المدير الجديد – الواحة الأدبية – -مجلة بلاغ العدد ٤١ – ربيع الأول ١٤٤٤ هـ
الأستاذ: غياث الحلبي
يوم آخر من أيام الدوام في الشركة ينتهي، فينصرف واعد إلى بيته متعبا، كان طموحا في عمله غير أن كمية الفساد الهائلة في الشركة جعلته دائم التسخط وأماتت في قلبه جذوة الحماسة.
في بداية توظيفه كان يبذل جهودا مضاعفة ليترقى في العمل وليحصل على بعض المكافآت، غير أنه سرعان ما اكتشف أن الترقي في العمل ليس مبنيا على الكفاءة وإخلاص العمل وجودته، وإنما يخضع لاعتبارات أخرى كالقرابة من المدير، ومساعدته على ستر صفقاته الفاسدة، وكيل المديح له، ومهاجمة منتقديه ومنافسيه بعنف؛ وهو مع ذلك ترق محدود.
لم يكن واعد الموظف الوحيد الممتعض في الشركة، بل كان هناك عدد كبير من الموظفين على هذه الشاكلة، وكلهم ممتعض من هذا الوضع، ولكن لم تكن بأيديهم حيلة، وقد سبق أن قام بعض الموظفين بشكاية المدير إلى المركز الرئيس، فقدمت حملة تفتيشية، غير أن المدير بمساعدة جوقته تمكن من خداعها، ثم تقدم عدد من حاشية المدير ليشهدوا زورا أن ذلك الموظف كسول متقاعس في العمل وقد قام بالافتراء على المدير المخلص المجد؛ لأن المدير وجه له إنذارا، ولما لم يجد منه تجاوبا قام بمعاقبته، وبناء على ذلك تم فصل هذا الموظف، ومن يومها لم يجرؤ موظف على عمل كهذا، ولزم الأخيار منهم الصمت.
كان واعد طموحا يريد الترقي في المناصب، غير أن سياسة المدير حالت دون ذلك؛ فأخذ ينتقد المدير أمام الموظفين الذين يستشعر منهم التسخط على المدير، فكان بعضهم يشاركه الانتقاد، ويكتفي قسم بالصمت والاستماع، فيما تجد قسما آخر يقول: خربانة، عوجة، هي هكذا، فكف ولا تكن سببا في خراب بيوتنا، غير أن إصرار واعد وكثرة نشاطه زادت من أعداد المتعاطفين معه وصار طبيعيا أن تدخل المكتب فتسمع واعدا يتحدث عن انحراف المدير وإسناد الوظائف المريحة أو المهمة إلى أقربائه دون مراعاة الشهادة أو الكفاءة، أو تجده يسهب في ذكر بذخ المدير وكثرة نفقاته من مال الشركة المرصود لخدمة الموظفين أثناء العمل، وربما تدخل لتلاحظ شدة انفعال واعد وهو يحدث الموظفين عن صرف المكافآت التي يستحقونها إلى جوقة المدير، وربما رأيت انتفاخ أوداجه غضبا لصفقة فاسدة أجراها المدير.
وأخيرا قرر واعد أن يقوم برفع شكاية إلى المركز الرئيس، ولكنه قبل ذلك تأكد من حصوله على عدد كاف من الوثائق التي تثبت فساد المدير، كما أنه اتعد مع عدد من الموظفين على المضي قدما في الشكوى وألا يخذل بعضهم بعضا، فإما إزالة هذا الدير وإما أن يتحمل الجميع عاقبة الإخفاق ولا يسمحوا للمدير وجوقته بالانفراد بواعد كما حصل مع الموظف السابق.
حرص واعد على مفاجأة المدير حتى لا يتمكن من حبك كذبة وتلقينها أنصاره، وبالفعل جاءت الحملة التفتيشية على حين غرة، وصُدم المدير وهو يرى الوثائق تقدم لها تترى، وكلها تثبت فساده، تلا ذلك شهادة عدد كبير من الموظفين ضده، فأُسقط في يده ورأى عدد من أفراد جوقته أن مديرهم قد سقط، فقدموا بدورهم شهاداتهم ضده، فعُزل وأحيل إلى المحاكمة.
وتقديرا من إدارة الشركة الرئيسية لجهود واعد فقد عينته مديرا جديدا للفرع، وبدأ واعد عهده بحملة من الوعود الإصلاحية التي تتضمن إعطاء كل ذي حق حقه، وجعل ميزان التفاضل بالكفاءة والجد لا غير، ووأد الواسطات والرشاوى..
بدأ واعد عمله، ولكن أكبر همه في الحقيقة هو خصخصة فرع الشركة والانفصال بها عن المركز الرئيس، فبدأ بتحريض الأهالي على المطالبة بذلك؛ لأن الخصخصة بزعمه ستجعل الأرباح تصب في صالحهم بدل سحب المركز الرئيس لخيرات مدينتهم، وبالفعل أثمرت تحركاته تشكيل قوة ضاغطة على المركز الرئيس ترتب عليها شراء الأهالي لفرع الشركة بالمدينة وتقاسمهم أسهم ملكيتها عبر البورصة..
فرح واعد كثيرا بتخلصه من متابعة الفرع الرئيس، وشرع عبر مراحل متعددة في التخلص من الكوادر الجيدة في مجلس إدارة الشركة، وكذلك وظف أقاربه وأصدقاءه في الشركة وقدمهم للمناصب المهمة ليكونوا أعضاء في مجلس الإدارة.
– وبحث واعد في الشركة عن أقل الموظفين ذكاء وهمة وقربهم منه وعينهم مسؤولين في الشركة ليتخلص من الكفاءات التي قد يرشحها الناس يوما ما لإدارة الشركة.
– وأغدق واعد على جوقته والمنتفعين منه الرواتب العالية والمكافآت الضخمة والإجازات المتعددة.
– وأصدر واعد قرارات نقل وتقاعد لكل الكفاءات القوية في الشركة.
وخلال شهور قليلة أصبح واعد هو المتحكم الوحيد في الشركة عبر تسلطه على جميع مفاصلها، ووضعه لمجلس إدارة جديد ضعيف منتفع، واستبعاده لكل الكفاءات القوية في الشركة.
تحقق لواعد ما يريده من تفرد بإدارة الشركة وتمتعه بخيراتها، ولكن حصل ما لم يكن له في الحسبان؛ حيث بدأت الشركة في الخسارة ونزل ثمن أسهمها كثيرا، وسادت حالة استياء بين الأهالي.
حاول واعد مواجهة الإشكاليات المجتمعية بإرجاع سبب الخسارات إلى الأزمات العالمية التي تحيط بالمنطقة، ودخول شركات عالمية في المنافسة الاقتصادية إمكانياتها أكبر بكثير من إمكانيات الشركة الصغيرة.
ولكن محاولات المدير لم تثمر، وبدأ الأهالي المستثمرون في أسهم الشركة بالتظاهر ومطالبة المدير بالاستقالة ومعه مجلس إدارة الدمى التابع له.
ثم تطور الأمر فبدأ الأهالي يطالبون بلجنة ممثلة عنهم تجرد المستودعات وتجري الحسابات وتطلعهم على حقيقة واقع الشركة، وشكل الأهالي تلك اللجنة التي يريدون فرضها على المدير رغما عنه.
شعر المدير بالخطر الداهم، وهنا أوحى له شيطانه بخطة إبليسية تعيق عمل الأهالي؛ فافتعل حريقا كبيرا في مكتب المحاسب وقسم المستودعات، وبدأت النيران تلتهم جزءا كبيرا من الشركة.
وبمجرد ظهور النيران في المدينة سارع الأهالي بالعمل الجاد على إطفاء الحريق، وبدأوا كذلك بالهجوم على مكتب المدير ومجلس الإدارة ليسيطروا عليهما ويحفظوا المستندات من الضياع والاحتراق.
أطفأ الأهالي الحريق، وأعلنوا الاستيلاء بالقوة على الشركة، وتعيين مجلس أمناء لها، وطلبوا واعدا للمحاكمة المستعجلة بتهمة الخيانة.
تولى مجلس الأمناء الجديد إصلاح التالف، وتنظيم عمل الشركة، وبدأ البحث عن واعد لتقديمه للمحاكمة.
انقطعت أخبار واعد تماما، وانتشرت إشاعات عنه؛ فمن قائل: إنه لم يستطع الهروب من الشركة عند هجوم الأهالي عليها واختبأ في جزء منها فدخلت النار عليه وحولته إلى فحم يستحيل التعرف على شخصيته منه، وقائل يقول: إنه هرب إلى البلاد المجاورة ويعيش في ظل الثروات الهائلة التي سرقها من الشركة، وقائل يقول: إنه شوهد هائما على وجهه في الصحاري ليس معه ما يأكله ولا يستر عورته.
وبالعموم فقد أصبح واعد في خبر كان، واستطاع مجلس الأمناء الجديد النهوض بالشركة وتحقيق أرباح كبيرة جدا، وتبين للجميع أن واعدا ما هو إلا كذاب الشركة ولصها الأكبر.
انتهت.