السمع والطاعة في الجهاد – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٠ – صفر ١٤٤٤ هـ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن السمع والطاعة شعار المؤمنين الأول الذي تربوا عليه والذي أمروا به على جميع أحوالهم، قال تعالى: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، وقال أيضًا: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))

والسمع والطاعة ركنان أساسيان في بناء ونجاح أي مشروع سياسي أو اجتماعي أو خيري أو اقتصادي.. فما بالك بمشروع جهاد قائم على أشلاء خيرة أبناء أمته، الذين بذلوا فيه دماءهم وأموالهم وأوقاتهم ليبسطوا الأمن على مشارق الأرض ومغاربها، ويخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..

والسمع والطاعة لفظان إذا انفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا؛ دل السمع على تلقي الأمر بالقبول، ودلت الطاعة على تنفيذ هذا الأمر..

فقد يتلقى المرء الأمر ويقبله ولكن لا ينفذه لعسر أو كسل أو ملل في نفسه، وقد ينفذ الأمر وهو كاره رافض له، إذن لا بد من سماع الأمر وقبول ثم تنفيذه على وجهه الأتم له حتى يتحقق السمع والطاعة..

وما تراجع المسلمون في زمن من الأزمنة أو معركة من المعارك إلا حين خالفوا أمر الله عز وجل أو أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أو أمر قائدهم الذي يأمرهم بما فيه مصلحتهم وصلاحهم وعزهم وشرفهم، كما حصل في غزوة أحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صحابيًا من الرماة ألا يبرحوا أماكنهم، فقال: «إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ» رواه البخاري، فلما خالف بعض الرماة الأمر حصل للمسلمين يومها ما حصل.

* فضل السمع والطاعة:

السمع والطاعة في الجهاد عبادة وطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم يثاب فاعلها ويأثم تاركها:

قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) فجعل طاعة أولي الأمر واتباع أوامرهم طاعة تابعة لله ورسوله، فجاءت كلمة أولي الأمر معطوفة على كلمة الرسول دون تكرار للفعل أطيعوا.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» متفق عليه.

– السمع والطاعة في الجهاد يبعث في النفس النشاط والحيوية رغم المشاق:

فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول عن يوم الخندق: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»، فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَقَالَ: «قُمْ يَا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ»، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ، قَالَ: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمَّامِ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ قُرِرْتُ، فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قَالَ: «قُمْ يَا نَوْمَانُ» رواه مسلم.

* حدودها وآدابها:

– ألا تكون في معصية: فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ» متفق عليه.

وورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه أنه قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ».

– أن تكون على قدر الاستطاعة: قال تعالى: ((لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)).

وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتَ» متفق عليه.

وعن عبد الله رضي الله عنه قال: لَقَدْ أَتَانِي اليَوْمَ رَجُلٌ، فَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا مُؤْدِيًا نَشِيطًا، يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي المَغَازِي، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِي أَشْيَاءَ لاَ نُحْصِيهَا؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، إِلَّا أَنَّا «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَسَى أَنْ لاَ يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِي أَمْرٍ إِلَّا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ» رواه البخاري..

– طاعة الأمير في الأمور الاجتهادية العامة: فإنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا اجتهد الأمير في شأن من الشؤون العامة فإن اجتهاده مقدم على اجتهاد غيره.

– عدم منابذة الأئمة، فعن عوفِ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» رواه مسلم.

* طاعة الأمير ولو مع الشعور بالغضاضة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» رواه البخاري.

* الطاعة لا تنافي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ» رواه البخاري.

خاتمة:

اللهم اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، وقّافين عند كلامك وحُكمك وحدودك وأمرك ونهيك، مطيعين فيما أمرت منتهين عما نهيت، لسان حالنا دائمًا وأبدًا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين.