تحرير قول الشافعية في حكم حلق اللحية

بحث فقهي
المذهب الشافعي

🍂 [تحرير قول الشافعية في حكم حلق اللحية] كتبه/ أبو عبد الرحمن الزبير

بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن الاه، وبعد..
ففي كل مرحلةٍ من مراحل الإصلاح الشرعي والفكري والجهادي في الأمة المسلمة: تُثار مسائل يُدعى فيها الخلاف لتهوين شرَّها، وتقليل السلبي من أثرها، ومن ذلك ما أثاره بعض إخواننا مءخرًا في التهوين من شرِّ: حكم حلق اللحية، بدعوى كراهية ذلك في مذهب الشافعية، والمؤسف بثُّ ذلك بين العامة الذين ينتظرُ كثيرٌ منهم الرخص، لا بحثًا عن الحق، ولكن طلبًا لهوى النفوس، وأستحضرُ هنا كلمةً نفيسةً للشيخ إبراهيم السكران؛ فرج الله عنه:
«تخيل معي أننا سلكنا فعلا طريق تتبع رخص المجتهدين وليس أن نجتهد في تحقيق مراد الله؛ فهل يعي هذا القائل بالضبط كيف ستكون النتيجة؟ هل يعي هذا القائل كيف ستكون الصورة النهائية؟
النتيجة: أنه يجوز أن تكون الصلوات ثلاث صلوات بناء على بعض الشذوذات الفقهية، ويجوز شرب الخمور من غير العنب على رأي بعض فقهاء الكوفة، ويجوز أن يقع الإنسان على ما يشاء من النساء بنية التمتع (زواج مؤقت بدون ولي) على رأي بعض فقهاء مكة، ويجوز أخذ ربا الفضل بناء على قول ابن عباس، ويجوز بيع العينة بناء على قول الشافعي، ويجوز بيع الدين بناء على قول الشافعي، ويجوز أخذ الربا في الفلوس المعاصرة لأنها ليست بذهب ولا بفضة على رأي بعض حنفية الهند، ويجوز التهام الإقطاعات العقارية السلطانية بناء على أنه يحق له أن يهب ما يشاء كما صدرت بذلك بعض الفتاوى، ويجوز دفع الرشاوى إذا لم تستطع تحقيق مصلحتك إلا من خلالها بناء على رأي بعض الفقهاء، ويجوز أن نأكل السباع وذوات الأنياب والطيور ذوات المخالب بناء على أحد قولي مالك، ويجوز أن يرضع المرء زميلته في العمل بناء على قول أحد أساتذة الحديث في الأزهر»!!.
– فما حكم حلق اللحية عند الشافعي والشافعية؟
– وهل مذهب الشيخين الرافعي والنووي كراهة حلق اللحية؟
– وما معتمد مذهب الشافعية في هذه المسألة الذي يتوجب العمل به دون سواه؟
فدونك البيان، وبالله التوفيق:

ذهب جمهور العلماء الحنفية والمالكية والحنابلة على حرمة حلق اللحية اتفاقًا بينهم، حتى نقل ابن حزمِ (456 ه) الإجماعَ على ذلك فقال: «اتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز» [مراتب الإجماع: ص 157]، ولم يعلق عليه شيخ الإسلام ابن تيمية (728 ه) في نقده لمراتب الإجماع؛ مما يدل على موافقته له، وقد نقل مثل هذا الإجماع من المتأخرين ابن عابدين الحنفي؛ حيثُ يقول نقلًا عن العلائي الحنفي: «الأخذ من اللحية دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد، وأخذ كلها فعل يهود والهنود ومجوس الأعاجم» [العقود الدرية: 1/329].
ودليلهم في ذلك ظاهرٌ مشتهر، وهو حديث الصحيحين، أن النبي  قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب) وثمة ألفاظٌ عدة صحيحة بنفس المعنى.
***
وقد نُقل عن بعض الشافعية أنهم لا يرون هذا الحديثِ كافيًا في الحرمة، مما جعلهم يقولون بكراهة حلق اللحى لا تحريمها، وهذا القول مشهور عند متأخري المذهب، ولأجل تحرير القولِ الصواب عند الشافعية، وبيان معتمدهم في المسألة -من حيثُ النقل المذهبي لا النظر في الأدلة- يأتي هذا المبحث.

وقد نُقل الاختلاف في حكم حلق اللحيةِ داخل المذهبِ على قولين:
1- أولا: قول الإمام الشافعي (204 ه): وهو حرمة حلقها؛ فلا يوجد نص للشافعي يقول بكراهية حلق اللحية، وعبارته دالّةٌ على تحريم حلق اللحية، قال في الأم (6/88): «ولو حلقه حلاق فنبت شعره كما كان أو أجود لم يكن عليه شيء.. وهو وإن كان في اللحية لا يجوز فليس فيه كثير ألم ولا ذهاب شعر؛ لأنه يستخلف»؛ فصرح سيدنا الشافعي -رضي الله عنه- بأن حلق اللحية لا يجوز، وما ذكره بعض الأفاضل بأنِّ عبارة «لا يجوز» محمولةٌ على الكراهة بعيد وغير متجه، ولا يوجد قرينةٌ دالة على أن هذا مراد الشافعي بها؛ اللهم إلا أن يحملوا كلام الشافعي على الكراهة انتصارًا لقول المتأخرين الذي ذكروا كراهة الحلق لا حرمتها، وهذا من أغرب ما يكون؛ أن يُصرف كلام المتقدم ليوافق كلام المتأخر، والأصل العكس، لكنّه الانتصار لأقوال الرجال بتأويل أقوال من هو أولى منهم بالانتصار لقوله!.
وقد سُئل الشهاب الرملي (957 ه) في فتاويه (4/386) عن «إطلاق الفقهاء «نفي الجواز»؛ هل ذلك نص في الحرمة فقط، أو يطلق على الكراهة؟
فأجاب: بأنَّ حقيقة نفي الجواز في كلام الفقهاء التحريم»، وهو ظاهر في الدلالةِ على أن قول الشافعي «لا يجوز» يعني به الحرمة، ولا يُصرف لغير ذلك إلا بقرينةٍ قاطعةٍ دالةٍ على أن مراده الكراهة، وهي منتفية في كلامه بل وفي كلام سائر أصحابه وأصحاب الوجوه.والقول بحرمة حلق اللحية نصَّ عليه جمهرة غفيرة من أئمة المذهب الشافعي، منهم:
أ- القفال الشاشي الكبير (365 ه) -وهو من أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي-؛ إذ يقول في كتابه «محاسن الشريعة» (ص 239): «ولا يجوز حلق اللحية؛ لما فيه من التشويه، ومعاني المثلة».
ب- والحليمي (403 ه) في المنهاج في شعب الإيمان (3/79) إذ يقول: «لا يحل لأحد أن يحلق لحيته.. وأما حلق اللحية فهجنة، وشهرة، وتشبه بالنساء».
ج- وابن الرفعة (710 ه) في حاشية الكفاية إذ نقل كلام الشافعي مقرًّا له.
د- والأذرعي (783 ه): القائل: «الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها، كما يفعله القلندرية».
ه، و، ز، ح – وقال بحرمة حلقها: الإسنوي (772 ه)، والزركشي و(794 ه)، والدميري (808 ه) في «النجم الوهاج» (9/ 534).
ط- وكذلك قال بحرمة الحلق: المحقق ابن حجر الهيتمي (974 ه)؛ حيثُ قال بحرمة حلقها في كتابه «الإيعاب شرح العباب» -وهو مخطوط غير مطبوع-، كما أفاده الدمياطي في «إعانة الطالبين» (2/386).
ي- وحرم حلقها من المتأخرين: المليباري -من علماء القرن العاشر- في فتح المعين (2/386) إذ يقول بالنص: «يحرم حلق لحية».
ك، ل، م- وقال بتحريم حلقها كذلك بعض المتأخرين من أصحاب الحواشي، كالقليوبي (1069 ه)، وابن قاسم العبادي (944 ه)، وعبد الرحمن الشربيني (1326 ه)، في حاشيتهما على تحفة ابن حجر، وذلك موافقةً منهما لنصِّ كلام الشافعي.
***
2- ثانيًا: قول الغزالي (505 ه): بالكراهة؛ فقد كان الغزالي -بتتبعي لكلام أئمة لامذهب في المسألة- أول من ذكر المسألة من الشافعية، وتتابع على نقل عبارته بمعناها: علماء المذهب من بعده، وإذا قرأنا عبارته؛ فلن نجدَ فيها ما يدل على الكراهة التي هي النهي عن الشيء نهيا غير جازم؛ أي عدم ترتب إثمٍ على الفاعل؛ حيثُ ذكر مسألة اللحية في الإحياء (1/143) فبيَّن أن:
في اللحية عشر خصال «مكروهة، وبعضها أشد كراهة من بعض… نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس، وذلك مكروه ومشوه للخلقة.. وَرَدَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته، وأما نتفها في أول النبات تشبهاً بالمرد فمن المنكرات الكبار؛ فإن اللحية زينة الرجال، فإن لله سبحانه ملائكة يقسمون: والذي زين بني آدم باللحى وهو من تمام الخلق، وبها يتميز الرجال عن النساء.. وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار والرفع في المجالس وإقبال الوجوه إليه والتقديم على الجماعة ووقاية العرض؛ فإن من يشتم يعرض باللحية إن كان للمشتوم لحية».
فظاهر عبارته الدلالة على حرمة حلق اللحية لا الكراهة وحسب، وإن كان نصَّ على لفظ الكراهة في عبارته؛ لكنَّهم يستعملون الكراهة ويريدون الحرمة كثيرًا في زمان الغزالي، وسندلل على هذا بعد قليل في سياق كلام القاضي عياض.
ولفظ الغزالي صريحٌ أنَّ حلق اللحية بما يشابه المردان -كما يفعل حالقوا اللحى في زماننا- من المنكرات الكبار؛ فليس هو مجردَ حرام، بل كبيرة كذلكَ، قال: «نتفها في أول النبات تشبهاً بالمرد فمن المنكرات الكبار»، فتأمل هذا فإنه دقيق.
وقد ذكر النووي (676 ه) هذه المسألة في روضة الطالبين (3/234) ولا يخفى أن النووي تابعَ كلام أئمة المذهب الذين سبقوه في تقرير كلامهم، وكان يُعقب أحيانًا ويترك أحيانا أُخر؛ ففي اللحية ذكر أنَّ الغزالي ذكر «في اللحية عشر خصال مكروهة: .. ونتفها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة»، فلم يتعرض هنا لحكم الحلق ولم يُشر إليه؛ وثمة فرقٌ ظاهر بين النتف وبين الحلق، وعرج على ذكر الحلق في شرح مسلم (3/149) فنقل عبارة الغزالي وذكر من المكروهات «نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة»؛ وغاية ما في كلام النووي تحديد المدة الزمنية التي يُكره فيها الحلق، وهي أن ينبت بعض الشعر للشاب الأمرد فيحلقه ليبقى على هيئة المرد في بداية ظهور لحيته وهي من مسألة مختلفة عن حكم حلق اللحية حين يستقر شأنها؛ فيبقى القول بالحرمة كما هو نص كلام الشافعي، الذي لا يوُجد له معارض من كلام الأصحاب.
ومما يدل على أن هذا مقصد النووي، أنه ذكر في شرح مسلم (3/149) أنَّ «إعفاء اللحية: معناه توفيرها، وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك.. وأما أوفوا فهو بمعنى أعفوا؛ أي اتركوها وافية كاملة لا تقصوها.. هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء، وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يكره حلقها وقصها وتحريقها» والقاضي عياض من المالكية وهو من القائلين بحرمةِ حلق اللحية؛ فيكون معنى كلامه بالكراهة: الحرمة، حيثُ نقل القاضي في المعلم (2/64) أنه «ذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصالِ، وقاله مالك، وكان يرى حلقَه مُثَلةً ويأمُرُ بأدب فاعله»، وهذا ظاهرٌ للغاية في الدلالة على المراد بالكراهة في هذه المسألة عند النووي.

وبالتأمل في كلام الغزالي والنووي؛ فيظهر أنًّ المراد من كلامهم: الحرمة، ومما يؤيد أن مرادهما بالكراهة: الحرمة، ما قاله الرازي (606 ه) وهو من فقهاء الشافعية، في كتابه «المحصول» (1/ 104) أنَّ: «المكروه يقال بالاشتراك على أمور ثلاثة: أحدها: ما نهي عنه نهي تنزيه.. وثانيها: المحظور وكثيرا ما يقول الشافعي رحمه الله: أكره كذا وهو يريد به التحريم. وثالثها: ترك الأولى».
ويزيدنا تأكيدًا على أن مراد النووي بالكراهة: الحرمة، ما ذكره في المجموع (1/291) حيثُ قال من خصال الكراهة في اللحية: «نتفها في أول طلوعها وتخفيفها بالموسي إيثارا للمرودة، واستصحابا للصِّبَى وحسن الوجه، وهذه الخصلة من أقبحها»؛ فتعليق النووي بأنَّ هذه الخصلة من أقبح الخصال دالٌّ على الحرمة؛ فالقبح من الألفاظ التي يُعبر بها النووي عادة عن اختياره؛ فما يكون القبحُ في مسألةٍ ثم يكون مكروهًا كراهة مجردة بلا تأثيم.
وكون الفعل قبيحا دال على الحرمة ما ذكره النووي في الروضة (2/393) من جوازِ الحجامة في المسجد بشرط الأمن من التلويث، ثم ذكر قولان في حكم البول في الطست، قال: «والأصح: المنع؛ لأنه أقبح من الفصد.. ولهذا لا يمنع من الفصد مستقبل القبلة، بخلاف البول»؛ فقُبح الشيء جعله ممنوعًا مع أنه مخرجٌ على أصل جائز، ويُقال مثل هذا في اللحية فقد يكون أصلها مكروها ولكن لقثبح ذلك يكون حكمها الكراهة.
وأما الرافعي (623 ه) فلم يتعرض لهذه المسألة في الشرح الكبير أصلا؛ فلا أدري كيف نسبوا له القول بالكراهية؛ رغم نصَّ محققي الشرح الكبير (12/121) أن هذه المسألة ترك الرافعي التنبيه عليها في الباب، ولا أثر لها في أي كتابٍ مطبوعٍ له.
وسيرًا على هذه العبارة في مكروهات اللحية؛ مشى الشيخ زكريا الأنصاري (926 ه) في أسنى المطالب (1/ 551)، لكنه ذكر النتف أيضًا ولم يذكر الحلق مطلقًا.
لكن الشهاب الرملي الكبير (957 ه) في حاشيته على شرح الروض تعقب قول الشيخ زكريا: (ويكره نتفها): «أي اللحية، ومثله حلقها»؛ فالحلق إضافةٌ منه لم يقلها الشيخ زكريا.
وكذلك كره حلقها لا حرمتها ابن حجر في التحفة (9/ 375)، ومثله والشمس الرملي (1004 ه) الذي وافق والده في هذه المسألة كعادته.
فيظهر أنَّ من قالَ بالحرمة أكثر عددًا وأوضح عبارةً وأوفق لكلام الإمام الشافعي، وهذه من مرجحاتِ الأقوالِ في المذهب.
***
📚 مطلبٌ في بيان أنَّ كراهةَ الحلق في كلام الغزالي والنووي يُراد بها الحرمة:
وقد تقدم ما يدل على ذلك، ولكن نزيده تأكيدا من جهة أخرى؛ فقد قال العلامة القليوبي (1069 ه) في حاشيته على المحلي (1/208): «يحرم أخذ شعور نحو اللحية، والحواجب، ووشر الأسنان أي ترقيقها بنحو المبرد، ويكره نتف الشيب، ولو من لحية رجل، وأخذ شعر الخد والرقبة وقص اللحية».
والقليوبي معروفٌ بدقته الشديدة في نقل كلام المذهب، ولعل هذا أكثر النصوص المذهبية دقة في بيان حكم اللحية؛ إذ معنى عبارته رحمه الله أنَّ أخذ وإزالة شعر اللحية محرم، وأمَّا نتف الشيب منها أو قص شيء من شعراتها أي التقصير اليسير فهو المكروه.. والفرق بينهما ظاهر تمامًا، والقصُّ مما يُسلم في النزاعِ فيه، فالقص المشروع ما كان لتهذيبِ اللحية في الزائد منها زيادة بالغة أو فوق القبضة، وأما القص المكروه فإنما هو ما حافظ على اسم اللحية للناظر من بعيد مع تقصيرها فهذا مكروه عندهم وإن كان ظاهرُ الأدلة على حرمته، وإن كان أقل من حرمةِ الحلق.
ويُؤخذ من هذا أنَّ معنى عبارة الغزالي أن المكروه في اللحية: النتفُ العبثي الذي يُزال به عدد من الشعرات على الوجه، وأما الإزالة الكلية المشابهة للمردان فحرام بل كبيرة بنص كلامه.
ولو تأملنا أصل المسألة؛ فإنَّ هذه الخصال العشرة ليست كلها مكروهة بمعنى الكراهة الأصولية؛ فقد ذكر النووي بعضها مبينا حرمتها لا كراهتها، مما يجعل عبارةَ الغزالي محتملة والكراهة فيها ليست مطردة حتى تُحمل عليها اللحية؛ فبعض هذه العشر حرام، وبعضها مكروه، والنص إذا تعرض له الاحتمال بطل به الاستدلال.
فمما ذكره الغزالي مكروهًا من هذه العشر، وهو حرام في المذهب:
* الخضاب بالسواد إلا للجهاد: فقد ذكر النووي في الروضة (3/234) أن «خضاب الشعر الشائب بحمرة أو صفرة سنة، وبالسواد حرام. وقيل: مكروه»، وتحريم ذلك هو ما رجحه النووي في أجلِّ وأدق كتبه «التحقيق» (ص 51)، حيثُ ذكر أنَّه «يحرم خضب شعر رجل وامرأة بسواد، وقيل: يُكره»؛ فجعل القول بالكراهة ضعيفًا، ولم يتعرض الرافعي للمسألة كذلك، وممن نص على حرمة الخضاب بالسواد: الرملي في النهاية (8/149)؛ فهذا معتمد المذهب باتفاق، وهو يخالف عبارة الغزالي بالكراهية في كل العشرِ.
وكتاب التحقيق هذا ذكر الكردي في «المسلك العدل» أنه المعتمد من كتب النووي عند اختلاف أقواله في المسألة، ثم يأتي بعده المجموع فالروضة فالمنهاج، وتأمل أن قوله في الكراهية وقع في أقل كتبه تحقيقًا وهو المنهاج؛ بينما حقق القول بحرمة بعض ما ورد في عبارة الغزالي في كتبه الأكثر تحقيقًا.

* نتف الشيب من اللحية: تعرض لها النووي في المجموع شرح المهذب (1/292) فقال: «يُكره نتف الشيب؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة) حديث حسن.. قال أصحابنا: يكره؛ صرح به الغزالي كما سبق والبغوي وآخرون. ولو قيل: يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد»؛ فجرى النووي على بيانِ حرمة ذلك سيرًا على الدليل الوارد في المسألة، وقوله هنا: «وإن قيل» يعني به الاعتراض على القول السابق وبيان عدم اختياره له.
وإذا قلنا بدلالة الاقتران -رغم ضعفه في المذهب، لكن ليس بإطلاق كما يذكر ابن دقيق العيد في الإحكام (1/126)-؛ فيكون حلقُ اللحية حرامًا؛ لاقتران لفظ الكراهة بأمور ثبت تحريمها في المذهب.
ولهذا ذكر الإسنوي -وهو من كبار محققي المذهب- في «المهمات» (6/56) تعليقًا على ظاهر عبارة النووي المفيدة لكراهة حلق اللحية؛ أنَّ:
«ما ذكره من الكراهة مردود بنص الشافعي؛ فإنه قد ذكر في «الأم» أنه حرام؛ فقد نقله عنه أيضًا ابن الرفعة، وإزالة الرجل لشعر لحيته قريب من إزالة المرأة لشعر حواجبها وأطراف وجهها؛ وقد اختلف كلام النووي في تحريمه بعد جزمه بالاستحباب في لحيتها وعنفقها وشاربها؛ فجزم في باب السواك في «التحقيق» بأنه لا يحرم بل يكره، وجزم في «شرح مسلم» بالتحريم، وذكر في باب طهارة البدن من «شرح المهذب» نحوه أيضًا؛ فإنه قال: «وأما إزالة الشعر عن وجهها ففي الصحيحين: لعن الله فاعله. انتهى. وهذا اللفظ عنده وعند غيره من العلماء مرادف للتحريم، بل دليل على أن الفعل كبيرة»، وهذه العبارة لم يتعقبها ابن العماد في «التعقبات» مما يدل على موافقته لشيخه فيها.
فخلاصة كلام الإسنوي أنَّ قول النووي غير واضحٍ في المسألة، وأنه لو قال بالكراهة فقد خالف نص كلام الشافعي، ولكنه لم يقل بذلك كما يظهر من كلامه؛ بل جعل النووي حكم حلقها كحكم إزالة المرأة لشعر حاجبيها وأطراف وجهها وهو ما اختلف فيه كلامه رحمه الله.

