منزلة الشُّورى في الشَّريعة وعُلُوُّها على نظريات الحكم الجاهليَّة
#من_إدلب
#ما_يسطرون
منزلة الشُّورى في الشَّريعة وعُلُوُّها على نظريات الحكم الجاهليَّة
روى ابن هشام في سيرته أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة: فدعاهم إلى اللَّهِ، وعرض عليهم نفسَه، فقال بَيحَرَة بن فِرَاس: أرأيت إنْ نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك اللَّهُ على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: (الأمر إلى اللَّه، يضعه حيث يشاء).
إذا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمْ يسعْه جعل الأمر إلى غير الشُّورى والمسلمون في أشدِّ حالات الاستضعاف، كما لم يسعْه فعل ذلك من باب “الخدعة”؛ يرضى من هذا المشرك بهذا الشَّرط حتى يمكِّنَ للإسلام ثمَّ ينزع عنه هذا الامتياز!!.
فكيف وسع البعض الدخول في الديموقراطية وجعلها وسيلةً من وسائل الوصول للحكم، وطريقةً من طرقه بحجة الاستضعاف أو من باب الخدعة؟!
وكيف وسع البعض الآخر جعل العهد أو التوريث طريقةً من طرق تولِّي الحكم بحجَّة المصلحة بلا اعتبار للشورى قبل تولي الحكم؟!
أو كيف وسع البعض جعل التغلُّب وسيلةً من وسائل الوصول للحكم بحجَّة دفع المفسدة؟!
ولم يلتزموا منهجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (الأمر إلى اللَّه)، وقد جعل اللَّه -مالكُ الأمرِ- الأمرَ شورى؛ قال تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
عُلُوُّ الشَّورى على باقي نظريَّات الحكم:
الشُّورى هي أن يتكلمَ أصحاب العلم والرأي والحكمة والشَّوكة فيما يعلمون.. أنْ يتكلمَ من يعلم فيما يعلم.. روى البخاريُ في صحيحه: «وَكَانَ الْقُرَّاء ُأَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
أمَّا في نظريَّات الحكم الأخرى؛ يقول رفاعي سرور في “التَّصور السَّياسي للحركة الإسلاميَّة”: «فالديمقراطية.. هي أنْ يتكلمَ الجميع، والديكتاتورية هي أنْ لا يتكلمَ أحد..، وأقرب تشبيه للفرق بين الديمقراطية والديكتاتورية هو فرق اللون بين الضباب والظلام؛ حيث يكون التقابل التام في اللون الأبيض والأسود بنتيجة واحدة – وهي انعدام الرؤية.
ففي الديمقراطية يتبدد الفكر الصحيح في واقع الإسفاف والثرثرة، وفي الديكتاتورية يتوارى الفكر الصحيح في واقع القهر والكبت.
وفي الديمقراطية يضيع الإنسان المفكِّر في ظواهر الفوضى الفكرية والإعلامية، وفي الديكتاتورية يختفي الإنسان المفكِّر في غياهب السجون.. وفي كل من النظريتين.. يغيب الإنسان المفكِّر.. والفكر الصحيح».
منزلة الشُّورى في الشَّريعة:
قال ابن عطية في “المحرر الوجيز”: «والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهلَ العلم والدين فعزلُه واجبٌ، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح اللَّهُ المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}».
وقال الجصاص الحنفي في “أحكام القرآن”: «{وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} هذا يدلُّ على جلالة وقع المشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة، ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها».
وقال الطاهر ابن عاشور في “التحرير والتنوير”: «وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنَّها سبب للصّواب، فقالَ: والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب. يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب».
الشُّورى في اختيار الحاكم:
ذكرنا في بداية المقالة جوابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على بني عامر بن صعصعة، عندما طلبوا منه أن يعهدَ بالحكم إليهم من بعده، وأنَّه ردَّ الأمرَ إلى -عزَّ وجلَّ- وأنَّ المالك -سبحانه- جعل الأمرَ شورى.
قال ابن تيمية في “منهاج السُّنَّة” عن خلافة أبي بكرٍ -رضي اللَّهُ عنه-: «ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوه وامتنع الصحابة عن البيعة لم يصر بذلك إماما، وإنما صار أبو بكر إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة».
وقال عن خلافة عُمرَ -رضي اللَّهُ عنه- : «وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما».
وعن خلافة عثمان -رضي اللَّهُ عنه-: «عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد، قال الإمام أحمد: ما كان في القوم أوكد من بيعة عثمان، كانت بإجماعهم».
فهذا ابن تيمية يصرِّح بأنَّ الخلفاءَ الراشدين -كلَّهم- إنَّما أصبحوا أئمةً بمبايعة جمهور الصَّحابة لهم، لا بمبايعة القِلَّة، ولا بالعهد.
التَّغلُّب والسَّعي للحصول على الولاية:
روى البخاريُ ومسلم أنَّ أبا موسى الأشعري قال: دخلت على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول اللَّهِ، أمِّرنا على بعض ما ولاك اللَّهُ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّا واللَّه لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه».
قال خالد بن عثمان السبت معلقاً على هذا الحديث في “شرح رياض الصالحين”: «قد يُفهم منه أنَّه يحرم تولية أمثال هؤلاء».
فإنْ كان مجردُ السؤالِ أو الحرص على الولاية يمنع السائلَ من الحصول عليها، ويُحرِّمها عليه؛ فكيف بمن يسفك الدماء، وينتهك المحرمات، ويرتكب الموبقات من أجل الحصول عليها، مغتصباً لها؟!!
قال ابن حجر الهيتمي في “الصواعق المحرقة”: «المتغلِّب فاسقٌ معاقب لا يستحق أن يبشرَ ولا يؤمرَ بالإحسان فيما تغلَّب عليه، بل إنَّما يستحق الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله..».
وقال القرطبي في “الجامع ﻷحكام القرآن”: «لا خلاف بين الأمَّة أنَّه لا يجوز أن تعقدَ الإمامة لفاسق..».
وقال الجويني في “غياث الأمم”: «إذا لا يوثق بفاسق في الشهادة على فلس، فكيف يولى أمر المسلمين كافة».
ويقول في حال الثورات: «لا يجوز عقد الإمامة لفاسق، وإن كانت ثورتُه لحاجةٍ ثمَّ زالت وحالت، فاستمسك بعدته محاولاً حملَ أهل الحل والعقد على بيعته، فهذا أيضاً من المطاولة والمصاولة، وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار، وهذا ظلم وغشم يقتضي التفسيق. فإذا تصورت الحالة بهذه الصورة، لم يجزْ أنْ يُبايع..»؛ هذا الكلام في حق من يحاول حمل أهل الحل والعقد على بيعته بالإلجاء والاضطرار، فكيف بمن ينتهك المحرمات ويسفك الدماء من أجل التَّسلط على رقاب الناس؟!!
الشُّورى في إدارة شؤون المسلمين:
روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: «ما رأيت أحدًا أكثر مُشاورةً لأصحابه مِن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم».
• في غزوة بدر: استشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه في القتال فوافق رأيُهم رأيَه، وأشاروا عليه أنْ يغيّرَ المكان الذي نزل به فغيَّر، واستشارهم في الأسرى.
• وفي غزوة أُحُد: استشارهم في البقاء في المدينة؛ فخالف رأيُ الغالبية رأيَه فنزل على رأيهم، وخرج إلى أُحُد.
• وفي غزوة الأحزاب: أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصالح غطفان على شيءٍ مِن ثمار المدينة؛ لِيَنسحِبوا مِن مُساندة الأحزاب، ويَتركوه يُواجِه قريشًا وحدها؛ فاستشار سعدَ بن معاذ وسعد بن عُبادة في هذا الأمر، فأشارا عليه بعدم إعطائهم شيئًا، فأخَذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمشورَتِهم. وهكذا كان هديُه صلى الله عليه وسلم أنْ يستشيرَ سادةَ النَّاس وحكماءهم ونقباءهم وأهلَ الاختصاص منهم في كل ما يعرِضُ له -حتى في أهل بيته!- ثمَّ يفعل ما يشيرون عليه به؛ يشاور أهل الرأي والحكمة والسيادة؛ لأنَّهم أهل الشُّورى -لا من أجل اعتبارات أخرى-، والشُّورى حقيقيةٌ لا شكلية -يفعل ما يشيرون به- وهي منهجٌ دائمٌ في سيرته صلى الله عليه وسلم، ثم سار الخلفاءُ الراشدون من بعده على نهجه؛ وكنَّا قد ذكرنا ما رواه البخاري في صحيحه: «وَكَانَ الْقُرَّاء ُأَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
ثمَّ تغيَّر الحالُ في القرون اللاحقة، وشُرعِنَ الاستبداد؛ قال محمَّد رشيد رضا في تفسيره “المنار” عند قول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: 159]: «ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين لما كان للأعاجم من السلطان في ملكهم وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك وجاراهم عليه علماء الدين بعد ما كان لعلماء السلف الصالح من الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية وأوائل زمن العباسيين، فظن البعيد عن المسلمين وكذا القريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية، وأن الشورى محمدة اختيارية، فيا لله العجب: أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك أمرا ثابتا مقررا، ويأمر نبيه -المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه- بأن يستشير حتى بعد أن كان ما كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة كما تقدم بيانه مرارا كثيرة؟».
