روى البخاري رحمه الله في صحيحه، في قصة “الحديبية” أن عروة بن مسعود بعد أن وَفدَ على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لقريش: “أي قوم؛ والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً قطُّ يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن تَنخَّم نخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم فدلكَ بها وجهه وجلده.”
من هنا كانت بداية معركة الفتح!!، ما مدى ثقة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به وبقيادته؟! ومدى استعدادهم رضي الله عنهم أن يستجيبوا لأمره بالقتال وأن لا ينكلوا عنه أو يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
لقد كان هذا الموقف العظيم من حكمته وحنكته عليه الصلاة والسلام، وهو ما كان ينهى عنه الصحابةَ سابقاً، وسمحَ به اليومَ ليكون رداً عملياً على ادعاء عروة عليهم بقوله “إذا قامت الحرب فوالله ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفرِّوا ويدعوك”، فأجابه القائد بما يفهم القادة من معانٍ. وهو ما حصل فعلاً؛ حيث عاد عروةُ إلى قريش بغير ما ذهب!! وانعكس كلامه على نفوسهم، فمن خِبرَ الحروب يعلم قوة هذا السلاح فيها، مع أن الصحابة حالهم حينها يريدون العمرة لا القتال!! وسلاحهم ليس بسلاح المعارك!! ومع هذا أظهروا لعروة مدى مضيِّهم خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كل قراراته.
ثمَّ انظر إلى تلك الثقة العظيمة عندما أُشيعَ خبر مقتل عثمان رضي الله عنه، رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش، كيف تبايع أهل “الرضوان” على الموت في ذلك، وهم القادمون للعمرةِ لا للموتِ!! فكانت هذه الثقة جزءاً هاماً من المعركة على قريش، فإنها لَمَّا رأت ذلك ذَلَّت نفوسهم وأرسلوا وفود التفاوض للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها وفد عروة بن مسعود الثقفي.
ثمَّ تأمل هذه الثقة العظيمة بالنبي صلى الله عليه وسلم، عندما أمرهم بالرجوع وتأخير العمرة للعام القادم!! بعد أن صاروا في كَنفِ بيت الله الحرام، وعلى أطراف ديارهم التي هُجِّروا منها، وبعد أن أراهم الله ذلَّة أكابرِ قريش، يأتي الأمر بالعودة والرجوع!! موقفٌ عظيمٌ لم يزل الفاروق يجد أثره في نفسه حتى نزلت آيات الله { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا }، وما ذاك إلا لتعلم مدى عظم الأمر على نفوس الصحابة رضوان الله عليهم، ومع هذا.. استمرت معركة الثقة واستجابوا رضي الله عنهم وعادوا.
إنَّ ثقة الجنود بقائدهم سلاحٌ عظيمٌ لا يعدلهُ سلاح في المعارك، بل هو أساس المعارك ومُحرِّكها، وهو أول ما يسعى العدوُّ لاستهدافه في نفوس الجنود، وهو أول ما ينبغي للقائد أن يَحوذهُ، وما بعده تَبعٌ له، ولو تدبرنا حال النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لبانَ ذلك جلياً، ولظهر تأثير ذلك فيهم رضي الله عنهم، فهذا موقفه صلى الله عليه وسلم يوم “بدر” باستيثاق الأنصار من بيعتهم أيخرجون خارج المدينة أم لا، فيردُّ عليه سعد بن معاذ رضي الله عنه: “فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّفَ منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسر بنا على بركة الله”.
وذاكَ الصديق رضي الله عنه يقول في خبر الإسراء والمعراج، وهو حتى لم يلقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعدُ، يقول:” لئن كان قال ذلك لقد صدق”.
ثمَّ بعد كلِّ هذا، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن رآه ليلاً مع زوجه صفيَّة رضي الله عنها مبيناً لهم: “إنَّها صفية”!!.
لقد كان يُلقَّبُ “الصادق الأمين” من قبل البعثة، ثُمَّ استمرَّ صادقاً أميناً حتى عجزَ أبو سفيان أن ينالَ منه عند “هرقل” عظيم الروم، ثمَّ استمرَّ صادقاً أميناً حتى صالحَ “الحديبية” ثم صادقاً أميناً يوم “الأحزاب” يوم نادى المؤمنون { وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُۥ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّآ إِيمٰنًا وَتَسْلِيمًا }، ثم صادقاً أميناً كريماً عندما قال له المشركون يوم الفتح “أخ كريم، وابن أخ كريم” فهم يعلمون أنه كان وما زال، فأجابهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
لقد كان هذا السلاح العظيم بيده صلى الله عليه وسلم، من يوم نادى فيهم “فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد” حتى دمَّرَ شرَّ نفوسهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
ثمَّ بعد هذا يقول “إنَّها صفية”!!
فهل علمنا كيف يُنالُ هذا السلاح العظيم.. سلاح الثقة؟!!
صلى الله عليك يا خير الورى.. ويا خير قائد.. وصلى الله على كلِّ من كان على سنتك..