📚 وبعد؛ فما هو معتمد الشافعية في حكم اللحية إذا؟!
فليُعلم ابتداءً أنَّه لا يصحُّ لعالمٍ متأخر بعد الأربعمئة (وهو زمان انتهاء أصحاب الوجوه عند الشافعية) أن ينسب قولًا للشافعية لم يقله صاحب وجهٍ فيهم، ولو تأملتَ ما نقلناه لك من أقوالٍ فسيظهرُ لديكَ أنه لم يقل أحد بلفظ الكراهة لحلق اللحيةِ إلا الغزالي (ت 505) أول الأمر؛ فكل من سبقه قالوا بالحرمة.. فعلى هذا ليس لهذا القول أصل مذهب حتى يُنسب للمذهب، ولنحرر إذًا هذه النسبة في الأقوال وهل يجوز نسبة قولٍ للمذهب وهذه حالته.؟!
قال التقي السبكي في «قضاء الأرب» (ص 309): «لا ينبغي أن يُقال: قال الشافعي؛ إلا لما وُجد منصوصًا له.
ولا مذهب الشافعي إلا لما جمع أمرين: أحدهما أن يكون منصوصًا له، والثاني: أن يكون قال به أصحابه أو أكثرهم.. وأما ما كان منصوصا وخرج عنه الأصحاب بتأويل أو بغيره؛ فلا ينبغي أن يُقال: إنه مذهب الشافعي.. وما اتفق عليه الأصحاب وقالوا إنه ليس بمنصوص؛ فيسوغ تقليدهم، ولكن لا يُطلق عليه مذهب الشافعي بل مذهب الشافعية».
وقوله «أصحابه» ظاهرٌ أنه يعني بهم من يُسميهم علماؤنا بأصحاب الوجوه، وهم من كانوا بعد الشافعي من تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه حتى نهاية القرن الرابع أو بعده بنسف حتى منتصف الخامس؛ ولم يتجاوز فيهم أحد أكثر من ذلك.
وكذلك قال ابن حجر الهيتمي في «فتاويه» (4/300): «لا يجوز أن يُقال في حكم: هذا مذهب الشافعي؛ إلا إذا عُلم كونه نص على ذلك بخصوصه، وكونه مخرجا على نصوصه.. وليس كل ما يقوله بعض أهل المذهبِ يُعد من المذهب؛ حتى يُعرض على قواعد المذهب ويشهد علماؤه أنه غير خارج على أصولهم»، هذا فيما يتعلق بنسبة الأقوال للمذهب.
وكذلك فقد رجَّح الشيخ الكردي في «الفوائد المدنية» (ص 291) أنَّ المعتمد هو قول عموم المتأخرين بدءًا من الشيخ زكريا «ويجوز الإفتاء بقولٍ كلٍّ منهم؛ سواء وافق غيره منهم أم خالفه، لكن مع اشتراط ألا يكون ذلك القول سهوًا أو غلطًا أو خارجًا عن المذهب»؛ فجميع آراء الفقهاء المتأخرين معتمدةٌ في المذهب؛ فإن رجحوا فالمعتمد ما رجحوه، وإن اختلفوا فجميع أقوالهم معتمدةٌ على التخيير؛ فإن وُجد سهوٌ أو غلط -وهو غير ممتنع- فهو نادر لا يُؤخذ بقول قائله، والنادر لا حكم له، وانظر في هذا المعنى رسالة الشيخ محمد الكاف: «المعتمد عند الشافعية» فهي نفيسةٌ في بابها.

أقول وبالله التوفيق: هل من الشاذ النادرِ مخالفتهم في مسألة اللحية لنص كلام الشافعي؟
يظهر -والله أعلم- بعد تحريرنا لكلام الغزالي والنووي في المسألة وأنهما لم يُصرحا بكراهة حلق اللحية بعد استرسالها، بل وظهر من كلامهم القول بحرمة ذلك؛ فعلى هذا يكونُ القول بكراهة حلق اللحيةِ من الأقوال التي شذَّ فيها بعض متأخري المذهب، ولذلك لم يكن قولهم فيها محل اتفاق لمن كتب الحواشي بعدهم؛ فتجدهم يرجعون لكلام الشافعي في «الأم» القاضي بالحرمة، وحتى ابن حجر الذي لا يُعرف باختلاف ترجيحاته في المسائل الفقهية؛ كان له قولان في المسألة؛ تارة بالحرمة وتارة بالكراهة، وطروء الاحتمال يُبطل الاستدلال، ويجعل الخلاف المذهبي قويًّا؛ فابن حجر يهاب مخالفة قول الشافعي، ويُجل كلام النووي، ولذلك جرى قوله بينهما.
وحيثُ إنَّه لم يثبت للشافعي ولا لأصحاب الوجوه في المذهب ولا للشيخين الرافعي والنووي ولا حتى لابن حجر محرر المذهب قولٌ صريح لا معارض له يفيد كراهة حلق اللحية؛ فيكون القول المعتمدُ في المسألة؛ هو قول الشافعي القاضي بحرمة حلق اللحية، والذي تابعه عليه أئمة المذهب جيلا بعد جيل.
وقلنا أنه المعتمد بناء على القولِ بالتخيير من كلام المتأخرين، والذي ثبتَ فيه صحة القول بالحرمة أصولا؛ حيثُ قال بذلك من المتأخرين: ابن حجر في شرح العباب، والقليوبي، والشرواني والعبادي، وكل هؤلاء أقوالهم تُسمى معتمدةً في المذهب؛ فيكون القول المخالف لهم شاذًّا لمخالفته صريح عبارة الشافعي، وظواهر الأدلة.
وقلنا بردِ القول الآخر لأنه لم يقم على أصولٍ علمية صحيحة في المذهب؛ فهي من السهو الذي نرجو الله أن يغفره لمن قال به، والزلة لا يُتابع عليها صاحبها؛ أيا كانت جلالته.
مع الإشارة إلى أن هذه المسألة من مسائل الفروع التي لا يُبدَّع فيها المخالف ولا يُفسَّق، ولكن هذا لا يمنع الإنكار على القائل بها بل النكير هنا واجب؛ لمخالفته الراجح الذي تواترت عليه الأدلة ونُقل فيه الإجماع.

وبعد؛ فنخلص إلى النتائج الآتية في هذا المبحث:
1- ثمة إجماعٌ قديم ثابتٌ في حرمة حلق اللحية نقله ابن حزم في القرن الخامس ولا يُعرف مخالفٌ من الشافعية أو غيرهم إلى حين نقله عن ابن حزم؛ فقد قال بحرمة حلق اللحية في المذهب: الشافعي، والقفال الشاشي وهو من أصحاب الوجوه، والحليمي وهو من متقدمي الشافعية، ثم تابعهم أئمة كبار في المذهب الشافعيِّ ذكروا حرمةَ الحلق كابن الرفعة والأذرعي والإسنوي وابن حجر في أحد قوليه، وكذلك المحشون على تحفة ابن حجر.
فمذهب الشافعي وهو معتمد مذهب الشافعية: حرمة حلق اللحية، ولا يجوز أن يُنسب للشافعي القول بالكراهة، وما ذكره بعض متأخري الأصحاب في الكراهة كالرملي أو ابن حجر في التحفة قول شاذ ضعيفٌ في المذهب؛ فإنَّ المعتمدُ عند جمهور المتأخرين حرمةُ حلق اللحية، ومخالفهم في هذا قائل بقولٍ شاذٍّ في المسألة لا يُتابع عليه.
2- لم ينص الغزالي والنووي على كراهة حلق اللحية؛ بل خلاصة ما قالاه كراهة النتفِ «بحكم العبث والهوس»؛ أي أن ينتف الرجل شعرات لحيته وهو يعبثُ بها.
ولو قلنا أن ظاهر كلام النووي هو الكراهة؛ فقد نقل كثيرٌ من الأصحاب أن كلامه متعارضٌ في المسألة وليس ظاهرًا في الدلالة على المقصود، وكلامٌ هذا ظاهر حاله لا يجوز أن يكون محل اعتمادٍ في المذهب؛ فالمعتمد ما استقرَّ بلا نزاع، وثبت بصورة صريحة ظاهرة، وهذا منتفٍ في حكم اللحية.
3- ليس للرافعي قولٌ في حكم حلق اللحية أو نتفها، بل هي من المسائل التي زادها النووي في روضته؛ فنسبةُ بعض أهل العلمِ هذا القول للرافعي غلطٌ لا تجوز المتابعة عليه.
4- لابن حجر قولان في المسألة: الحرمة والكراهة، فقد نصَّ في «شرح العباب» أن حلقها حرام لا مكروه، وأن هذا هو المعتمد؛ نعم ذكروا أنَّ «شرح العباب» أقل رتبةً من «التحفة» ولكن هذا ليس بإطلاقه فكم من مسألةٍ في العباب كانت محررة بصورةٍ أمثل منها في التحفة؛ فكلام الشيخ ابن حجر متعارضٌ في المسألة، وما تعارض تساقط، ولا يصح الاحتجاجُ به على المقصود وحسم النزاع في المسألة المختلف فيها.
5- لو سلمنا بقول بعض متأخري الشافعية الذين ذهبوا إلى القول بكراهة حلق اللحية؛ فإنهم جعلوا هذا حرامًا على من يكون حلقه لها فيه خرم مروءة كأهل العلم أو القضاة أو المجاهدين، فيكون الحلق في حقهم محل اتفاق لا نزاعَ فيه.
6- إذا كان المنكِر يرى أن قول المخالف شاذ أو ضعيف مخالف لقول السواد الأعظم؛ فيجوز الإنكار على المخالف حتى لو لم يتحقق الإجماع، لا سيما إذا كان صاحب هذا القول الشاذ متأخرا عن القرون الفاضلة، فكيف والإجماع الذي نقله ابن حزم كانَ في زمنٍ لم يُسبق بمخالفٍ له فيه، أي أنه مضت خمسة قرون قبل أن يُعرف قولٌ في المسألةِ يجعل حلقها مكروها، وكيف ولم يقل بهذا القولِ من الشافعية أحد طيلة ثلاثة قرون بعد وفاة الإمام الشافعي؛ حتى كان الغزالي فنُسب له، ولا يُحمل قوله على الكراهة بل على الحرمة.
7- وأخيرًا؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك في خمسة أحاديث مختلفة وألفاظ متغايرة بإعفاء اللحية، ولا يزال أهل الإسلام يرون ذلك من شعائر الدين العظيمة، فلا تستهن بأمر نبيك صلى الله عليه وسلم، وإن أفتى لك المفتون، ونعتذر لعلمائنا الذين اجتهدوا فأخطأوا، ونرى أنه لا يجوز تقليد المخطئ أو القائل بقولٍ مرجوح أو شاذٍ، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، والله أعلم

حُرِّرَ في مدينة إدلب؛ حرسها الله بالتوحيد والجهاد والسنة

أبو عبد الرحمن الزبير

لتحميل نسخة من البحث بصيغة doc اضغط هنا

لتحميل نسخة من البحث بصيغة bdf اضغط هنا

تحرير_قول_الشافعية_في_حكم_حلق_اللحية

تحريرقولالشافعيةفيحكمحلقاللحية

تحرير_قول_الشافعية_في_حكم_حلق_اللحية
Exit mobile version