النبيّ المصلح شعيب عليه السلام -الركن الدعوي – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٥ – ربيع الأول ١٤٤٦ هـ
باحث
الحمد لله والصلاة على رسول الله:
قصص القرآن هي أحسن القصص، {نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ} [يوسف:3]، وقد قصّ الله تعالى في القرآن الكريم خبر الأنبياء والرسل، وقصص الرسل أوردها الله تعالى لا لغرض الخبر فقط، بل لاتباع سيرتهم واقتفاء أثرهم والاهتداء بهديهم، قال تعالى: {أُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ} [الأنعام:90]، وفي قصص الأنبياء تثبيت لقلب السائر على نهجهم، قال تعالى: {وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ} [هود:120]، وقد سلط الله تعالى الضوء في أخبار الرسل على جانب الدعوة والنصح والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ هو الهدف المراد من قصصهم، فدونك أيها المصلح الداعي إلى الله منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام، وأخص موضع سورة هود:
أولاً:
البدء بالأصل قبل الفرع:
أول ما ينبغي تعلمه والعمل به لمن سلك طريق الأنبياء البداية بالأصول قبل الفروع، إذ الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به أصل الأصول ويندرج تحته كل فرع، ولأن المدعو إذا آمن بالله واستسلم له خضعت جوارحه وانقادت، وقد بدأ شعيب عليه السلام دعوته بذلك، قال تعالى: {وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ} [هود:84].
ثانياً: الدعوة لالتزام طاعة الله والبعد عن معصيته، والتحذير من تفشي المعاصي والمجاهرة بها:
التزام طاعة الله وترك المعصية دليل صدق الإيمان، والداعية المصلح ينبه الناس أنه لا بد من الإتيان بالدليل، فيأخذ بأيديهم إلى طرق الخير ويحذرهم من سبل الشيطان، فبعد أن نهى شعيب عليه السلام قومه عن الشرك، ودعاهم للتوحيد، وجههم إلى الالتزام بطاعة الله، وحذرهم من معاصٍ خطيرةٍ تهدد وجودهم ومصيرهم، قال تعالى: {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84].
ثالثاً: عدم الاكتفاء بإنكار المنكر، بل لا بد من تقديم الحلول المناسبة:
إنكار المنكر وحده دون تقديم العلاج أمرٌ صعب على النفوس، وحتى يكون كلام المصلح له أثرٌ في النفوس لا بد أن يحمل في جعبته العلاج للمرضى، فهو بمثابة الطبيب، فهذا شعيب عليه السلام بعد أن أنكر على قومه معصيتهم (التطفيف في المكيال والميزان) والإفساد في الأرض وقطع الطريق وأخذ أموال الناس بالباطل، نبهّهم أن يوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا يعثوا في الأرض مفسدين، فإن ما عند الله خير، قال تعالى: {وَيَٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْاْ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [هود:85-86].
رابعاً: التحلي بالصبر وسعة الصدر وضبط النفس:
وذلك لأن المصلح سيلقى استهزاءً وسخريةً وأذىً وعذاباً في هذا الطريق، فالزاد هو الصبر والعدة هي الاستعانة بالله والتوكل عليه، فقوم شعيب سخروا منه واستهزءوا بقولهم: {يَٰا شُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ} [هود:87]، وهذه المقولة منهم كانت على سبيل الاستهزاء، فما كان من شعيب إلا أن قال: {أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} [هود:88]، في جواب شعيب عدة فوائد، منها التذكير بأنه مرسلٌ من ربه مؤيد بوحيه، وأيضاً التنبيه أنه داعيةٌ بأفعاله لا بأقواله فقط، فهو لا ينكر المنكر ويقع به، وأيضاً التنبيه إلى أنه يريد الإصلاح والهداية ولا يريد مالاً ولا أجراً، فهو متوكلٌ على ربه مفتقرٌ إليه يرجو قبول عمله.
خامساً: التلوين في الخطاب بين الترغيب والترهيب:
وهذا أصلٌ من أصول الدعوة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمتأمل في القرآن الكريم وخاصةً في قصص الأنبياء يجد هذا الأسلوب واضحاً جلياً، فشعيب عليه السلام دعا قومه لعبادة الله وترك العصيان ورغبهم بما عند الله من أجرٍ وثوابٍ {بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} [هود:86]، وقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90]، ورهبهم من عصيانه ومخالفة أمره: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود:89].
فالمصلح يُرغب الناس بالأجر والثواب ليحصل الرجاء والمحبة، ويُرهبهم بالعذاب والعقاب ليحصل الخوف والرهبة.
سادساً: انتقاء العبارات واختيار الألفاظ التي تناسب الحال:
وذلك لأن اللسان أداة البيان، والفصاحة والبلاغة سحرٌ يأخذ بالأفئدة والألباب، وكم من صاحب حجةٍ وبرهان خانته العبارات والألفاظ، فشعيب عليه السلام كما هو معلومٌ خطيب الأنبياء، فمن تدبر حواره مع قومه يجد وضوح العبارة ولين الخطاب وفخامة الألفاظ وروعة العبارة وحسن السبك والربط بين الكلام، ومن ذلك لين كلامه وحنانه بقوله: {ويَا قَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ} [هود:۸٤]، وقوله: {وَيَا قَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ} [هود:۸٥] نداء عطفٍ وحنانٍ ورقةٍ، ومن ذلك أيضاً تكراره النصح بأساليب مختلفةٍ وأمثلته مجموع كلامه في كل مواضع القرآن الكريم، وليس هنا محل ذكرها.
سابعاً: استخدام الزجر والتهديد والوعيد في مواجهة التكبر والعناد:
عند عناد القوم وتكبرهم لا يسع المصلح أن يبقى ليناً هيناً، وهذا كما ذكرنا من الترغيب والترهيب، وتهديد المعاند المتكبر المصرّ على العصيان بالعذاب الشديد والعقاب الأليم من الله تعالى أمرٌ لا بد منه، وخاصّةً عند وصول الأمر إلى درجة تهديد القوم للمصلح وإذلاله والاستهزاء به، فإن الله لا يرضى لمسلمٍ الذلة والهوان، فهذا شعيب عليه السلام لما يئس من قومه ومن كبرهم وغطرستهم هددهم وتوعدهم بعذاب الله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ۖ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود:91-93].
هذا باختصار؛ حول معالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند النبي المصلح شعيب عليه السلام، وأُرشدك أيها المصلح السالك طريق النبيين إلى كتاب ربي وتدبر آياته وتأمل قصص المرسلين، ففيها العبر والدروس والآيات لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
والحمد لله رب العالمين