جواب أمٍّ في جلسة رمضانية مجلة بلاغ العدد ٧٠ – رمضان ١٤٤٦ هـ⁩

الآنسة: خنساء عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء رمضان هذا العام على سوريا الشام بتغيرٍ هائلٍ وانقلابٍ في الأوضاع وسقوط طاغيةٍ لا تملك الكلمات وصف سوء حكمه للبلاد، ولكن هل انتصر الإسلام؟ هل عادت الحقوق لأصحابها؟

لقد جاهد المجاهدون وعمل العاملون وعمل المسلمون كلٌ بما في وسعه وتعلقت قلوب الجميع بنصر الإسلام حتى المظلومون توقفوا عن المطالبة بمظالمهم خوفًا من أن يصب ذلك في مصلحة الأعداء.! ولكن ما النتيجة؟ هل رأينا مراعاةً لحق الله في إظهار شرعه ومحاربة من حاده؟

أم على العكس؟ 

رُفع شأن العصاة، وأُكرمت السافرات الكاسيات العاريات، وهُمش المجاهدون والدعاة، وغُسلت جرائم الطغاة، وخون الأمين وأتمن الخائن.

هذه الأوضاع كادت أن تودي بثبات هذا الشاب الذي ربته أمه على حب شرع الله والعمل لأجله حتى كاد يصدق كذبة الاحتجاج بالسياسة والحكمة في تنحية شرع الله وعدم الحكم به، فسارعت الأم بإحضار مقالٍ قديمٍ يجلو الحقيقة ويثبت الأقدام، وكانت من ضمن ما قرأته له هذا الكلام الذي أسوقه ليكون نبراسًا لكل أمٍ تأخذ بيد أسرتها لجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.

“يا لأسرار الحياة العظيمة التي هيأها رب العالمين لرسوله صلى الله عليه وسلم.

لقد ملأ الله عز وجل حياة رسوله صلى الله عليه وسلم بالمواقف والمشاهد التي تقطع دابر كل احتمال وتقطع السبيل إلى كل وسواسٍ شيطانيٍ يحرف مسيرة الصادقين.

كان من جليل حكمة الله تعالى: أن يقوم مشركو قريش بسلسلةٍ من المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن صوروا في أنفسهم كل الاحتمالات، وهم أدرى الناس بطبيعة دعوته، والغاية البعيدة، من رسالته، وبأنه لن ينزل عند شيءٍ من مغرياتهم، ولكن هكذا شاء الله حتى ينطق التاريخ بتكذيب كل من سيأتي من مدعي الحكمة والسياسة، لقد سخر الله عتبة بن ربيعة وأمثاله لحمل هذه الدوافع والآمال، ووضعها بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم لينالها قريبة سائغة، وليبصر قريش كلها وقد دانت له وألقت من يدها ما رفعته من السلاح ووسائل التعذيب في وجهه ووجه أصحابه، فلماذا لم يلن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم؟ ولم يتحول إلى هذه الغنيمة التي سيقت إليه؟ ما دام أنه دافع من وراء رسالته ودعوته لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مفاوضة طويلة وتخويف وترغيب وتهديد: «ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

فهل هناك جوابٌ أبلغ من هذا لسؤالنا: هل الحكمة أن تضع أنت السياسة التي تراها في سير الدعوة مهما كانت كيفيتها ومهما كان نوعها؟ وهل أعطاك الشارع صلاحية أن تسلك أي سبيلٍ أو وسيلةٍ تراها؟ ما دام هدفك من وراء ذلك هو الحق؟

إن الشريعة تعبدتنا بالوسائل كما تعبدتنا بالغايات فليس لك أن تسلك إلى الغاية التي شرعها الله لك إلا الطريقة المعينة التي جعلها الله وسيلة إليها، وللحكمة والسياسة الشرعية معانٍ معتبرة لا شك في ذلك، ولكن في حدود هذه الوسائل المشروعة فقط. فقد كان من المتصور في باب الحكمة والسياسة أن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بالزعامة والملك على أن يجمع في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلةً إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد خصوصًا وأن للسلطان والملك وازعًا قويًا في النفوس، والحقيقة أنه لو جاز أن يكون مثل هذا الأسلوب نوعًا من الحكمة والسياسة الرشيدة، لانمحى الفرق بين الصادق الصريح في صدقه والكاذب الذي يخادع في كذبه، ولتلاقى الصادقون في دعوتهم مع الدجالين والمشعوذين على طريق واحدة عريضة اسمها الحكمة والسياسة.

