تركيا في أفغانستان – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٢٦ – ذو الحجة ١٤٤٢ هــ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
قاربت عملية انسحاب الحلف الغربي الذي دخل أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة عام 2001م على الانتهاء، ورغم الكلفة الضخمة التي تكبدتها الولايات المتحدة هناك خلال عشرين سنةً ما كانت الإدارات المتعاقبة لتأمر بالانسحاب قبل سجالٍ داخليٍّ ومطالباتٍ كثيرةٍ بالخروج من المستنقع الأفغاني، فالضرباتُ التي تلقتها في عقر دارها أكبرُ من أن تُنسى أو تُهملَ خلال مدةٍ أقل من هذه، وبسبب خسائرَ مضافةٍ أقل من التي تكبدتها ببقائها غير المثمر استراتيحياً، إذ لا بد من قناعةٍ وتأييدٍ داخليٍّ للانسحاب في بلدٍ تؤثر فيه القرارات المصيريَّةُ على مجريات الانتخابات.
لقد تأكد السَّاسةُ الأمريكيون يقيناً أن الحكومة والقوات الأفغانيةَ التابعةَ لهم ليست بتلك الكفاءة المنشودة، فلقد خذلتهم في كثيرٍ من المواقف، وتراجعت أمام تقدُّم الحركة الأفغانية الإسلامية الأصيلة التي لم تتأثر بالهجمات الهمجيَّةِ عليها وعلى حاضنتها المؤمنة الوفيَّة، هذا كان سبباً من أسباب البقاء كل هذه المدة، وهو سبب من أسباب الخروج المذلِّ، فلا يمكن الاعتماد على هذا العميل الفاشل عن قرب ولا عن بعد، ويا لبردِ هذه الآية في قلوب المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال : 36].
وفي الوقت الذي تنفض الولايات المتحدة يدها وتجر ذيل خيبتها، تسعى بعض الدول لملء الفراغ الذي خلفه انسحابها من أفغانستان، هذه الدول الإقليمية المجاورة ليست أقل إجراماً ولا عداءً للإسلام من الولايات المتحدة، فهي روسيا والصين والهند وإيران، أما باكستان فرغم أنها ساندت الولايات المتحدة مصلحياً، ودعمت الحكومة الأفغانية العميلة، إلا أنها بقيت موضع عدم ثقةٍ منهما، لأنها وفق العمق الاستراتيجي أقرب إلى حركة طالبان ذات الجذور الضاربة في الضمير الإسلامي والقبلي الأفغاني والباكستاني.
بالإضافة إلى الدول السابقة دخلت تركيا إلى أفغانستان مع حلف الناتو عام 2001م، وتشملها اتفاقية الانسحاب كونها دخلت بصفة حليفٍ للولايات المتحدة، لكنها لا تنوي الخروج بل تريد الاستحواذ على حصة من الحيِّز الجيوسياسي في أفغانستان، وهذا ما ترفضه حركة طالبان رفضاً مسبقاً ومطلقاً؛ فلقد صرَّح الناطق الرسمي باسم الحركة سهيل شاهين أن “تركيا كانت جزءاً من قوات حلف شمال الأطلسي في الأعوام العشرين الماضية، ولذلك فإنه ينبغي لها الانسحاب من أفغانستان على أساس الاتفاق الذي وقعناه مع الولايات المتحدة يوم 29 فبراير / شباط 2020”. وأعرب عن أمله في إقامة علاقاتٍ وثيقةٍ وطيبةٍ معها بعد تأسيس حكومة إسلامية جديدة في البلاد في المستقبل، أي ليس قبل الانسحاب الكامل وليس قبل ترتيب البيت الأفغاني الداخلي بمعزلٍ عن التدخل الخارجي.
