(المسارعة فيهم) بزعم (التقاء المصالح)

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

فتنة التلاعب بالمصطلحات هي من أعظم الفتن التي يدخل بها الشيطان على القلوب ليجعلها تعمل بالباطل وتعرض عن الحق؛ لذا كان من أهم ما يشغل الكفار تحديد مصطلح خاطئ يصفون به دعوة الحق، فمرة يقولون: “أساطير الأولين” ومرة يقولون: “سحر مفترى” ومرة يقولون: “به جنة”…

ويمتد تلاعب الشيطان بالمصطلحات ليدخل الشبهات في الجهاد والقتال؛ فيختلط الولاء والبراء بالحمية الجاهلية، والاستعانة بالإعانة، ودفع الصائل بالبغي، والطاعة بالارتزاق…

ومن صور هذا الخلط المعاصر في المصطلحات الخلط المتكرر بين “التقاء المصالح مع العدو الكافر” و”المسارعة في هذا الكافر”؛ حيث ينشأ هذا الخلط من رغبة فريق من مرضى القلوب المنتسبين للقتال في تحييد عدو كافر أو اتقاء شره حتى لا تصيبهم دائرة، فيقوم هذا الفريق بأعمال قتالية يظن هو أنها مشروعة في أصلها ويظن كذلك أن مصلحة هذا العدو تتفق مع قيامه بتلك الأعمال القتالية، فيجتهد في تلك الأعمال بلا مراعاة لأولويات الجهاد ومصالحه المرجوة وشروطه المعتبرة، ويجعل تلك الأعمال أولوية طمعا أن يجنبه ذلك مواجهة العدو الكافر ويقيه شره ويقربه منه، ويروج أنه ما فعل ذلك إلا جهادا في سبيل الله تعالى.

ويزداد وضوح انحراف البوصلة وفساد النية عندما يكون هذا القتال ضد طوائف من المسلمين يرى المقاتل مشروعية قتالهم لأي سبب كان (وسواء كانت رؤيته مشروعية قتالهم صحيحة أم فاسدة)، ولكنه في الحقيقة يسارع لقتالهم مبتغيا بذلك رضا الكافر أو تحييده بلا نظر في أولويات القتال ومآلاته؛ حيث اجتمعت مصلحته ومصلحة الكافر في إضعاف عدوهما، وهذا فساد في النية وفساد في العمل: 

– فساد في النية لأنه وإن كان إضعاف طائفة مسلمة (بفرض استحقاقها للقتال) فرضا مطلوبا على طائفة مسلمة أخرى، فإن نية إضعافها أمام الكافر نية فاسدة، بل الولاء القلبي يقتضي محبة انتصارها على الكافر، فوضع نية أن هذا يفرح المسلم والكافر خطأ في النية.

– وهو كذلك خطأ في العمل؛ لأن الجهاد الشرعي ليس مجرد تعداد أسباب مشروعية القتال؛ بل لا بد كذلك من معرفة أولويات القتال، والقدرة الشرعية على القتال، والأثر المترتب على القتال من مصالح ومفاسد..، فإهمال ذلك وعدم المبالاة به طلبا لرضا الكفار وإعلاما لهم بأنه جاد في قتال عدوهم “بزعم التقاء المصالح” هو من فساد العمل.

* وقد تكرر هذا الخلط والفساد من كثير من الجماعات التي قاتلت أو ضيقت على جماعات أخرى مثل تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ والدعوة وعلى غيرهم من الجماعات والفصائل، بزعم مشروعية ذلك ولكن بنية “تحسين الصورة أمام دول كافرة” (وفي كثير من الحالات لم يكن القتال والتضييق مشروعا أصلا بل هو إجرام زينه لهم الشيطان).. فأصبحوا يلهثون وراء قتال مسلمين وينشغلون عن الكفار الأصليين بالقتال المستمر لمخالفيهم وينهكون قواهم طلبا لرضا الكفار (بعضهم بتنسيق مباشر مع الكفار، وبعضهم بلا تنسيق مباشر ولكن بمعرفة بطلبات الكفار وما يرضيهم عادة) ثم أتى الكفار بعد ضعف الطرفين فاستباحوا دماءهم وأعراضهم وديارهم وحكموا بالطاغوت، وهم لا يزالون يلهثون وراء رضا هذا الكافر أو ذاك.

* وقد صور الله جل وعلا حال هؤلاء القوم فقال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) فهم قوم:

(في قلوبهم مرض): حيث تملك الخوف قلوبهم، وشكُّوا في نصر الله جل وعلا أولياءه، واستعظموا في قلوبهم قوة الشيطان وحزبه.

(يسارعون فيهم): فهم المبادرون إلى تحقيق ما يقربهم للكفار ويدخلهم في مودتهم مستعجلين رضاهم، فتراهم يفعلون ما يشتهيه العدو قبل أن يطلبه منهم بل ودون أن يطلبه منهم، فجمعوا بالمسارعة في إرضاء الكفار بين مرض القلب وفساد العمل.

(يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة): فهم لفساد تصورهم أرادوا تحقيق مصالح موهومة في الحفاظ على أنفسهم وإبعاد الكفار عن استهدافهم، ولكن وسيلتهم لتحقيق تلك المصالح هي ما نقص من دينهم وكرامتهم.

(فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين): فهم لم يعلنوا مسارعتهم في الكفار بل رددوا الشبهات الباطلة والتبريرات الكاذبة التي يغطون بها سوء نياتهم التي دفعتهم للقيام بتلك الأعمال، ولكنهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، وسيأتي يوم يندمون فيه على عملهم الفاسد وسرائر نياتهم القبيحة، وذلك خزي الدنيا قبل خزي الآخرة.

* فما أفرح إبليس وجنده بمن يحرف بندقيته لتكون أجيرة لعدوه بثمن أو بلا ثمن، يصوبها إلى الجهة التي يرمقها الكافر المستعظَم عنده؛ ظنا منه أنه بذلك يجمع بين الجهاد في سبيل الله والسياسة الشرعية، وما علم البائس أنه بذلك يجمع بين رقة الدين وفساد العقل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

Exit mobile version