هل كانت الشُّورى سبباً للهزيمة في أُحُد؟!
وكيف يمكن أنْ تنزلَ الهزيمة بسبب اتصاف المسلمين بصفةٍ امتدحهم اللَّهُ عليها {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } [الشورى:٣٨]؟!
قبلَ أُحُد كان الأمرُ بالشُّورى تلميحاً؛ قال اللَّه تعالى في الآية المكيَّة مادحاً عبادَه المؤمنين: {وَأمرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨]، أمَّا بُعيد أُحُد فقد جاء الأمرُ بالشُّورى صريحاً؛ قال تعالى:{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }[آل عمران :١٥٩] تبرئةً لها من أنْ تكونَ سبباً من أسباب الهزيمة في المعركة، وتوكيداً من اللَّه الحكيم على لزوم العمل بها دائماً.
الشُّورى في المنهج والعقليَّة الفرعونيَّة:
يقول رفاعي سرور في كتاب “التَّصور السِّياسي للحركة الإسلامية”: «إنَّ تحقيق عصبيَّة العامَّة للحكم الجاهليّ مهمةٌ صعبةٌ، ولكنَّ الجاهليَّةَ تمارسها بكلِّ دقَّة، ونموذجُ تلك الممارسة.. هو الممارسةُ الفرعونية. وعناصرُ تلك الممارسة هي أنْ يشعرَ العامَّة أنَّهم أصحاب السلطة (شركاء في القرار) وهذه فكرة فرعون عندما قال: ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ))».
لكنَّ خداع فرعون في جعل الأمر شورى ((فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)) .. بل وجعل رأيهم أمراً ملزماً بقوله:«تَأْمُرُون»َ!! لنْ يغيّرَ من حقيقة فرعون ونظام حكمه شيئاً.. حقيقةُ استعباد فرعون للملأ ((يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)).. واستعباده للجماهير ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)).. ومصادرة رأي الكلِّ وأنْ لا رأيَ إلا رأيُه ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ)).
وهذه الطريقة الفرعونيَّة في ممارسة الشُّورى تتكرر كثيراً على مر الأزمان.. لا يمارسونها إلَّا عندما يضطرون إليها، وإذا ما مارسوها فهي شورى شكليَّة، تقوم على التمثيل والخداع، وإيهام العامَّة أنَّ الرأيَ رأيُهم، وأنَّهم أصحابُ القرار.. ولكنَّ الحقيقةَ ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ)). واختيار الملأ في الطَّريقة الفرعونيَّة يكون على قدر الولاء وتقديم الطاعة، والتمكين لحكم فرعون، لا على الحقِّ والكفاءة.
• أمَّا الشُّورى في المنهج السُّنِّي فهي أمرُ الله -عزَّ وجلَّ-، وهي عبادةٌ تعبَّد اللَّهُ المسلمين بها، وقربةٌ يتقربون بفعلها إليه.. عبادة لا تنقطع، واستسلامٌ للَّه في أمره.
• وهي قاعدةٌ من قواعد الشَّريعة، وأصلٌ من أصول الحكم في الإسلام، وإقامتها من إقامة الدين؛ الذي أمَرَنا اللَّهُ بإقامته.
• ولا تكون في مجتمع ما كلمة اللَّهِ هي العليا العُلُوَّ الكامل، في حال غياب الشُّورى، أو استعلاء الديموقراطية أو الاستبداد أو أياً من أشكال الحكم الجاهلية عليها.
• فالشُّورى فرضٌ وتكليفٌ افترضَه اللَّهُ للأمَّة وعلى الأمَّة، وليست مجردَ حقٍّ من حقوقها، يتنازل عنه بعضُ أفرادها متى شاؤوا!!
• كما أنَّ الشُّورى في المنهج الرَّبَّانيّ ليست من الهبات.. يمتنُّ بها الحاكمُ على من يشاء ومتى شاء، وينزِعُها ممن يشاء متى شاء!؛ إنَّما هي من الواجبات التي أوجبها اللَّهُ للأمَّة وعلى الأمَّة في كل وقتٍ وحين.
♦ حسين أبو عمر
مجلة بلاغ – العدد الثالث – محرم 1441 -أيلول 2019