تركيا التي بنت لنفسها قاعدة من العلاقات في طرف الحكومة التي تسيطر على كابل حالياً، وعلاقاتٍ مع أمراء الحرب الذين كانوا مع الروس كالمجرم عبد الرشيد دوستم، والذين جاهدوا الروس سابقاً ثم انحازوا إلى الحلف الغربي ضد طالبان أبرزهم عبد رب الرسول سياف وقلب الدين حكمتيار، تريد استثمار هذه العلاقات للبقاء في أرضٍ واعدةٍ من حيث الموقع حيث وسط آسيا، وتحاول أن تخطب ود حركة طالبان في نفس الوقت، لتكون هي وقطر نقطة التقاءٍ وحوارٍ وصلحٍ وطنيٍّ، هذا سيعزز مكانتها في المستقبل الذي يرضي النظام الدولي، لكنه صعب التحقيق، فطالبان التي أنهرت من دمائها الكثير لن ترضى بغير ما جاهدت لأجله، وهي تشترط الشريعة وتمام الاستقلالية على كل الأطراف.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للناتو: إن تركيا ستبقى لتؤمن مطار كابل وأنها ستأخذ باكستان والمجر معها!، هذا التصريح أثار المعارضة التركية التي ترى في سياسة حزب العدالة والتنمية الدولية خطراً على تركيا، وتنادي بذلك كدعايةٍ مضادةٍ مؤثرةٍ في البلد الذي يقول فيه الناخبون كلمتهم في وقتها.
ليس مقالاً تحليلياً بقدر ما هو قراءة بتعجب للموقف التركي في أفغانستان، الذي يختلف عما كان عليه في بلدان أخرى كسوريا وليبيا وأذربيحان، فعلى الرغم من التفاهمات الدولية المصلحية التي تدخلها تركيا والتي تؤدي إلى أخذ ورد، إلا أنها في تلك البلدان كانت في جانب الحركات التحررية المحقة، أما اليوم فهي في الجانب المعاكس، وتريد أن تكسب من الجانبين، إن هذا لا يستند إلى درايةٍ ولا دراسةٍ عميقة للموقف، ولا اعتبارٍ بما مضى ومن مضى ومن بقي وثبت.
لقد هزم شعب أفغانستان الإمبراطوريات، فهو شعبٌ يبغض الاحتلال، ولن يختلف الأمر إن كان الدخيل من عرقٍ قريبٍ أو انتسابٍ دينيٍّ واحدٍ، باكستان المجاورة وهي أقرب بلدٍ لأفغانستان من كل النواحي تفهم هذا الواقع وتعمل بمقتضاه، كما أن لطالبان ومن يحتضنها طموحٌ عميقٌ قديمٌ لتحكيم الشريعة وهذا لا يقبل إلا توحيد واستقلال المرجعية عن أي تدخلٍ دوليِّ.
قال رئيس الولايات المتحدة بايدن: “إن بلادنا دفعت تكلفةً باهظةً وتضحيات كبيرة في أفغانستان، لكن طالبان أقوى من أي وقتٍ مضى”، هذا الفهم الأمريكي جعلهم يتركون كل ما أنفقوه خلفهم ويمضون، ولو أنهم يستطيعون الانتقال إلى جانب حركة طالبان لفعلوا، لكن ليس هناك تلك الروابط ولا تلك الثقة المتبادلة، فعلام لا تفعل تركيا ذلك وهو ممكنٌ جداً، ويحقق مصلحتها على المدى البعيد، فهي بذلك تتخلى عن الآفل لتضع يدها في يد القادم الثابت المخضرم الناضج.
