دعوات الساسة الأتراك للتصالح مع بشار.. دعاية انتخابية أم تعبير عن توجه سياسي حقيقي؟ – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٤٤
الأستاذ: حسين أبو عمر
منذ آب 2022 وحتى الآن خرجت تصريحات كثيرة من المسؤولين الأتراك، عبروا من خلالها عن استعدادهم لتطبيع العلاقات مع “نظام” الأسد، وعن ضرورة إجراء مصالحة بين “النظام” السوري و “المعارضة” السورية.
بدأ وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في آب هذه التصريحات، ثم تابعه نائب رئيس حزب العدالة والتنمية حياتي يازيجي، فرئيس الحركة القومية دولت بهجلي، ثم أعلن الرئيس التركي أردوغان عن استعداده للقاء بشار.
أما المعارضة التركية التي ما فتئت تصرح عن نواياها في تطبيع العلاقات مع بشار، فقد أرسلت له مؤخرا رسالة تتعهد فيها بـ “تلبية جميع مطالب حكومة الأسد” في حال وصلت إلى الحكم، كما جعلت أحد شعارات حملتها الانتخابية “تركيا لن تكون مخيما للاجئين”، متوعدة بإخراج اللاجئين السوريين من البلد خلال مدة معينة في حال وصولها للحكم.
التصالح مع “نظام” بشار وإخراج اللاجئين السوريين من تركيا تكاد تكون هي القضية الوحيدة التي تتفق فيها خطابات وسياسات التحالف الحاكم في تركيا مع خطابات ودعاية المعارضة، تلك المعارضة التي لا يجمع بينها شيء سوى معارضة أردوغان وتحالفه الحاكم، ومحاولة إزاحته من السلطة؛ اتفقت معه في هذه القضية.
أما لماذا هذا التوافق بين المعارضة وبين أردوغان في الملف السوري؟
فبعد الضخ الإعلامي الكبير الذي مارسته المعارضة التركية حول قضية اللاجئين السوريين في تركيا، وتضخيم أثرهم على الاقتصاد والأمن وعلى المجتمع التركي -شيء لا يذكرنا إلا بالـ “إسلاموفوبيا” في الغرب- باتت ورقة اللاجئين تلعب دوراً كبيراً في اختيار الناخب التركي، وأضحى تكرار الإعلان عن إعادة اللاجئين وسيلة انتخابية، يتسابق إليها كلا الطرفين لدغدغة مشاعر الناخب التركي، ولكسب صوته الانتخابي، واختفت شعارات “المهاجرين والأنصار”، وغيرها من الشعارات..
في الحقيقة، يُظهر النموذج التركي اليوم واحداً من عيوب الديمقراطية الكثيرة، حيث يكون مزاج الجماهير المتقلب، القابل للخداع والتضليل، هو المحرك الأساسي لسياسات الحاكم، لا القيم والمبادئ، ولا حتى النظر في مصالح الدولة الاستراتيجية، والسعي لإرضاء هذه الجماهير وكسب صوتها الانتخابي هو العامل الحاسم في تبني الأحزاب المتنافسة لخطاباتها وسياستها.
سبب هذا التأثير القوي لمزاج الناخب على سياسات الدولة التركية اليوم هو أن الدولة التركية تمر بمرحلة انتقالية، مرحلة انتقال السلطة من نخب ومؤسسات كانت تمسك بزمام الحكم -حقيقة- في السابق، إلى نخب جديدة، ما زالت في مرحلة تثبيت ركائزها في هذه المؤسسات، ولم ترسخ قدمها بعد؛ على خلاف الدول التي تحكمها ديكتاتوريات، أو مؤسسات / بيروقراطية راسخة؛ كما في الغرب.. ما تعاني منه الدولة التركية أنها تمر بمرحلة أقرب ما تكون للديمقراطية الحقيقية لا تبادل أدوار على السلطة.
أورثت هذه الحالة تناقضا حاداً بين الأحزاب المتنافسة على الحكم، إلى درجة أن صارت المعارضة تشاكس أردوغان في كل شيء، والمشكلة الأكبر أنه في ظل عدم رسوخ المؤسسات / البيروقراطية الجديدة سيكون بمقدور من يفوز بالانتخابات ويستلم السلطة أن يوجه دفة السياسة حيث يريد، أو بالأحرى حيث تريد الجماهير؛ والنتيجة هي حالة من عدم استقرار السياسات.
عوداً إلى موضوع المقال الأساسي، فكما أسلفنا فإن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه فرقاء السياسة الأتراك هو التخلص من ملف اللاجئين السوريين، والتطبيع مع بشار، وإجراء مصالحة بين “نظام” بشار و “المعارضة”.
وهذه المواضيع يكاد يجمع المراقبون والمختصون بالشأن التركي على أنها توجه حقيقي، وليست مجرد دعاية انتخابية يمارسها طرفا المنافسة السياسية من أجل كسب الأصوات، فأيًّا كان الفائز في الانتخابات فإنه سينفذ هذا التوجه.
التحالف الحاكم في تركيا بات ينظر إلى الثورة السورية كعبء سبب لهم أضراراً كبيرة، وبات ينظر إلى موضوع اللاجئين كخطر مهدد لاستمرارهم في الحكم؛ فإن استطاع تجاوز هذه الانتخابات فلن يترك هذا الخطر يرافقه في الفترات اللاحقة، هذا إن لم يفعل الكثير من هذه الخطوات قبل موعد الانتخابات.
أما المعارضة، وهي التي تعلم جيداً أن أكثر شيء هاجمت به أردوغان هو موضوع اللاجئين، فإن استطاعت أن تحقق الفوز في الانتخابات فإنها ستسعى مباشرة للتخلص من هذا الإرث.
* هذه الحقائق يكاد يُجمع عليها المراقبون للشأن التركي، إلا نخب وقوى الثورة السورية، أصحاب الشأن، فإنهم يعيشون حالة “إنكار” تجاه ذلك:
– يمنُّون أنفسهم مرة بأن هذا ليس توجهاً حقيقياً وإنما مجرد دعايات انتخابية.
– ومرة أخرى يعلقون آمالهم على الشروط التي وضعها أردوغان من أجل التطبيع مع بشار؛ متناسين شروط أردوغان التي وضعها من قبل من أجل التصالح مع السيسي، وابن زايد، وابن سلمان، ثم أخلفها كلها.
– وتارة يخدعون أنفسهم بالاتفاقيات والقوانين الدولية المتعلقة باللاجئين، وأنه لن يستطيع أحد تجاوزها، متناسين أن الأتراك يسفِّرون يوميا أعداداً ليست قليلة من اللاجئين إلى الشمال السوري، وأنهم يمتلكون الكثير من الأدوات الأخرى التي تمكنهم من دفع المهاجرين للخروج من البلد، من تضييق في العمل، والمسكن، والحصول على الخدمات، وغيرها من الأدوات.
– وهنالك قسم آخر يعي كل هذه الأخطار، ولكنه، يتعامل معها بتخاذل ولا مبالاة عجيبة.
– وقسم أخير ينتظر حصول المصالحة ليتوجه للعمل الأمني، مدعيا أن البيئة ستكون مهيأة لذلك مستصحبا نموذج درعا؛ ولم يدر أن درعا على الوضع التي هي عليه اليوم، لأنه يُراد لها أن تكون نموذجاً تقتدي به باقي المناطق، وما أن تُصبح باقي المناطق مثلها حتى يتم سحق البقايا المتبقية فيها، وفرض القبضة الأمنية عليها، مثلها مثل باقي المناطق.
– وأقسام أخرى تتراشق التهم، كل يلمز صاحبه بأنه مشروع مصالحات…
* إشكالية الثورة السورية أنها تفتقد للنخب الواعية، التي تكون على قدر الحدث، وتتحمل المسؤولية المناطة بها.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤هـ