد أخبرتنـي زوجتـه أنـه كان يئـن ليـلا مـن الألـم، ومـع ذلـك لا يأخـذ دواء أخـذا بـرأي مـن يقـول بـأن تـرك التـداوي أفضـل.
قـال أبـو عبيـدة: ولقـد قـال لـي الحكيـم مـرة: تعبـت ولـم أعـد قـادرا على خـوض المعـارك كالسـابق والشـظية التـي قـرب قلبـي تتحـرك وتزعجني.
وكذلـك كان يصبـر في التعامـل مـع الفصائـل ولا يسـارع إلـى القتـال؛ فقـد حدثـت مشـكلةفي بصـرى الشـام، فقـد اعتقـل أحمـد العـودة عنصـرا مـن جبهـة النصـرة وسـيطر على أحدمقراتهـم وكان يريـد إخراجهـم مـن بصـرى الشـام بالكليـة بنـاء على طلـب مـن المخابـراتالأردنيـة، كمـا أن النصـرة كانـت قـد اعتقلـت أحـد أبنـاء قريـة العـودة بتهمـة أنه داعشـي ،يقــول الأخ أبــو جعفــر طرقــات: فتكلمنــا مــع المشــايخ مــن أجــل حــل المشــكلة وكانــت علاقتـي وعلاقـة الحكيـم مـع العـودة جيـدة، فخرجنـا بعـد صـلاة العيـد وذهبنـا إلـى أحمد العـودة، وهنـاك جـرت مشـكلة بيـن أبـي رغـد الباشـق وبيـن أحـد عناصـر العـودة، وقـد تمكـن الحكيـم -وكان حكيمـا كلقبـه- مـن حـل المشـكلة بـدون سـلاح وقتـال.
ورعه:
أبــو مصعــب ورع في أمــوال الجهــاد لا يترخــص فيهــا ولا يتهــاون بشــأنها ولــو جاءتــه لشـخصه، يقـول أبـو دجانـة: كانـت تأتـي أبـا مصعـب أمـوال ويقـول لـه أصحابهـا: هـذه لــك خاصــة، فــكان يدفعهــا إلــي، ويقــول: وزعهــا على المجاهديــن.
يقـول الأخ أبـو حمـزة: لـم يكـن أبـو مصعـب يسـمح لأحد مـن الفريـق الطبـي معه بتشـغيل المكيـف في السـيارة، واسـتمر على هـذا المنـع حتـى أخـذ إذنـا مـن الإدارة العامـة بذلـك ،وكان قبــل ذلــك إذا شــغّل المكيــف في ســيارته يدفــع خمســمائة ليــرة )تعــادل وقتهــا دولاريـن تقريبـا(، وإذا ركبـت معـه زوجتـه وطلبـت تشـغيل المكيـف ألزمهـا أن تدفـع أيضـا ،وكان يقـول للشـباب: مـن أراد تشـغيل المكيـف فليدفـع، وكان يركب سـيارة فـان متواضعة ،فـكان دائمـا يطلـب مـن الشـباب أن يسـاعدوه في دفعهـا حتـى يـدور محركهـا.
وكان لا يسـمح بقيـادة السـيارات بسـرعة تزيـد على المائـة إلا في الحـالات الضروريـة كرصـد القنـاص لطريـق مكشـوف أو وجـود جريـح تتطلـب حالتـه ذلك.
ويقـول الأخ أبـو مالـك: طلـب الحكيـم سـيارة لنائبـه ولـلإداري ولـم يطلـب لنفسـه مـع أنـه بحاجــة لســيارة فقــد كانــت ســيارته متواضعــة، وعندمــا توفــرت بعــض الســيارات رفــض أن يبــدل ســيارته التــي تســير على المــازوت بســيارة تســير على البنزيــن لارتفــاع ســعره مقارنـة بالمـازوت.
وقــد طلبــت منــه إحــدى المستشــفيات بطريــق الســد أن يعمــل معهــم فاعتــذر بدايــةلانشــغاله بالجهــاد والقتــال، فقالــوا: نحــن بحاجــة ماســة لــك، فقــال: أوافــق بشــرط ألاأُعطـى راتبـا حتـى لا أتقيـد بـدوام وحضـور وانصـراف، فتمـت الموافقـة على ذلـك، فسـكنببيــت قــرب ســاتر النظــام ليعمــل في النهــار في المشــفى ويرابــط في الليــل.
يقـول الدكتـور أبـو حسـين مديـر المشـفى: كان أبـو مصعـب متقنـا لعملـه، وهـو مـن القلة الذيـن يهتمـون باختصاصهـم بدقـة، وهـو شـديد الإخـلاص في عملـه، وقـد عرضـت عليـه مبلغـا مرتبـا لقـاء عملـه فلـم يقبـل بأخـذه -مـع أنـي أعلـم أنـه كان وقتهـا في ضائقـة ماليـة شـديدة فقـد كان مقدمـا على الـزواج وزوجتـه لديهـا سـتة أيتـام- وقـال: أنـا لـم آت لهـذا الأمـر.
وكان لأبـي مصعـب قبـول في جميـع المستشـفيات، فـإذا طلـب مـن أحدهـا شـيئا سـارعوا بتلبيتــه، وقــد يطلــب منهــم شــبابا ليشــاركوا في النقطــة الطبيــة في المعركــة فــلا يبخلـون عليـه بذلـك، ويقـول الذاهبـون معـه: طالمـا أن الحكيـم طلبنـا فنحـن مسـتعدون للمشـاركة.
وكان الحكيـم عنـد عـدم وجـود معركـة يـدور على المستشـفيات ويقـدم لهـم مـا يقـدر عليـه مـن المسـاعدة، ويقـول: إذا أردت التقـرب منهـم فاخدمهـم.
ومــن حســن تعاملــه مــع المستشــفيات والأطبــاء الخاصيــن أنــه كان يرضــخ لهــم مــن الغنائــم، فكانــت المستشــفيات تقــدم لــه مــا يحتــاج إليــه في المجــال الطبــي، وكان الأطبــاء الخاصــون لا يأخــذون أجــرة مــن فريقــه الطبــي.
شجاعته:
اشـتهر أبـو مصعـب بشـجاعته وقـوة عزيمتـه وشـدة بأسـه، فلـم يكـن يرضـى إلا أن تكـون النقطـة الطبيـة في مـكان متقـدم قريـب مـن الاقتحامييـن، ولـم يكـن يقبـل أن يتخلـفعـن أي معركـة، فشـارك مقاتـلا في معـارك تحريـر المخافـر الحدوديـة، ومعـارك تحريـر تـلالجابيـة، ومعركـة سـرية العمـان، ومعـارك الشـيخ مسـكين، ومعـارك تـل الحـارة، ومعـاركجمـرك درعـا، ومعـارك جمـرك نصيـب، ومعـارك التلـول الحمـر الشـرقي والغربـي، ومعركـةمشـفى جاسـم، ومعـارك سـرايا الحلبـي وسـرايا زبيـدة، ومعـارك تـل الهـش وتحريـر مدينـةنــوى، ومعــارك نبــع الصخــر، ومعركــة المهدمــة، ومعركــة الرواضــي والحميديــة، ومعــارك مدينــة البعــث، ومعــارك جباثــا الخشــب، وقــاد معركــة تحريــر اللــواء) 82(، وذلــك بعــد انشـقاق عـدد كبيـر مـن العسـكريين عـن الجبهـة وتشـكيلهم فصيـل جنـد الملاحـم بعـد مشـكلة مقتـل أبـي سـيف الأحمـر، وكان المجاهـدون قـد اقتحمـوا الشـيخ مسـكين ولمـا يحـرروا اللـواء) 82( فحـدث الانشـقاق، فقـرر الحكيـم أن يتابـع المعركـة ولا يسـمح للمشـكلة بــأن تعطــي النظــام وقتــا يرتــب فيــه صفوفــه، فاتفــق مــع الفصائــل على ذلــك، وتــم الاتفـاق على أن يضـرب لـواء المثنـى كتيبـة النيـران؛ لأنهـا تكشـف اللـواء، وبعـد تحريـر الكتيبـة يقـوم مجاهـدو جبهـة النصـرة باقتحـام اللـواء، فاسـتطلع أبـو مصعـب بنفسـه ،ثـم وضـع النقطـة الطبيـة في الخطـوط المتقدمـة، وبمجـرد أن حـرر لـواء المثنـى كتيبـة النيـران اقتحـم مجاهـدو الجبهـة يتقدمهـم أبـو مصعـب ومعهـم بعـض المجاهديـن مـن الفصائـل الأخـرى وفتـح الله عليهـم، وآخـر مـن بقـي في اللـواء قائـده وقـاوم حتـى تمكـن المجاهــدون مــن إصابتــه بقدمــه ثــم أســره وقتلــه، وبعــد ذلــك تســليم جثتــه للنظــام مقابـل أسـرى.
وفي هـذه المعركـة أصيـب الحكيـم بطلقـة في فخـذه اليمنـى وكانـت إصابتـه في اللحـم ،فقـال لأحـد أفـراد الطبيـة: خيطهـا بسـرعة، فخاطهـا، ثـم قـام أبـو مصعـب بربطهـا وأكمل المعركـة حتـى فتـح الله عليهـم، وبعـد انتهـاء المعركـة لـم يضـع أبـو مصعـب لأمتـه بـل ذهـب مباشـرة فاسـتطلع حاجـز الكهربـاء وهـو يتعكـز على بارودتـه واتخـذ قـرارا بإكمـال التحريــر، فانطلــق بثلاثيــن عنصــرا مــن المجاهديــن مــن الجبهــة وغيرهــا ففتحــوا ثغــرة في سـاتر النظـام ودخلـوا منهـا، ولشـدة الظـلام لـم يـروا شـيئا، فتقدمـت دبابـات العـدو مـن جهـة أزرع وبـدأت التمشـيط على الشـباب، فقتـل أحـد المجاهديـن وأصيـب أكثـر مـن نصفهـم بجـروح، فقـرر المجاهـدون الانسـحاب بعـد سـاعتين مـن بـدء العمـل، وكان مـن يقاتــل في جهــة النظــام شــيعة أفغــان، وبعــد انســحاب المجاهديــن تســلل عــدد مــن عناصــر النظــام وقتلــوا أحــد المجاهديــن، وتــم تثبيــت خــط الربــاط، وفي هــذه المعركــة أسـر أبـو مصعـب مقاتـلا شـيعيا، فقـد رأى أثنـاء المعركـة شـخصا فاسـتراب بـه، فقـال لـه: مـن أنـت؟ فقـال: فاطمـي، فقبـض عليـه أسـيرا وسـلمه للجيـش الحـر، وتـم مبادلتـه بعـدذلـك.
وقـد أصيـب جـرح الحكيـم بالالتهـاب ونقـل إلـى مشـفى درعـا، فقـام الطبيـب بقـص بعض الجلـد بعـد أن خـدره، مـع أن أبـا مصعـب كان يرفـض التخديـر، إلا أن شـدة الألـم أجبرتـه على الموافقة.
يقـول أبـو دجانـة: كان الحكيـم قـد سـجل اسـمه مـع الانغماسـيين في الجبهـة، فسـألته مسـتنكرا: لمـاذا لا تسـجل استشـهادي؟ فقـال: لسـت أهـلا لذلـك فنحـن لـم نصـل إلـى درجــة الإيمــان التــي وصــل لهــا الاستشــهاديون، وأرى أنــه كان يحــب القتــال وخــوض المعـارك ولذلـك لـم يسـجل استشـهادي وإلا فإنـه كان عندمـا ينغمـس في العـدو يلبـس حزامـا ناسـفا لتفجيـره في صفوفهـم إن اضطـر إلـى ذلـك.
يقــول الأخ أبــو مالــك: أول معركــة شــهدتها مــع أبــي مصعــب كانــت معركــة الصــد في الشـيخ مسـكين، فلمـا خرجنـا مـن مقرنـا حملـت مـع أحـد الإخـوة الصنـدوق الطبـي، فلـم أســر إلا قليــلا حتــى التــوى كاحلــي وســقطت، فقــال الحكيــم ممازحــا: إذا أصبــت فابــق هنـا -وكنـا نتسـابق إلـى المعـارك- فتابعنـا طريقنـا إلـى أن وصلنـا إلـى النقطـة الطبيـة في أرض المعركـة قبيـل المغـرب، وقـد انسـحب جميـع مـن في المحـور مـن الجيـش الحـر -ومحــور الجبهــة في مــكان آخــر- ولــم نكــن نعــرف أن في الشــيخ مســكين بعضــا مــن أهلهــا، فوضعنــي في نقطــة الربــاط ووضــع الشــاب الآخــر في النقطــة الطبيــة، وصــار يذهــب ويجــيء، فجــاء بعــض المقاتليــن مــن أهــل الشــيخ مســكين، وقالــوا: نحــن هنــا مـن أربعـة أيـام وقـد تعبنـا وسننسـحب ويجـب أن تخرجـوا معنـا وإلا سـيهلككم جهلكـم بالمنطقـة ولـن تسـتطيعوا التحـرك بـدون دليـل، فجمعنـا أبـو مصعـب واستشـارنا، فقلنـا: ننسـحب معهـم ونخبـر الإخـوة العسـكريين ليأتـوا ويسـدوا الثغـر هنـا، فأخـذ برأينـا وبدأنـا بالانسـحاب، وكلمـا قطعنـا مسـافة أدخلنـا أبـو مصعـب بعـض البيـوت خوفـا علينـا مـن الرصـد، حتـى وصلنـا وقـد أنهكنـا التعـب، فارتميـت أرضـا لا أقـوى على الحـراك، أمـا الحكيمفقـد أخبـر العسـكريين ثـم سـار معهـم ثانيـة إلـى المـكان، ولـم يسـترح .
ويقـول الأخ أبـو دجانـة المعانـي: كنـت معـه في معركـة التـل الأحمـر في جباثـا، فـكان ذاهمـة عاليـة، وفي وسـط القصـف والتسـلل لـم يكـن ينسـى أن يذكرنـا بـالله ويثبتنـا، كانصاحـب شـجاعة وإقـدام لا يخشـى المـوت، ولياقتـه أعلى بكثيـر مـن الشـباب الذيـن هـم في عمـر أولاده.
في خان الشيح:
طُلـب مـن أبـي مصعـب الذهـاب إلـى خـان الشـيح بسـبب نقـص الفريـق الطبـي هنـاك ،وكان مـن المقـرر أن يبقـى هنـاك شـهرين، إلا أن الحاجـة إليـه طبيبـا وأميـرا أبقتـه حتـى تهجيـر أهـل خـان الشـيح.
وقـد وقـع الاختيـار على أبـي مصعـب خصوصـا لحسـن خلقـه وقدرتـه على الإدارة وحسـن التعامـل مـع النـاس.
وقـد طلـب منـه قبـل ذهابـه تعييـن نائبـا بـدلا عنـه، فلـم يفعـل إلا بعـد جمـع الإخـوة واستشـارتهم، فقـد كان كثيـر طلـب النصـح والشـورى، وكان ينصـح الشـباب قائـلا: إذا أردت الإقـدام على أمـر فاستشـر واسـأل الكبيـر والصغيـر.
يقــول الأخ أبــو نصــوح: لمــا وصــل الحكيــم إلــى خــان الشــيح تســلم في البدايــة الملــف الطبـي، وأخـذ يسـأل عـن النواقـص لدينـا ولمـاذا يوجـد نقـص أصـلا، وقـد تبيـن لـه أن جميـع الأطبـاء الذيـن يمكـن الاسـتفادة منهـم قـد فـروا إلـى مناطـق النظـام.
قـال: ثـم ذهـب أميـر خـان الشـيح إلـى درعـا ليجلـب ذخيـرة، فقـد كان مـن المفـروض أن يشــن المجاهــدون في خــان الشــيح معركــة لفتــح طريــق داريــا، وكان أبــو مصعــب ممــن وضـع خطـة المعركـة، فاستشـرنا أبـا جليبيـب وأبـا أحمـد أخـلاق، فقـالا: كل مـن سـيدخل المعركـة سـيقتل لا محالـة، وذلـك أنـه يتوجـب على المجاهديـن السـير مسـافة ثلاثة عشـر كـم بيـن جبليـن، ولـم تفتـح المعركـة لخطورتهـا ولنقـص الذخيـرة.
ويقـول الأخ أبـو البـراء الأردنـي: جـاء أبـو مصعـب إلـى الغوطـة الغربيـة ومعـه طبيـب آخـرعلى إثـر مشـاكل حدثـت داخـل الجماعـة، وكان مـن عادتـه أن يجمـع الخصـوم مـع بعضهـمثـم يدلـي كل بحجتـه أمـام الآخـر، وبعـد مجيئـه بشـعر غـادرت الغوطـة إلـى درعـا ولـم ألقــه بعدهــا، نســأل الله أن يجمعنــا في جنــات الخلــد برفقــة نبينــا محمــد صلــى الله عليـه وسـلم
كان أبـو مصعـب يبـذل جهـودا عظيمـة لسـد الثغـر الطبـي المـوكل إليـه، حتـى إنـه احتاج طبيبـا عظميـا ولـم يكـن متوفـرا، فأرسـل مـن خطفـه مـن مناطـق النظـام، فلمـا جـيء بـه أعطـاه الأمـان وألزمـه بالعمـل وخصـص لـه مرتبـا، وكان قـدوم أبـي مصعـب ترميمـا للملـف الطبـي ليـس لجبهـة النصـرة فقـط بـل للمنطقـة بأسـرها، وقـد ضـم أربعـة فصائـل في دار استشـفاء واحـدة، وكان يسـتقبل كل جريـح يخـرج مـن المستشـفى حتـى غـدت الـدار عامـة لتجمـع خـان الشـيح كامـلا.
وبعـد معركـة تحريـر ديـر خبيـة بشـهر تـم تعيينـه أميـرا عامـا لجبهـة النصـرة في خـان الشـيح، إلا أنـه كان كأنـه أميـر خـان الشـيح بكامـل فصائلهـا، فقـد كان مثـال الأخ الشـفيق ،واشــتد الحصــار على خــان الشــيح بعــد ســقوط داريــا وقدســيا، فــكان يســمح للشــخص برغيـف واحـد يوميـا.
قـال أبـو نصـوح: كان أبـو مصعـب يصلـي الفجـر ثـم يجلـس يذكـر الله إلـى طلـوع الشـمس ،ثـم يقـوم فينـام في غرفـة منفـردا عـن الآخريـن، ولـم أكـن أعلـم لمـاذا يفعـل ذلـك حتـى أخبرنـي الشـباب بعدهـا بقصـة الشـخير، وعندمـا هجرنـا إلـى درعـا أخبـرت عـن الحكيـم فـإذا الإخـوة يصفـون رجـلا مختلفـا تمامـا عـن الحكيـم في خـان الشـيح، فقـد كان عندنـا لينـا جـدا.
ويقـول الأخ أبـو أسـامة الشـامي: كنـا محاصريـن في الغوطـة الغربيـة في خـان الشـيح ،واحتجنـا حاجـة شـديدة إلـى طبيـب، فطلبنـا مـن الشـمال ومـن الغوطـة الشـرقية ومـن درعـا، فلـم يلبنـا إلا أبـو مصعـب، فقـد جـاء إلينـا وبصحبتـه طبيـب جـراح، وكان قدومـهبعـد معركـة تحريـر ديـر خبيـة وهنـاك جرحـى، فـكان قدومـه فرجـا ورحمـة؛ إذ تمكـن مـعالطبيـب الآخـر مـن إسـعاف الجرحـى وعلاجهـم، وقـام الطبيـب الجـراح بتعليـم الشـبابالجراحـة.
كانــت همــة الحكيــم عاليــة؛ فمــع أن في صــدره شــظية قــرب القلــب إلا أنــه كان يوميــا يخـرج فيتـدرب صباحـا مـع الانغماسـيين مـع شـدة تدريبهـم -وكان مقرهـم قـرب مقرنـا- وكان يئــن أحيانــا ليــلا مــن الألــم، ولــم يكــن يخبــر بذلــك أحــدا، فكنــت أطلــب منــه أن يريـح نفسـه ويكـف عـن التـدرب مـع الانغماسـيين فـكان يرفـض ذلـك، وبعـد عودتـه مـن التدريـب كان يأتـي إلـى المقـر فيعـد الطعـام لنـا، فـإن وجـده معـدا أصـر على أن يصنـع لنـا شـيئا بيـده، ثـم يسـاعد الشـباب في رفعـه وتنظيـف الأطبـاق والصحـون، وربمـا نظـف الخـلاء سـرا مـع أن مـن في المقـر كانـوا في سـن أولاده.
ومـن بديـع أخبـاره مـا ذكـره الأخ أبـو أسـامة الجولانـي، فقـال: في آخـر أيـام الحصـار في خــان الشــيح ذهبنــا لتبديــل الربــاط، فلمــا ركبنــا في الســيارة )الفــان( لــم يقبــل أبــو مصعـب أن يركـب في المقعـد الأمامـي جانـب السـائق، وإنمـا ركـب في الخلـف على ركبـه ،وقــال لأحــد الإخــوة: اركــب في الأمــام، فقــال: كيــف وأنــت أحــق؟ فقــال: هــذا أمــر، فلمــا وصلنـا -ومعنـا جـراب مـن طعـام وقربـة مـاء- أخـذ الجـراب مـن يـدي، فقلـت: دعـه لـي أنـا أحملـه، فقـال: هـذا أمـر، أعطنـي إيـاه، فحملـه على كتفـه وسـار بـه مسـافة حتـى خـدرت يـده، فأعطانـا إيـاه، ثـم طلـب قربـة المـاء وحملهـا، فلمـا وصلنـا إلـى نقطـة الربـاط تـم تقسـيم النوبـات وأماكـن الحراسـة، وكان مـع أبـي مصعـب اثنـان مـن الإخـوة، فقـال لهـم: أنـا سـأحرس النوبـة الأولـى وأنـت الثانيـة وأنـت الثالثـة، فذهـب المجاهـدان فنامـا بانتظــار نوبتهمــا، واســتمر الحكيــم مرابطــا طــوال الليــل حتــى طلــع الفجــر، فأيقظهمــا للصـلاة، ثـم في الصبـاح أخـذ الحكيـم يـدور على النقـاط ويحـرض المجاهديـن، وكان مجـرد رؤيتـه كافيـا لرفـع المعنويـات.
كان أبــو مصعــب يريــد أن يبايــع جميــع مــن في خــان الشــيح على المــوت، إلا أن ارتقــاء أعــداد كبيــرة مــن الشــهداء وإصابــة أعــداد أخــرى بالجــراح حالــت دون ذلــك.
أصيـب الحكيـم بجـراح في قدمـه في معـارك الصـد في خـان الشـيح، ثـم بـدأت المفاوضاتمـع النظـام مـن أجـل الخـروج مـن المنطقـة، فاشـترط النظـام تسـليم المهاجريـن فرفضـتفتـح الشـام ذلك بشـدة.
وعـدد المهاجـرون في خـان الشـيح ثلاثـة، فـأرادوا البقـاء في المنطقـة وتفخيخ أنفسـهم والقتـال حتـى الشـهادة، وكان الحكيـم عندمـا اتخـذ هـذا القـرار ولـى الإمـارة لأبـي جعفـر ،فلمـا بـدأ النـاس بالصعـود بحافـلات النقـل، قـال أبـو جعفر للحكيـم: اركـب، فقال: سـأبقى هنــا، فقــال: آمــرك أن تركــب فأنــا الأميــر الآن، فلــم يســع الحكيــم إلا أن يمتثــل، وتحســبا لأي طـارئ -فقـد كان للنظـام جواسـيس- أشـيع أن الحكيـم قـد بقـي في الخـان، وأمـر أبـو جعفـر جميـع عناصـر جبهـة النصـرة أن يلبسـوا لباسـا واحـدا ويتقنعـوا، وحمـل الحكيـم طفــلا صغيــرا معــه، فلــم يتمكــن الجواســيس مــن معرفــة المهاجريــن، وصــدق الإخــوة الإشـاعة فأخـذوا يبكـون لفقـد الحكيـم وحزنـوا حزنـا عظيمـا، فلمـا وصلـوا إلـى الشـمال ونزلـوا مـن الحافـلات عرفـوا الحكيـم مـن مشـيته فعـاد حزنهـم فرحـا، وكان الحكيـم يتصل بالجنـوب وينصـح المجاهديـن ويرشـدهم ويطمئـن على أحوالهـم.
شهادة الشيخ أبي أحمد أخلاق:
الدكتـور أبـو مصعـب الحكيـم هـو أخ ذو شـخصية فريـدة جمعـت بيـن عـدة صفـات متميـزة تجعـل منـه يسـتحق لقـب الطبيـب الاقتحامـي، وهـذا الأمـر نـادر في زماننـا.
الدكتــور أبــو مصعــب جمــع بيــن شــخصية القيــادة وأســلوب الداعيــة وجــرأة الانغماســي وشــفقة الطبيــب.
كان محبوبا بين إخوانه على مستوى الجماعة وكذلك على مستوى الأطباء والعامة.
نظـم أمـور المفصـل الطبـي وضبـط مـن تحتـه مـن إخوانـه بالمحبـة والشـدة عنـد الحاجـة ،فــكان مفصــلا متميــزا بعملــه، ورأيــت مــن الذيــن كانــوا يعملــون معــه محبــة شــديدة لقائدهـم، حتـى إنـه كثيـرا مـا يذكرونـه في مجالسـهم ويذكـرون حسـناته وإنجازاتـه.
كان نجاحــه وشــخصيته المتميــزة ســببا لاختيــاره بــأن يكــون موفــدا مــن الجماعــة إلــىمنطقـة خـان الشـيح المحاصـرة، وذلـك بعـد أن أعلنـوا حاجتهـم لطبيـب وكذلـك حاجتهـملقائـد يقـود الإخـوة مـن جنـود جبهـة فتـح الشـام في المنطقـة، ويكـون شـخصية مقبولةوقويـة تسـتطيع التواصـل مـع الفصائـل العاملـة في تلـك المنطقـة.
وعندمـا طـرح الأمـر عليـه لـم يتـردد ولـم يتأخـر، ورأى أن العمـل الـذي سـيقدم عليـه أهـم وأخطـر مـن العمـل الـذي هـو فيـه، فاقتحـم المخاطـر وسـافر إلـى منطقـة خـان الشـيح رغـم صعوبـة الطريـق وخطورتـه والحصـار الـذي كانـت تعانـي منـه المنطقـة.
وبالفعـل كان شـخصية متميـزة ومتوافقـا عليـه بيـن الإخـوة ومـع الفصائـل العاملـة في المنطقـة، وبقـي هنـاك إلـى أن خـرج وإخوانـه مـن المنطقـة المحاصـرة إلـى الشـمال.
مـن الأمـور المميـزة عنـده السـمع والطاعـة رغـم كبـر سـنه ومكانتـه كطبيـب والمنصـب الــذي كان يشــغله، تقبلــه الله تعالــى وجعــل مكانــه في علييــن.
شهادة الأخ أبي خليل معربة:
كان الشـيخ تقبلـه الله صاحـب همـة عاليـة، حريصـا على دعـوة النـاس، خدومـا لإخوانـه المجاهديـن، مـن المواقـف التـي أذكرهـا معـه:
في المعركـة التـي أصيـب فيهـا الشـيخ كان الجيـش يحاصـر القريـة التـي كنـا فيهـا مـن ثـلاث جهـات وكان عـدد المجاهديـن قليـلا، كان الشـيخ في الخـط الأول يصـد الجيـش مـع إخوانـه مـع حاجتنـا للـكادر الطبـي.
وكان أبو الزبير تقبله الله هو الأخ المسؤول.
فلمـا رأى أنـه لا يوجـد مـن يـداوي المصابيـن بـدأ يبحـث عـن الحكيـم، فسـألني: هـل رأيـت الحكيـم؟ فقلـت لـه: هـو في الصـف الأول مـع الشـباب، فقـال لـي اذهـب وأخبـره بينـك وبينـه، قـل لـه: «أسـألك بـالله يـا شـيخ ارجـع إلـى الـوراء إخوانـك المصابـون لا يوجـد مـن يداويهـم.»
فذهبــت وأخبــرت الحكيــم فعــاد وبــدأ يســعف الإخــوة، كنــا في المســجد وســط البلــد ،وبيــن الفينــة والأخــرى تأتــي رمايــات على المســجد.
خـرج أحـد الإخـوة مـن المسـجد وبـدأت الرمايـات وكانـت قريبـة جـدا، فخـرج الحكيم مسـرعا يتفقـد الإخـوة، فجـاء صـاروخ راجمـة قريبـا منـه ودخلـت شـظية في عينـه وشـظية في صـدره، فدخـل إلـى المسـجد مسـرعا وتمـدد على الأرض، وقفنـا فـوق رأسـه لنطمئـن عليـه كان صابـرا محتسـبا يذكـر الله كثيـرا.
وكان الحكيــم صائمــا في ذلــك اليــوم، وجــاء أحــد الممرضيــن إليــه يريــد منــه أن يفطــر ،فقـال لـه: لا، فذهـب إلـى الأخ أبـي الزبيـر، وقـال لـه: يجـب أن يفطـر، فقـال لـه أبـو الزبيـر: أفطـر يـا حكيـم، فقـال: بـل أصبـر لـم يبـق للمغـرب إلا القليـل، فكـرر عليـه الأمـر فرفـض وصبـر، ثـم غابـت الشـمس وقـال لـه أبـو الزبيـر: أفطـر يـا شـيخ. فقـال الحكيـم: متأكـد مـن غيـاب الشـمس، قـال لـه: والله لقـد غابـت، فأفطـر، فقـال لنـا الحكيـم وكان لا يـزال يلبـس جعبتـه ومتمـددا على الأرض: أعطونـي حبـات التمـر مـن الجعبـة، فأخرجناهـا لـه وأفطـر عليهـا، وكانـت إصابتـه تحتـاج أن يخـرج للعـلاج في الأردن، فخـرج وبعـد علاجـه عـاد مـرة أخـرى، وكان قـد فقـد عينـه.
موقــف ثانــي: كان الشــيخ متواضعــا يخــدم إخوانــه، ومــن شــدة تواضعــه أنــي صادفتــه مــرة مــن المــرات في وقــت الظهيــرة، وكان الإخــوة قائليــن )مــن القيلولــة( فذهبــت إلــى الحمامــات، فــكان الشــيخ أكرمــه الله قــد دخــل وأغلــق البــاب خلفــه وبــدأ بتنظيفهــا وإصــلاح عطــل فيهــا.
أسأل الله أن يتقبله ويجعل مثواه الجنة، وأن يثبتنا حتى نلقاه وهو راض عنا.
شهادة الأخ أبي خالد مسلم:
الحكيم أبو مصعب قد كان له من اسمه نصيب وشهادتنا به مجروحة.
انتقـل الحكيـم أبـو مصعـب إلـى الغوطـة الغربيـة قادمـا مـن درعـا في بدايـات عـام) 2016( لإلحـاح الإخـوة إلـى ضـرورة وجـود كادر طبـي تُسـانَد بـه الجماعـة وعامـة المسـلمين فيالمنطقـة لضعفهـا وفقرهـا طبيـا..
ولحكمـة الحكيـم واقعيـا بيـن إخوانـه وأثـره الطيـب في تصفيـة الشـحناء وتنقيـة القلوب ،فقــد كان أكثــر مــا يُذكّــر بــه إخوانــه ألا يحملــوا غــلاً على أحــد، وادعــوا الله أن يجعلكــم «ممـن أتـى الله بقلـب سـليم.»
وكان يكره جدا ذكر الفصائل بسوء، وكان يسعى لوحدة الصف مع الفصائل.
وقـد قـدر الله أن يجعلـه أميـراً علينـا في خـان الشـيح، وعندمـا أخبـره الإخـوة في درعـا عـن إصـدارِ قـرارِ تعيينـه أميـراً عليهـا رفـض الأمـر، فاسـتيقظ صباحـا على وقـع نشـر القـرار بيـن الإخـوة فاستسـلم للأمـر الواقـع وأخـذه بحقـه ولـم يفتـر فيـه قـط..
وأول ما قدم سعى لتوحيد الجهود ورص الصفوف.
كان صاحـب هـم وهمـة لا يعلـم بهـا إلا الله، وعندمـا تجلـس معـه لا تسـتطيع إلا أن تحـاول أن تجاريَــه في الطاعــة ومســاعدة إخوانــك في المقــرات وقضــاء حوائجهــم على أكمــل وجـه، وقـد جلسـت معـه في أحـد المقـرات مـدة مـن الزمـن فرأيتـه لا يتكبـر في عمـل ،يعمـل دون أن يشـعر بـه أحـد، تخـرج إلـى المطبـخ لتـراه يقـوم بإعـداد الطعـام وغسـل الصحــون فتنظــر إليــه على أنــه الأميــر والأب والأخ والصديــق في آن واحــد..
ومما كان يردده دائما: «وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى.»
وكان مـن دعائـه دائمـا: «اللهـم أحينـا سـعداء وأمتنـا شـهداء واحشـرنا مـع الأنبيـاء» أحبـه وأعجــب بــه القريــب والبعيــد، فقــد كان لا يلتفــت إلــى المســميات والخلافــات الجزئيــة ويحـاول إماتتهـا وإحيـاء روح الأخـوّة بيـن جميـع الفصائـل.
وقـد شـارك إخوانـه في صـد الحملـة على خـان الشـيح وأصيـب عـدة مـرات في الصفـوف الأولـى.. وكنـا نقـول لـه: لـن نسـمح لـك بالاقتحـام، تراجـعْ إلـى الخـط الثانـي، وإذا بـه يدخـل مـع فصيـل آخـر مـن محـور ثـانٍ، وكتـب الله لـه الإصابـة حينهـا ببعـض الرضـوض والشـظايا.
فقلنـا لـه: لمـاذا فعلـت ذلـك، فقـال: كلنـا مجاهـدون، ولـم تسـمحوا لـي بالدخـول معكـمفدخلـت مـع غيركـم..
وذات يــوم ضمــن الحملــة واســتنزافها لنــا، طلبــتْ إحــدى النقــاط أن نرســل لهــا أخــا أو اثنيـن لسـد نقطـة ربـاط، والحكيـم يعلـم أن الإخـوة مسـتنزفون متعبـون جميعهـم، فلـم يطلـب ولـم يأمـر أي أحـد ..
نظرنـا إليـه في غرفـة العمليـات وإذا بـه يلبـس جعبتـه ويُجهـز نفسـه للخـروج، فقلنـا لـه: مـاذا تفعـل؟ فقـال: سـأخرج لأرابـط في النقطـة.
فكان نعم الأمير والأب والأخ والصديق لإخوانه.
نسأل الله أن يجمعنا به في جنات النعيم على سرر متقابلين…
شهادة الأخ عمر الدمشقي:
كان الحكيــم شــديد التأســي بأخــلاق النبــي عليــه الصــلاة والســلام فــكان لنــا الأب والأخ والمربــي.
كان أول مـن يسـتيقظ لصـلاة قيـام الليـل فيتوضـأ ويصلـي ثـم يوقظنـا لنصلـي مـا تيسـر قبـل الفجـر، ومـا إن نسـتيقظ حتـى يقـوم بطـي الأغطيـة التـي كنـا ملتحفيـن بهـا ثـم يرتبهـا جانبـا.
كان أبـا لنـا يحثنـا دائمـا على العبـادات ويذكرنـا بالسـنة، حتـى إنـي ربمـا ناولتـه الشـيء باليـد اليسـرى فيومـئ لـي أن أعطنـي باليـد اليمنـى، وكذلـك لـو أردت أخـذ شـيء منـه باليسـرى أمسـك باليمنـى ووضـع الشـيء فيهـا، كان مـن تواضعـه لإخوانـه أنـه كان يضـع الطعــام لهــم وإذا كان فيــه لحمــا فــلا بــد أن يفتتــه بيــده ويضعــه أمــام الجميــع، كمــا يقـوم بتوزيـع الخبـز والملاعـق علينـا بنفسـه، فـإذا اطمـأن أن الجميـع بـدأ الطعـام أكل عندئـذ، وربمـا أطعـم بيـده مـن هـو عـن يمينـه أو يسـاره، فـإذا شـبعنا كان أول مـن يقـوم وينقـل الأوانـي إلـى المطبـخ ويجمـع الطعـام ويبـدأ مباشـرة بتنظيفهـا، فـكان جميـع مـنحولـه يسـتصغر نفسـه لعلـو همتـه وتواضعـه مـع كبـر سـنه بالنسـبة لمـن في المقـر.
لا تــرى منــه في مجالســه وفي حياتــه اليوميــة إلا العطــف والحنــان؛ فــإذا تعلــق الأمــربالقيـادة رأيـت منـه شـدة وحزمـا، فلـم يكـن يسـمح بالتقصيـر أبـدا، وكانـت المـدة التـيقضاهـا أميـرا في خـان الشـيح أفضـل مـدة مـرت على جبهـة النصـرة في خـان الشـيح، مـع أنـه كان دائمـا يفـر مـن الإمـارة مـع أنـه أخلـق النـاس بهـا.
عندمــا جــاء إلــى خــان الشــيح كان أول مــا بــدأ بــه إصــلاح مجلــس الشــورى -فقــد كان الأميـر السـابق يستشـير عـددا مـن الإخـوة الذيـن يثـق بدينهـم ولكنهـا لـم تكـن شـورى كمـا ينبغـي- فوسـع مجلـس الشـورى وأدخـل فيـه قيـادات المفاصـل، وأدخـل عـددا مـن الأشـخاص الذيـن رُشـحوا لذلـك، وقـد كنـت أحـد مـن أدخلـه الحكيـم إلـى مجلـس الشـورى كونـي مسـؤول المكتـب الإعلامـي.
وضــع الحكيــم نظامــا داخليــا لمجلــس الشــورى كيــف يعقــد ومتــى يحــل وكيــف يتخــذ القــرار وهــل يشــترط الإجمــاع أم الأكثريــة للإلــزام.
ومــن أكثــر مــا أذكــره مــن ضوابــط الشــورى أن الحكيــم كان يقــول: لــو طــرح موضــوع في الشـورى وقـال جميـع الحضـور: نعـم، إلا واحـدا قـال: لا، ثـم اتحـذ القـرار بالإيجـاب ثـم تبيـن أن القـرار الصحيـح السـلب فـلا يحـق لمـن كان رأيـه السـلب أن يقـول: ألـم أقـل لكـم؟ بـل عليــه أن يدافــع عــن قــرار مجلــس الشــورى، ويقــول: هــذا قرارنــا، فالبركــة في الشــورى والجماعـة.
وكانت عناصر الجبهة في خان الشيح في مدة إمارته تُحترم بشدة احتراما للحكيم.
كان الحكيــم حريصــا على الحيــاة الاجتماعيــة للإخــوة؛ فمــرة جمــع المتزوجيــن وأخــذ ينصحهــم نصائــح أســرية، كيــف تعامــل زوجتــك وكيــف تقــوم على رعايــة بيتــك وكيــف تربــي أبنــاءك… إلــخ.
كمـا جمـع الإخـوة القدامـى في جبهـة النصـرة فأثنـى عليهـم وشـكرهم وأهداهـم هدايـارمزيـة وكنـت بينهـم، ثـم قـال لنـا: سـنلعب لعبـة، سـأخرج إلـى خـارج الغرفـة ثـم أكتـبعلى ورقــة جملــة مكونــة مــن ثــلاث أو أربــع كلمــات، ثــم ســيخرج مــن الغرفــة شــخصوأعطيــه الجملــة مشــافهة لمــرة واحــدة، ثــم أدخــل فيخــرج الشــخص الأول مــن الغرفــة ويعطــي الكلمــة مشــافهة لمــن يليــه، ثــم يخــرج هــذا الثانــي مــن الغرفــة ويعطــي الكلمـة مشـافهة للثالـث، وهكـذا حتـى تمـر الجملـة على جميـع مـن في الغرفـة، فقلنـا: مســتعدون، ولــم نكــن نعــرف المغــزى مــن هــذه اللعبــة، بــل لــم نكــن نظــن أن وراءهــا مغــزى، وحســبنا أنهــا للهــو والتســلية فقــط.
وكانــت الكلمــة: «الأخ العســكري طلــب أربــع قذائــف إلــى الكميــن»، وتنوقلــت الكلمــة بالطريقـة التـي حددهـا الحكيـم حتـى وصلـت إلـى آخـر شـخص، فاسـتدعاه الحكيـم، وقال لـه: مـاذا قـال لـك مـن قبلـك؟ فقـال: قـال لـي: أبـو راشـد البـزال سـرق أربـع قذائـف ب90 وباعهـم وهـرب بثمنهـم إلـى لبنـان!
وكنـا عشـرين أو ثلاثيـن أخـا، وهنـا وقـف الحكيـم ليبيـن لنـا المقصـد مـن هـذه اللعبـة ،فقـال لنـا: سـبحان الله في خمـس دقائـق عشـرون أو ثلاثـون أخـا كلهـم مسـلم مجاهـد نظـن بجميعهـم خيـرا، ومـع ذلـك انظـروا كيـف تغيـرت الكلمـة تمامـا وتحرفـت، فهكـذا تصـدر الإشـاعة، فعليكـم بالتثبـت والتبيّـن.
وفي المعــارك كان الحكيــم يحــرص أن يكــون في الجبهــات ونقــاط الربــاط ويــزور غــرف العمليـات، فـكان كالمكـوك، لـم يكـن يهـدأ أبـدا، وبمـا أنـه طبيـب فهـذا كان عملـه في بدايــة المعركــة، فــإذا ســقط جرحــى ســارع لعلاجهــم والاهتمــام بهــم، وقــد أصيــب في إحـدى المعـارك في خـان الشـيح وكان مقتحمـا مـع الشـباب، ولكنها لـم تعقـه ولله الحمد.
قــدم مــن درعــا إلــى خــان الشــيح عبــر طريــق يمــر بحواجــز النظــام، ولذلــك اضطــر إلــى حلـق لحيتـه، فلمـا وصـل إلينـا كان دائـم التغطيـة لوجهـه بالشـماغ حيـاء مـن أن يـرى وهــو حالــق لحيتــه، حتــى إذا طالــت ومــلأت وجهــه كــف عــن تغطيتــه.
عندمــا يحــدث قصــف في وقــت متأخــر مــن الليــل ويكــون مظنــة ســقوط جرحــى كانالحكيـم يتواصـل معـي كونـي أحـب السـهر، ويقـول لـي: اتصلـت بالطبيـب الفلانـي فيالمشـفى ولكـن يبـدو أنـه نائـم أو غيـر موجـود أو غيـر منـاوب، فـإذا كان لديـك تواصـل مـعالمستشـفى فاسـألهم: هـل عندهـم جرحـى أو إصابات؟ فقـد كان يسـارع لإغاثـة الملهوف.
ولا أذكـر أن الحكيـم كانـت لـه سـيارة خاصـة، فقـد كان يركـب أي سـيارة أحيانـا، وغالبـا كان يتنقـل على الدراجـة الناريـة إمـا يقـوده بنفسـه أو يركـب مـع أي أخ ويقـول لـه: أوصلنـي بطريقــك، ولا أذكــر أن لــه مكتبــا خاصــا أو مقــرا خاصــا أو غرفــة خاصــة، أينمــا حــل وضــع لحافــا ونــام عليــه، وإذا وجــد في الليــل أحــد الإخــوة النائميــن وليــس لديــه غطــاء آثــره بغطـاء، وإذا وجـد أخـا قـد انكشـف عنـه اللحـاف قـام وغطّـاه.
قـام الحكيـم على إصـلاح البيـت الداخلـي في الجبهـة، فبعـد إصلاحـه لمجلـس الشـورى التفــت لترتيــب المجلــس العســكري والكتائــب، ثــم التفــت إلــى الأمــور الإداريــة )الذاتيــة والمسـتودعات والذخيـرة … إلـخ( ثـم انتقـل إلـى ترتيـب أمـور الفصائـل؛ حتـى إنهـم قالـوا: المـدة التـي تسـلم فيهـا الحكيـم الإمـارة في خـان الشـيح لـم يمـر مثلهـا مـن قبـل، ولو أن الحكيـم جـاء إلـى المنطقـة قبـل سـتة أشـهر لمـا سـقطت -)جـاء النهـي عـن « لـو» ولكـن ذكـرت هنـا للتاريـخ والاعتبـار(- فقـد كان رائعـا في التنظيـم والإدارة، فكانـت الفصائـل في عهـده في غرفـة عمليـات واحـدة حقيقيـة.
كان مــن اهتمــام الحكيــم بالتنظيــم أنــي إذا طلبــت منــه أمــرا يُطلــب مــن الإداري يقــول لــي: لمــاذا تطلــب منــي؟ اطلــب مــن الإداري.
في المعـارك الأخيـرة في خـان الشـيح سـأل الحكيـم مـرة عـن قائـد عسـكري، فقيـل لـه: هـو في المعركـة، فسـأل عـن آخـر، فقيـل لـه: في المعركـة، حتـى عـدّ ثمانيـا، فغضـب ،وقـال: هـذا فشـل إداري، كيـف يدخـل هـؤلاء جميعـا في معركـة واحـدة هكـذا، -وكانـت المعركـة شـديدة جـدا- ثـم أخـذ القبضـة وسـحب عـددا منهـم بالأمـر.
وفي المعـارك الأخيـرة لـم يبـق عـدد كاف مـن المجاهديـن ليصـدوا الجيـش، فـكان يتقـدم بسـهولة بعربـات شـديدة التصفيـح ولـم تكـن لنـا معهـا حيلـة، إضافة إلـى هزيمة نفسـيةعمـت الجنـود، وكان عـدد جنـود الجبهـة كاملـة سـبعين مقاتـلا فقـط، فاقتـرح الحكيـمعلى الشــورى أن يلغــي اســم الجبهــة بشــكل كامــل، ويفــك الارتبــاط بجبهــة النصــرة ،ويقـوم بحشـد المقاتليـن مـن جميـع الفصائـل بـدون أي مسـمى، واسـتفتى بعـض أهـل العلـم فأفتـاه بذلـك، ولكـن الشـورى رأت أن الأمـر منتـه ولا فائـدة مـن ذلـك.
تمكـن النظـام مـن قطـع الطريـق بيـن الزاكيـة وخـان الشـيح فحُرمنـا بذلـك مـن كل شـيء ،وصـار الحصـار علينـا شـديدا جـدا، ثـم تقـرر شـن عمـل عسـكري مـن جهتيـن لفتـح الطريق ،ولكـن لـم يكتـب لـه النجـاح لوجـود تخـاذل مـن طـرف زاكيـة، وبـدأت الفصائـل المفاوضـات مـن أجـل الخـروج إلـى الشـمال، وكان الحكيـم يريـد دائمـا الثبـات والمقاومـة حتـى آخـر طلقــة إلا أن الفصائــل اعتبــرت هــذا مــزاودة، وغضــب الثــوار في زاكيــة مــن قــرار خــان الشــيح، فاتصــل الحكيــم بأحــد القــادة هنــاك وطلــب منــه أن يفتــح الســماعة الخارجيــة ليسـمع مـن بقربـه مـن القـادة ففعـل بعـد مماطلـة، فقـال الحكيـم: اسـمعوا يـا شـباب ،هـذه آخـر مكالمـة بيـن خـان الشـيح وبيـن زاكيـة، نحـن هنـا فاوضنـا وعلى وشـك الخـروج ،فـإن أردتـم فتـح عمـل عسـكري فليكـن مـن جهتكـم أولا والتمهيـد بكاملـه مـن جهتـي ،ومـا إن يسـقط أول شـهيد منكـم أو أول قتيـل مـن النظـام سـتروني مقتحمـا مـن جهـة خـان الشـيح، وحدثـت مظاهـرات في زاكيـة تحيـي خـان الشـيح، ولكـن لـم يجـر أي عمـل عسـكري، فاضطررنـا إلـى الخـروج مـن خـان الشـيح، وكان الحكيـم يريـد الخـروج إلـى درعـا إلا أن معظـم الشـورى أرادوا الخـروج إلـى إدلـب لخـذلان درعـا لخـان الشـيح، فخالـف الشـورى في ذلـك وفـرض أن يكـون الخـروج إلـى درعـا وسـعى في المفاوضـات إلـى ذلـك.
وتـم الاتفـاق مـع النظـام أن يسـمح لمـن يريـد الخـروج مـن زاكيـة إلـى خـان الشـيح ومـن ثـم إلـى الشـمال.
فأعلـن الحكيـم أن الأميـر مـن الخـان إلـى إدلـب هـو أبـو جعفـر الطيـار، ثـم اختفـى الحكيم ومــن معــه مــن المهاجريــن، وجــاء أبــو جعفــر وخطــب فينــا قبــل الخــروج، فســألناه عــن المهاجريـن، فقـال: لا يسـألني عنهـم أحـد فلهـم ترتيـب خـاص، فبكـى الإخـوة وغضبـوا ،وقالــوا: نريــد أن نعــرف أيــن هــم ومــا هــو مصيرهــم، ولــن نخــرج مــن هنــا مــن دونهــم ،فقـال: اطمأنـوا هـم بخيـر ولا يسـألني أحـد أكثـر مـن ذلـك.
وتـم توزيـع الإخـوة على الباصـات؛ بحيـث يكـون فيـه عـزاب وعوائـل خشـية الغـدر، وكان يسـمح في كل بـاص بخمـس بنـادق ووضـع أميـر لـكل بـاص.
وأخذنـا المهاجريـن ووضعناهـم في نقطـة الربـاط، وتـم التعميـم أن يلبـس الجميـع لباسـا واحـدا ويتلثـم، ثـم ركبـت مـع والدتـي في أحـد الباصـات وجلسـت بجانـب رجـل أراه لأول مــرة يلبــس قبعــة ويضــع لثامــا، وجلســت أمــي وزوجتــي خلفــي، وســرنا، وبعــد ســاعة سـألت الرجـل الـذي بجانبـي كـم السـاعة؟ فأجابنـي، ثـم أخـذ يكلمنـي، وبعـد أكثـر مـن ســاعتين اكتشــفت أن الــذي بجانبــي هــو الحكيــم، وهــو متنكــر بطريقــة متقنــة، وتــم إخـراج باقـي المهاجريـن بهـذه الطريقـة دون علـم أحـد إلا مـن رتـب لهـذه الطريقـة، وعـدد المهاجريـن كامـلا ثلاثـة.
وكان الحكيـم يوجـه الجماعـة عـن طريقـي، قـل لفـلان: يفعـل كـذا، وفـلان يفعـل كـذا ،وظــل الحكيــم ملثمــا طــوال الطريــق حتــى وصلنــا إلــى قلعــة المضيــق، فاســتقبلنا المجاهــدون وركبنــا الباصــات، ووزعنــا على ثــلاث مراكــز إيــواء )معــرة شــورين وســرمين وفنــدق في إدلــب( والعــزاب أخــذوا إلــى مقــرات مباشــرة.
وممـا أذكـره في تلـك المـدة أن الحكيـم وأبـا جعفـر الطيـار بـذلا جهـدا عظيمـا في تأميـن مسـتلزمات الإخـوة المهجريـن مـن إغاثـة وأغطيـة ومـا إلـى ذلـك، ثـم سـعيا حتـى قابـلا الشـيخ الجولانـي بعـد جهـد، وأعطيـا سـيارة )فـان( فكانـا يركبانهـا ويبحثـان عـن مسـاكن للإخـوة مـع جهلهمـا التـام بالمنطقـة ومـن فيهـا، وتقـرر أخيـرا أن يكـون السـكن في معرة النعمـان، فـكان الحكيـم يأتـي إلـى الإخـوة ويطمئـن على أحوالهـم ويسـألهم عمـا كلفـوا بـه مـن أعمـال، ولمـا طلـب الحكيـم إلـى المفصـل الطبـي ليعمـل معهـم أراد أن يعمـل في الشـق الميدانـي إلا أنهـم رفضـوا ذلـك لمسـيس الحاجـة إلـى الحكيـم في أماكـن أخـرى.شهادة أبي جعفر الطيار:
وصـل الحكيـم تهريبـا إلـى خـان الشـيح مـع خطـورة الطريـق، وفـور وصولـه بـدأ جولـة في خـان الشـيح وتعـرف إلـى المنطقـة وجلـس مـع جميـع الأفـراد والمسـؤولين في الجبهـة وكنـت أحدهـم، وقـد جلـس معـي جلسـة خاصـة وسـألني لمـاذا تنازلنـا في معركـة ديـر خبيـة عـن إعـلان مشـاركتنا وقبلنـا بعـدم الأخـذ مـن الغنائـم وعـدم التواجـد في المنطقة المحـررة حديثـا، فأخبرتـه بأنـا قبلنـا بهـذه الشـروط حتـى لا تتحاصـر المنطقـة وليبقـى لهـا شـريان يمدهـا بالـدواء والغـذاء، وكان يظـن أننـا أخطأنـا في ذلـك، فلمـا سـمع ذلـك ،قــال: جزاكــم الله خيــرا، ونعــم مــا فعلتــم ولــو كنــا مكانكــم لصنعنــا كمــا صنعتــم، ثــم رفـع الصـورة إلـى القيـادة وجلّـى لهـم حقيقـة الأمـر. وتبنـى بقـوة التقـرب مـن الفصائـل والعمـل معهـا.
ثــم بعــد ذلــك قــال لــي -وكان ســريعا في الــكلام جــدا-: أنــت مكلــف باســتلام الهــاون والإشـراف على شـؤون الإخـوة فيـه وفي التصنيـع، فلـم أقبـل وجـرت بيننـا مشـادة، وقلـت لـه: أنـا لا أقبـل بذلـك، وأريـد أن أبقـى جنديـا، ولا أريـد اسـتلام أي منصـب، فغضـب، وقـال: أتظـن أنـي أمـزح معـك؟ سـتذهب إلـى هنـاك بالأمـر، فقلـت: لا تجبرنـي على عصيـان أمرك ،فقـال: لا يوجـد مـزاح هاهنـا ويجـب عليـك السـمع والطاعـة اذهـب فقـد انتهـى النقـاش.
كان رحمــه الله ذا شــدة في تطبيــق القــرار إذا كان مقتنعــا بــه، مــع حــزم وهيبــة تجبــر الجميـع على الامتثـال حتـى مـن هـو مشـهور بعـدم السـمع والطاعـة أو التباطـؤ فيهمـا.
كان ذا همـة عاليـة مـع كبـر سـنه مقارنـة بسـن الشـباب، ولـم أر في حياتـي أحـدا بهمتـه ،فقـد خصـص جـزءا مـن وقتـه لمتابعـة الجرحـى والمصابيـن سـواء أكانـوا مـن فصيلـه أم مـن الفصائـل الأخـرى، وألـزم نفسـه بـدوام في المستشـفى الميدانـي في قسـم العمليات كونــه طبيــب تخديــر، كمــا خصــص جــزءًا آخــر لزيــارة الإخــوة جميعــا، وخصصــا وقتــا آخــر لزيـارة الفصائـل والمجموعـات المقاتلـة في خـان الشـيح، وإضافـة إلـى ذلـك كان يشـارك في التدشــيم وحفــر الخنــادق والتحصيــن والرياضــة الصباحيــة مــع الانغماســيين على شـدتها فقـد كانـوا يركضـون عشـرة كيلـو متـرات وقـد يصـل إلـى العشـرين أحيانـا، وقـد أتـم معهـم الرياضـة بشـكل كامـل مـرات عديـدة.
كان مواظبــا على صيــام النوافــل والســنن الرواتــب وقــراءة القــرآن وحضــور الــدروس مــعالإخــوة.
لــم يكــن يجلــس مجلســا إلا ويذكِّــر فيــه بــالله بأســلوب جــذاب ومشــوق جــدا أيــا كان المجلــس؛ ســواء أكان عســكريا أم شــورى أم مجلــس للمدنييــن أم الجنــود، حتــى عندمــا يبيــع ويشــتري يذكّــر في الله، ويبيــن ســنن النبــي عليــه الصــلاة والســلام، فقــد كان حريصــا على اتباعهــا في كل صغيــرة وكبيــرة.
كان يتابــع الجرحــى بشــكل دقيــق جــدا، وكان يعاملهــم كأنهــم أبنــاؤه ويحــاول تذليــل العقبـات في علاجهـم، لدرجـة أنـه قـد ينظـف الأخ العاجـز عـن الحركـة ويميـط عنـه الأذى ،ولــم يكــن يســتنكف عــن ذلــك أبــدا، بــل يقــول: إذا أنــا لــم أخــدم الأخ فمــن ســيخدمه؟ بـذل نفسـه في الله ثـم لا أبـذل نفسـي في خدمتـه؟ فكانـت هـذه المواقـف تؤثـر فينـا جـدا ولا نسـتطيع أن نملـك أعيننـا.
في إحـدى المـرات احتجنـا بشـدة إلـى طبيـب عظميـة ولـم يكـن موجـودا، فقـام الأمنيـون بخطـف طبيـب عظيمـة مـن مناطـق النظـام وأحضـروه إلـى الحكيـم، فجلـس معـه وقـال لـه: لـن تخـرج مـن هنـا حتـى تعالـج جميـع الإخـوة الذيـن عندهـم إصابـات عظميـة، فرفض الطبيـب بدايـة حتـى لا يحسـب على المجاهديـن، فضغـط عليـه الحكيـم وهـدده، فأخـذ يعمــل، فقــال لــه الحكيــم: لــن أنســاك، ثــم دار على الفصائــل وجمــع لــه راتــب شــهري ألفـي دولار مقابـل العمليـات التـي أجراهـا، وألزمـه بمعالجـة جميـع مرضـى العظميـة مـن المدنييـن والعسـكريين.
وكان الحكيـم يقـوم بتدريـب المسـعفين طبيا ويرفـع سـويتهم العلمية عبـر دورات مكثفة ،وكان ينبـه العامليـن في المنظمـات أنهـم في جهـاد، ويقـول: يجـب أن لا تغفلكـم الأمـور الماديـة عـن ذلـك، واسـتطاع اسـتقطاب عـدد منهـم.
وكان في عملـه مـع الفصائـل يقـول: أنـا أعمـل على جمـع الكلمـة وتأليـف القلـوب بمـا يرضــي الله، وكان شــديد الكــره للنــزاع بيــن الفصائــل، واســتطاع تقريــب وجهــات النظــر ،ممـا أدى إلـى صمـود عـدد مـن الفصائـل معنـا في القتـال الأخيـر في خـان الشـيح.
كان يحســن الظــن بالفصائــل والمجاهديــن جميعــا، يرفــض النميمــة والطعــن والســباب والتشــهير، ويكــره القتــال الداخلــي جــدا، ويســأل الله أن يســلمه منــه، وقــد استشــهد بعــد مجيئــه مــن الجنــوب قبــل وقــوع القتــال الداخلــي بعــدة أيــام.
كان حريصـا على أمـوال الجهـاد؛ ففـي إحـدى المـرات فتـح حقيبة نقـوده أمامي )الجـزدان( ،وقـال لـي: هـذه الطبقـة فيهـا مـال الجماعـة، وهـذه الطبقـة فيهـا مالـي الخـاص، وهـذه الطبقــة تبرعــات، وهــذه الطبقــة صدقــات للإخــوة المحتاجيــن، حتــى تميــز بينهــم إذا قتلـت، وأنـا أضـع في جيبـي اليميـن مالـي الخـاص وأوراقـي الخاصـة، وفي اليسـار أضـع مـال الجماعـة وأوراقهـا.
كان شــديد الكــرم لا يبخــل بشــيء أبــدا، ويقــول: أنــا أبــذل نفســي وتعبــي ووجهــي لإخوانــي حتــى يســتمروا في جهادهــم.
في إحـدى المـرات بعـد تهجرينـا وكنـا في وضـع مـزرٍ فنصحنـا بعـض الشـباب بزيـارة بعـض المنظمـات أو التجـار لعلهـم يمـدون لنـا يـد المسـاعدة، فقـال لـي الحكيـم: هلـمّ فلنذهـب إلـى فـلان، فلمـا ذهبنـا إليـه طلـب منـه الحكيـم مسـاعدة الإخـوة، ولـم يطلـب لنفسـه شـيئا، فقـال لـه الرجـل: والله لقـد أحببتـك منـذ أن جلسـت إلـي وكل مـا تطلبـه فأنـا لـه مسـتعد، فقـال: لا أريـد لنفسـي شـيئا إنمـا أريـد للإخـوة كـذا وكـذا وكـذا، فقـال لـه: أبشـر وأعطــاه مــا طلــب وزاده، فلمــا خرجنــا قلــت لــه: قــد بذلــت مــاء وجهــك بشــكل شــديد ،ولــو كنــت مكانــك لــم أفعــل فعلــك، فقــال: إنمــا بذلــت مــاء وجهــي مــن أجــل إخوانــي وذلـك في سـبيل الله وأحتسـبه عنـد الله، ومـع أننـا أخذنـا مـن الرجـل سـيارتين مليئتيـن إلا أن الحكيــم لــم يأخــذ لنفســه ســوى قميــص واحــد ومســتلزمات طبيــة ليســاعد بهــا المجاهديـن، ولـم يقبـل أن يأخـذ أي شـيء آخـر، حتـى عندمـا جاءتـه سـلة إغاثيـة ومـال قـام بتوزيعهمـا على الإخـوة.
بعـد وصولنـا إلـى الشـمال نزلنـا في سـكن مؤقـت، واتخـذت كل أسـرة غرفـة، فـرأى الحكيمتكاسـلا عـن العبـادة، فنظـف غرفـة خرِبَـة وجهزهـا وجعـل منهـا مسـجدا، وصـار يـؤذن فيأوقـات الصـلاة، ويطـرق بـاب الغـرف يدعـو الإخـوة إلـى صـلاة الفجـر جماعـة، ثـم يعقـدحلقـة قرآنيـة، واسـتمر على ذلـك حتـى تـم تأميـن بيـوت للإخـوة، فـكان يسـاعدنا في نقـل الأغـراض وحملهـا وتجهيـز البيـوت بشـكل كبيـر جـدا.
كان الحكيـم إذا رأى فوضـى في المقـر قـام بترتيبهـا بنفسـه، وإذا رأى المطبـخ يحتـاج إلـى تنظيـف قـام بذلـك، فـإذا رآه الشـباب خجلـوا وقامـوا لمعاونتـه، ولـم يكـن يطلـب مـن أحـد فعـل ذلـك إلا ممـن يشـتهر بالكسـل تنشـيطا لهـم وتعويـدا على العمـل والجـد، ومـع ذلك كان إذا أمرهـم يعاونهـم، ولا يمكـن لأحـد لا يعرفـه أن يظـن أنـه أميـر، فهـو أكثـر مـن يخـدم في المقر.
كان لا يتــرك معركــة إلا وشــارك فيهــا، وكان يقــول: الانغمــاس لا يقــدم أجــلا ولا يؤخــره ،دخـل منغمسـا مـع أحـد الفصائـل في إحـدى المعـارك مـن محورهـم دون علـم الجبهـة، ثـم فوجئنـا بنـداء عبـر القبضـات «الحكيـم مصـاب» فقـد رمت عليهـم دبابـة العدو فاستشـهد شـاب وأصيـب آخـر كمـا أصيـب الحكيـم، وكانـت إصابـة الحكيـم خفيفـة، فأسـند الشـاب المصـاب وخرجـا معـا، وكانـت هـذه إصابتـه الرابعـة أو الخامسـة ففـي خـان الشـيح كانـت هـذه إصابتـه الثانيـة وقبلهـا في درعـا أصيـب مرتيـن أو ثلاثـة.
كان حسـن الظـن بالفصائـل جـدا، وقـد نـدم لأنـه لـم يرسـل أحـدا مـن الجبهـة ليفـاوض مـع الفصائـل، ولـم يكـن يرضـى أن يقـول أحـد: إن الفصائـل قـد غـدرت بعـد مـا جـرى مـن تهـاون في المفاوضـات، وقـال: نحـن أخطأنـا؛ لأننـا لـم نرسـل أحـدا مـن جهتنـا.
جـرت مفاوضـات مـع الـروس مـن أجـل الخـروج مـن خـان الشـيح، فاشـترط الـروس تسـليم السـلاح بشـكل كامـل وتسـليم المهاجريـن، وبعـد مفاوضـات طويلـة تنـازل الـروس عـن شــرط تســليم الســلاح وبقــوا مصريــن على تســليم المهاجريــن، وبــدأت بعــض الفصائــل بالخــروج مــن خــان الشــيح، ولــم يبــق في خــان الشــيح إلا جبهــة فتــح الشــام وبعــض المجموعـات المقاتلـة، وأخبرَنَـا الحكيـم بذلـك، فقلنـا: ألـم يتنازلـوا عـن هـذا الشـرط كمـاقيـل لنـا؟ فقـال: أنـا لـم أسـتطع أن أخبركـم بعـدم تنازلهـم حتـى لا تخفـق المفاوضـات ،ونحــن لــم نعــد قادريــن على الصــد، فقــد اســتنزفنا بشــكل كبيــر -وكان هنــاك ثلاثــة مهاجريــن فقــط-، ثــم قــال: نحــن نصبــر، وقــد أفتانــا أهــل العلــم والمشــايخ بــأن ننفــذ عمليــات استشــهادية بعــد خروجكــم.
فجـرى خـلاف شـديد في الجبهـة، وقـال الشـباب: إذن نبقـى جميعـا، فلـم يقبـل الحكيـم بذلـك، وأمرهـم أمـرا أن يخرجـوا، وأمّـر أحـد الشـباب علينـا، فقـال الأميـر الجديـد: إمـا أن نخـرج جميعـا أو نبقـى جميعـا، فقـال الحكيـم: بـل تخرجـون وأبقـى أنـا، فانفـرد الأميـر الجديـد بأبـي مصعـب، وقـال لـه: مـن الأميـر أنـا أم أنـت؟ فقـال: بـل أنـت، فقـال: أليـس لـي حـق السـمع والطاعـة عليـك؟ فقـال: بلـى، فقـال: إذا سـتخرج معنـا وأنـا سـأرتب الأمـر فـلا تهتـم بذلـك، فقـال الحكيـم: قـد أفتانـي أهـل العلـم أن أفجـر نفسـي بالكفـار بعـد خروجكـم وأنـكل بهـم وتكونـون أنتـم قـد وصلتـم بأمـان، فقـال: لا نقبـل بهـذا الـكلام ،ولـن نسـلمك أبـدا وسـتخرج معنـا.
ثــم اســتقر الأمــر أن يخــرج المهاجــرون ســرا، وأعلــن أمــام الجميــع أن الحكيــم ســيبقى وسـينفذ عمليـة استشـهادية، وطلـب مـن الجميـع أن يلبسـوا السـواد ويتقنعـوا بالسـواد ،وأُلبـس الحكيـمُ السـوادَ كباقـي الشـباب، وصعـد البـاص دون أن يشـعر أحـد، ومنـع الأميـر الجديـد المهاجريـن أن يتكلمـوا مـع أحـد، ووصلـوا بخيـر وسـلامة ولله الحمـد.
استشهاده:
أخبرنــي الأخ أبــو جعفــر الطيــار فقــال: بعــد خروجنــا بشــهر تقريبــا جلــس الحكيــم في بيتـي مـع مسـؤولي المفاصـل وكانـوا سـبعة أو ثمانيـة، وجـرى الحديـث حـول الانخـراط في العمـل في الشـمال، وبقـي المجلـس منعقـدا إلـى السـاعة الثانية عشـرة ليلا، ثـم أراد الحكيـم الذهـاب، فرجوتـه أن ينـام عنـدي تلـك الليلـة، فرفـض، وقـال: أنـت متـزوج حديثـا ولا أريـد مضايقتـك، فقلـت: لا يوجـد مضايقـة، فأبـى وذهـب إلـى المقـر، وهـو يبعـد عـن بيتـي قرابـة العشـرة كيلـو متـر، فلمـا وصـل رأى الحـرس نائميـن وجميـع الإخـوة نائميـن أيضـا، فأيقـظ الجميـع وقسـا عليهـم في الـكلام، وعاقبهـم جميعـا بـأن طلـب منهـم نـزعأحذيتهـم والخـروج مـن المقـر وكان الجـو بـاردا، ونـزع حـذاءه أيضا، وقـال: عندكـم الآن درسرياضـة، ثـم أخـذ يركـض وهـم يركضـون وراءه حتـى طـار النـوم مـن عيونهـم، ثـم جلـسمعهـم وشـرب كأسـا مـن الشـاي، ونصحهـم بعـدم إهمـال ثغـر الحراسـة أو التهـاون فيـه ،ثـم قـال: لنرتـح الآن قليـلا كـي نسـتيقظ للسـحور.
وبعــد أن رتــب نوبــات الحــرس، قــال لهــم: لقــد عاقبــت نفســي معكــم حتــى لا تظنــوا أنـي أفـرض عليكـم شـيئا، فنحـن في نهايـة الأمـر إخـوة، ثـم نامـوا في المغـارة -وهـي غرفتــان ولهــا مدخــل واحــد- وبقــي الحــرس مســتيقظين، وقبيــل الفجــر بــدؤوا بإيقــاظ الشـباب لصـلاة قيـام الليـل وللسـحور، وجـاء أحـد الإخـوة -استشـهد رحمـه الله- ليشـعل المدفـأة، ولـم يكـن بقـي في الداخـل إلا الحكيـم -الـذي كان متعبـا جـدا ولـم يمـض على نومـه إلا مـدة يسـيرة- وأحـد الشـباب، فأخطـأ الشـاب الـذي أراد أن يشـعل المدفـأة؛ فبـدل أن يأخـذ المـازوت أخـذ الـكاز ووضـع الحطـب، ثـم أفـرغ مـن الغالـون على المدفـأة وفيهـا جمـر، فاشـتعل مباشـرة واشـتعل الغالـون وانفجـر في يـد الأخ واشـتعلت فيـه النـار، فرمـى الغالـون مـن يـده وفـر إلـى خـارج المغـارة، وأخـذ يصيـح، فجـاء الإخـوة وأطفـؤوه، فقـال لهــم: الحكيــم وأبــو معاويــة في الداخــل، فانطلــق الشــباب إلــى المغــارة فلــم يتمكنــوا مــن الدخــول لشــدة اشــتعال النــار، فقــد كان في المغــارة إســفنج وبطانيــات، وقــد نجــا أبـو معاويـة -استشـهد في معـارك خـان شـيخون- وقـال للإخـوة بعـد ذلـك: اسـتيقظت فوجـدت النـار مشـتعلة في كل مـكان ولـم أبصـر شـيئا سـواها، فظننـت في بـادئ الأمـر أنــي في نــار جهنــم فارتعــدت، وأخــذت النــار تحرقنــي فتشــهدت، وعرفــت أنــي حــي ،فوقفـت وأخـذت أتلمـس الجـدران حتـى خرجـت والنـار تـأكل المـكان بشـدة.
وقــد احتــرق أغلــب جســد أبــي معاويــة إلا أن الحــروق كانــت مــن الدرجــة الأولــى والثانيــة والثالثـة، وأمـا الحكيـم فيبـدو أنـه لـم يسـتيقظ مباشـرة، فاحتـرق بشـكل كامـل، حتـى جـاء الدفـاع المدنـي، وبعـد إخمـاد الحريـق وجـدوا الحكيـم بعيـدا عـن مـكان نومـه متـرا أو مترين ،وقـد ذكـر لـي الإخـوة أنـه كان في وضعيـة قريبـة مـن السـجود رحمـه الله، ونسـأل الله ألا يجمـع على أخينـا نـار الدنيـا والآخـرة، وأن يجعـل مـا أصابـه كفـارة لذنوبـه ورفعـة لدرجاتـه.وقـد أخبرنـي عمـر الدمشـقي نقـلا عـن الأخ أبـو خليـل زبيـر -استشـهد في معـارك شـرقالسـكة- أنهـم لمـا دخلـوا المغـارة وجـدوا الحكيـم على هيئـة السـجود، وكان قـد أوصـىبحـرق جوالـه في حـال استشـهاده فاحتـرق الجـوال معـه، ودفـن الحكيـم بمعـرة شـمارينبعـد أن أصـر أهلهـا على ذلـك لشـدة محبتهـم لـه رحمـه الله.
وكان رحمـه الله قبيـل استشـهاده اتصـل بإخوانـه في درعـا واطمـأن على أحوالهـم، وقـال لهـم: غـدا سـألتقي بالشـيخ الجولانـي، فمـاذا تريـدون أن أقـول لـه باسـمكم؟ ثـم إنـه أخبرهـم أنـه سـوف يأتـي إلـى درعـا بعـد أن تمـت المواقفـة لـه على ذلـك، إلا أنـه لـم يلبـث بعـد ذلـك سـوى بضعـة أيـام حتـى استشـهد رحمـه الله.
يقـول الدكتـور أبـو حسـين: حـزن على فقـده كل مـن عرفـه، ومـا ذُكـر أمـام أحـد إلا تألـم لوفاتـه وأثنـى عليـه خيـرا، فقـد كان رجـلا قـل نظيـره، وقـد كان في الجنـوب شـائعا «لـو كانـت الجبهـة جميعـا كأبـي مصعـب لصـار الجنـوب كامـلا جبهـة.»
عـن جابـر بـن عتيـك رضـي الله عنـه أن رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلم قـال: «وَمَـا تَعُـدُّونَ الشَّـهَادَةَ؟ قَالُـوا: قَتْـلٌ فِي سَـبِيلِ اللَّهِ، فَقَـالَ رَسُـولُ اللَّهِ صلـى الله عليـه وسـلم: الشَّـهَادَةُ سَـبْعٌ سِـوَى الْقَتْـلِ فِي سَـبِيلِ اللَّهِ؛ الْمَطْعُـونُ شَـهِيدٌ، وَالْغَـرِقُ شَـهِيدٌ، وَصَاحِـبُ ذَاتِ الْجَنْـبِ شَـهِيدٌ، وَالْمَبْطُـونُ شَـهِيدٌ، وَصَاحِـبُ الْحَـرْقِ شَـهِيدٌ، وَاَّلـذِي يَمُـوتُ تَحْـتَ الْهَدْمِ شَــهِيدٌ، وَالْمَــرْأةُ تَمُــوتُ بِجُمْــعٍ شَــهِيدَةٌ» رواه أحمــد وأبــو داود والنســائي والبيهقــي في الشـعب والحاكـم في المسـتدرك، وقـال: هـذا حديـث صحيـح الإسـناد ولـم يخرجـاه رواتـه مدنيـون قرشـيون.
يقـول أحـد إخوانـه: في الليلـة التـي مـات فيهـا الحكيـم رأيـت في منامـي أنـي دخلـت حـارة، فوجـدت عـن يمينـي امـرأة متزينـة بشـكل عجيـب، فغضضـت بصـري، ودخلـت غرفـة إلـى اليسـار فوجـدت الحكيـم وبيـده تمـرة، فعانقنـي -وكان في اليقظـة أعطانـي ملفـات طبيـة bdf((- فقـال لـي: مـاذا فعلـت بهـا؟ فقلـت: أعطيتهـا لأبـي عمـر وهـو سـيعطيهم للإخـوة.
الخاتمة:
قيــل: إن الألقــاب تنــزل مــن الأســماء، وقــد وجــدت هــذا جليــا في ســيرة الحكيــم أبــيمصعـب، فمـا مـن أحـد يعرفـه طلبـتُ شـهادته إلا وصفـه بالحكمـة ولقبـه بالحكيـم، مـعأن هنــاك أطبــاء كُثــر غيــره في الجنــوب إلا أنــه يقــال عنهــم دكاتــرة.
إننـا بأمـس الحاجـة اليـوم في جهادنـا الشـامي إلـى حكمـة كحكمـة الحكيـم أبـي مصعب ،يجيـد التعامـل مـع الموافـق والمخالـف، ويراعـي أفهـام النـاس، ويسـعى لـزج الأمـة كلهـا بالمعركــة القائمــة مــع الكفــر، ويجتنــب الصــدام مــا وجــد إلــى ذلــك ســبيلا، ولا يقصــي أحـدا، ويعتبـر المنصـب وسـيلة لخدمـة المجاهديـن والسـعي في حوائجهـم، ويحـرص على أن يكـون الجانـي لثمـرات الجهـاد هـم المجاهديـن أنفسـهم وليـس السـفهاء القاعديـن في الفنــادق المتاجريــن بدمــاء الأمــة اللاهثيــن وراء حطــام الدنيــا، ويراقــب الله في كل صغيــرة وكبيــرة، ويســعى لمرضاتــه تبــارك وتعالــى دون التفــات إلــى ســخط النــاس أو رضاهـم، ويـوفي العهـود ويلتـزم الأمـان ولـو لكافـر، يليـن في موضـع الليـن ويشـتد في موضـع الشـدة، يربـي المجاهديـن على طاعـة الله ومحبتـه والخـوف منـه، ويـزرع بينهـم الألفـة والمحبـة، ويحذرهـم مـن الشـحناء والبغضـاء، يتقدمهـم في المعـارك والاقتحامـات معطيـا إياهـم دروسـا بالفعـل قبـل القـول، فرحمـه الله رحمـة واسـعة وتقبـل منـه جهاده وهجرتــه ونفقتــه ورفــع درجتــه في الجنــة، وجــزاه عــن أهــل الشــام خيــر الجــزاء وأتمــه وأكملـه، وجمعنـا بـه في الجنـة مـع سـيد المرسـلين محمـد صلـى الله عليـه وسـلم في جنـات ونهـر في مقعـد صـدق عنـد مليـك مقتـدر.