سيعمل النطام الدولي على حرمان حركة طالبان من السيطرة والاستقرار بعد خروج الاحتلال، فالدول الكبرى تريد محصلةً سلبيَّةً أو صفريَّةً للتفاعلات الداخلية في البلدان الأصغر، وستعمل كل دولة على دعم القوى الأقرب لها ليكون لها يد في حكم أفغانستان الائتلافي العلماني الذي يسعون لإنتاجه، وأكثر من ذلك يريدون منع قيام دولةٍ للإسلام تكون مثالاً يحتذى ولو كانت في أقصى الأرض، وهذا ما لا ترضى به طالبان المنتصرة بعد عشرين سنةً، وأرى أنها مستعدة لخوض حربٍ ضد خصومها كُرمى للشريعة والاستقلال ولو طالت عشرين سنةً أخرى، ولن ترضى ببقاء رقعةٍ صغيرةٍ حتى لو كانت مطار كابل خارج سيطرتها ليكون أملاً لخصومها في الاستمرار بالتصدي لها ومنعها من تحقيق أهدافها السَّامية.
إن تركيا لن تنجح بالسياسة وبعض القوة فيما فشلت فيه الولايات المتحدة باستخدام كل الوسائل السياسية وأعتى أنواع القوة، وفي الميزان لن ترجح كفة المصالح التي ستحققها تركيا من النيابةِ عن الغرب في أفغانستان على كفة الخسائر التي ستتكبدها من البقاء، ولو أنها كانت فقط خسارة فرصتها في دعم طالبان أو صداقتها كحركة تحرُّرٍ وطنيَّةٍ ومحطِّ أمل الأمة الإسلامية ومنها ضمير الشعب التركي المسلم.
وبالإضافة لرفض أهل الأرض الأصيلين بقاء أي قوةٍ بغير رضاهم، أو مساومتهم من قبل أي دولةٍ على مصالحَ أو علاقاتٍ قبل خروجها، لن تقبل الدول المجاورة -عدا باكستان- بوجودٍ تركيٍّ منتجٍ في أفغانستان، وإن بقاء تركيا في الجانب المفتت متعدد الولاءات سيعرضها للتقلبات والمفاجآت الدائمة، في الوقت الذي تستطيع الاستثمار مع الجانب الموحد الثابت العنيد، إن الفارق بين الحالتين كبير.
لقد مثلت القيادة التركية طيلة السنوات الماضية من عمر الربيع الإسلامي / العربي دور الداعم للشعوب صاحبة الحق في بلدانها، وتحدت الأنظمة العميلة المجرمة، لكنها لم تكمل في ذات الطريق بثباتٍ وانتظامٍ حتى تحقق المكاسب الأكبر، بل تنازلت هنا وهناك وحققت مصالح منحصرةً ضعيفة الأثر قصيرة الأمد، وخيبت بعض المواقف التركية آمال الشعوب الإسلامية فيها كقوةٍ إسلاميةٍ صاعدةٍ وموئلٍ للمهاجرين الهاربين من بطش الظالمين، إن هذه الصورة لا يعادلها أي مكسبٍ استراتيجيٍّ آخر، فكيف إن كانت المكاسب التي تؤثر على هذه الصورة مكاسب غير استراتيجيةٍ؟!.
بعد التفاهمات التركية الروسية في سوريا وليبيا وأذربيجان، والتصالح مع نظام السيسي في مصر ومنع معارضيه في تركيا من انتقاده، وغيرها من تطورات، سيؤثر بقاء تركيا في أفغانستان في جانب إدارة كابل المحاربة لمجاهدي طالبان سيؤثر على المشروع التركي الدولي كثيراً، فالشعوب التي تقدم كل غالٍ ونفيسٍ للتحرر وإثبات الهوية لا ترضى بأنصاف الحلول ولا المصالحة والائتلاف مع المجرمين على غير توبتهم وخضوعهم لنظامٍ يحقق ما ثارت الشعوب وجاهدت من أجله، وإن ذلك في المسلمين صادقي الولاء والانتماء أظهر وأثبت وأكبر.
تركيا في الخيار، أن تبقى في أفغانستان مدةً قصيرةً من عمر الزمن، أو أن تبقى في هذا البلد وفي ما يشبهه من بلدانٍ مسلمةٍ وفي ضمير الأمة الإسلامية إلى الأبد.
لتحميل نسخة من المجلة يمكنك الضغط هنا
لقراءة باقي المقالات يمكنك الضغط هنا