إن هذا الدين يقوم على عماد الشرف والصدق في كلٍ من الوسيلة والغاية فكما أن الغاية لا يقومها إلا الصدق والشرف وكلمة الحق، فكذلك الوسيلة لا ينبغي أن يخُطها إلا مبدأ الصدق والشرف وكلمة الحق، ومن هنا يحتاج أرباب الدعوة الإسلامية في معظم حالاتهم وظروفهم إلى التضحية والجهاد لأن السبيل التي يسلكونها لا تسمح لهم بالتعرج كثيرًا ذات اليمين وذات الشمال، ومن الخطأ أن تحسب مبدأ الحكمة في الدعوة إنما شرع من أجل تسهيل عمل الداعي أو من أجل تفادي المآسي والأتعاب، بل السر في مشروعية الحكمة في الدعوة إنما هو سلوك أقرب الوسائل إلى عقول الناس وأفكارهم، ومعنى هذا أنه إذا اختلفت الأحوال وقامت عثرات الصد والعناد دون سبيل الدعوة، فإن الحكمة حينئذ إنما هي إعداد العدة للجهاد والتضحية بالنفس والمال، لأن الحكمة إنما هي أن تضع الشيء في مكانه، وهذا هو الفرق بين الحكمة والمخادعة، وبين الحكمة والمسالمة.

وهناك حادث في حياته صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استبشر بما رآه من دلائل إقبال بعض زعماء قريش على فهم الدين انصرف إليهم بكليته مبتهجًا يكلمهم ويشرح لهم ما يستفسرون عنه من حقائق الإسلام، حتى دعاه ذلك الاستبشار والرغبة في هدايتهم إلى أن يُعرض عن الصحابي الضرير عبد الله بن أم مكتوم حينما مر بهم فوقف إلى جانبهم يستمع، وأخذ هو الآخر يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام حرصًا على الفرصة أن لا تفوته وأملًا في أن يجيب عبد الله بن أم مكتوم في أي وقت آخر، فعاتبه الله تعالى على ذلك في سورة {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ * أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ} [عبس:2-1] وأنكر عليه اجتهاده هذا، وإن كانت غايته مشروعةً ونبيلةً لأن الوسيلة قد انطوت على كسر خاطر مسلم أو ما يدل على الإعراض عنه وعدم الالتفات إليه من أجل اجتذاب قلوب المشركين فهي ليست مشروعة ولا مقبولة.

والخلاصة أنه ليس لأحد من الناس أن يغير شيئًا من أحكام الإسلام ومبادئه أو يتجاوز شيئًا من حدوده أو يستهين بها باسم اتباع الحكمة في النصيحة والدعوة، لأن الحكمة لا تُعتبر حكمةً إلا إذا كانت مقيدةً ومنضبطةً ضمن حدود الشريعة ومبادئها وأخلاقها” اه.

فهل من أمهات يرفع الله بهن الإسلام تغذين عقول أبنائهن بحقيقة الإسلام ليلقين الله عز وجل وقد خدمن الأمة وأعدن لها عزها برجالٍ ونساءٍ يعرفون الطريق الحق ويعرضون عن الغناء؟ قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ كَذلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ} [الرعد:17].

إذ أنه لن يقوم الدين ولن ترفع الأمة إلا برجالٍ يعرفون الله ويخلصون ولاءً له وبراءةً من كل ما سواه مستصحبين قوله تعالى: {وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلَا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهواءَهُم بَعدَ الَّذي جاءَكَ مِنَ العِلمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصيرٍ} [البقرة:120].

وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا بِطانَةً مِن دونِكُم لا يَألونَكُم خَبالًا وَدّوا ما عَنِتُّم قَد بَدَتِ البَغضاءُ مِن أَفواهِهِم وَما تُخفي صُدورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنّا لَكُمُ الآياتِ إِن كُنتُم تَعقِلونَ} [آل عمران:118].

وقوله تعالى: {وَلَولا أَن ثَبَّتناكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَليلًا * إِذًا لَأَذَقناكَ ضِعفَ الحَياةِ وَضِعفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَينا نَصيرًا} [الإسراء:75-74]

وقوله تعالى: {وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ} [هود:113].

حينها عندما يكون منهجنا القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته في الجهاد حينها يتحقق فينا قوله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ} [البقرة:214].

فاللهم انصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا واهدنا ويسر الهدى إلينا واجعل رمضان بداية فرجٍ حقيقيٍ على المسلمين إنك ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى