الراديكالية التي يحاربها النظام الدولي – كتابات_فكرية -مجلة بلاغ العدد ٤١ – ربيع الأول ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

كثر استخدام هذا الكلمة مفردةً أو في الغالب مقترنةً بكلمة الجماعات أو التنظيمات، ليدل قائلوها على المجاهدين المسلمين ذوي النشاط الدولي أو المحلي، وقليلاً ما توصف بها الأحزاب والحركات والتنظيمات الأخرى، وإن كانت راديكالية في تصريحاتها أو حقيقة توجهها.

يمكن ملاحظة حضور هذه الكلمة الأعجمية Radical وأصلها اليوناني Ριζικό، في خطابات ساسة الدول الغربية وأمناء ومدراء المنظمات والمؤتمرات الدولية، وبعض زعماء وقادة الأنظمة الحاكمة للعرب والمسلمين، ومعناها الجذر أو الأصل، ويوصف بها من يسعى إلى التغيير الجذري، فلانٌ راديكالي، أو الجهة الفلانية راديكالية.

يعود مصطلح “راديكالي” إلى أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وصفت بها الحركة البرلمانية المطالبة بالتغيير الجذري نحو الديمقراطية، وقد أطلقت كلمة راديكالي أول مرةٍ في بريطانيا، حين طالب “تشارلز جيمس فوكس” قائد الجناح اليساري في حزب الأحرار الإنجليزي الذي انشق عن الحزب الليبرالي المحافظ عام 1797 بإصلاحٍ راديكاليٍّ أي إصلاح جذريٍّ.

ولم تكن الراديكالية تهمةً، ولا الراديكاليون متهمون ملاحقون أو مستهدفون، حيث خاضت الكثير من الأحزاب والحركات معترك السياسة أو حروب التحرير الوطنية بمبدأ الراديكالية والتغيير الجذري، ولأن النظام الدولي لم يكن مستقراً ومسيطراً عليه بصورةٍ مركزيةٍ، كانت تحركات التغيير الجذري التي تصب في مصلحة الدول الكبرى ممدوحةً مدعومةً من قبلها، وإن كانت محاربةً من غيرها، لكن هذا تغير بعد استقرار النظام الدولي وتوحد قطبه المسيطر.

بعد ردحٍ من استخدام مصطلح الإرهاب والأصولية، انتقل الساسة والإعلام الغربي إلى التركيز على مصطلح الراديكالية لاستهداف التحركات الإسلامية الساعية الى التغيير الجذري للواقع المحلي أو الدولي، حيث يشمل هذا المصطلح التحركات الراديكالية التي لا تعتمد على وسائل إرهابيةً بالمفهوم الضبابي الغامض للإرهاب، والتحركات الراديكالية التي لا تتبنى الأصولية والخطاب السلفي بشكلٍ واضحٍ.

ولأن النظام الدولي الحالي الذي أمسك الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية زمامه، يرى أن الإسلام هو العدو الوجودي الأخطر، نظراً إلى الحضارة القوية والعريقة التي أقضَّت مضجعهم في قرون مضت، يركزون إلصاق الراديكالية بالتحركات الإسلامية والتحذير منها ومحاربتها، رغم أن الراديكالية أي العمل على التغيير الجذري قامت به دول وأحزابٌ وتنظيماتٌ منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم إن محلياً أو دولياً، وبعضها لتغيير تركيبة النظام الدولي وتوزع السيطرة فيه، ها هي روسيا مثلاً تعيد المحاولة بعد فشل الاتحاد السوفيتي سابقاً.

قال المستشرق الهندي البريطاني “هومي بابا”: “الراديكالية كلمة ذات دلالاتٍ سلبيةٍ تلصق بالعالم الإسلامي، مع أن الظاهرة عالميةٌ ولا تقتصر على ما كان يسمى دول العالم الثالث مثل الهند ومصر، بل وجدت طريقها إلى العالم الأول حيث الراديكالية الإنجيلية على أشدها في الولايات المتحدة مثلاً”.

أضف أن الأحزاب اليمينية والشعبوية المتطرفة في أوروبا تصرح بتوجهاتها الراديكالية الفَجَّة، ومعاداتها للركن الذي يقوم عليه النظام الدولي الحالي ويسيطر به على الشعوب وهو العلمانية، مع دعايتها الدينية والعنصرية، التي تدعو الشعوب الأوروبية إلى الانقلاب على العلمانية والمدنية والعولمة، مؤخراً فاز حزب “إخوان إيطاليا” اليميني الفاشي بعدد كبير من المقاعد النيابية، لكن لا يُستخدم مصطلح الراديكالية لوصفه، ولا يصنف في قائمة الخطر، ولا يحارب لإجهاض تحركاته، هذا التحيز يظهر توجه من يستخدم هذا المصطلح وأهدافه.

 

تقول الباحثة في مركز (نيو أمريكا) “هيذر هيلبرت” في مقال نشرته مجلة (نيوريببلك): “في تركيز إدارة ترامب على الإسلام الراديكالي تتجاهل الأدلة عن التنوع في الأسباب التي تقود للعنف وكذا دور المجتمعات الدينية في تحديد ومنع التهديدات الإرهابية المحتملة”.

ويركز “أوليفر روي” المحلل المعروف في شأن الجماعات الجهادية الإسلامية والأستاذ في عدد من الجامعات الأوروبية في كتاب (الحرب الخاطئة – إسلامويون وإرهابيون وأخطاء الغرب) وفي كتاب (الجهاد والموت: النداء العالمي للدولة الإسلامية) على فكرة: “يجب أن نفهم أن الإرهاب لا يظهر من ردكلة الإسلام ولكن من أسلمة الراديكالية”، ومفادها أن الراديكاليين هم راديكاليون أساساً، وليس ارتباطهم بالإسلام ما أوجد فيهم هذه الصفة، فالكثير من ذوي التوجه الراديكالي ليسوا أساساً من تنظيمات موجودة في البلدان الإسلامية بل هم من بلدان غربية، ومنهم من لم يكن ملتزماً دينياً بالأساس، بل خرج من أوساط المجون والجريمة.

ويقول أستاذ تاريخ جنوب آسيا بجامعة واشنطن “إيان ونديت” في مقال نشره بموقع (ريل كليربولينكس) الأمريكي تحت عنوان (الراديكالية تدمر المجتمعات الإسلامية): “إن العالم الإسلامي يواجه اليوم تحديات عديدة، منها نظم الحكم المطلقة والديكتاتورية والاستبدادية، واللامساواة الداخلية والتغيرات الاجتماعية، وسموم الثروة النفطية والركود الاقتصادي، وانتهاك حقوق الإنسان، وإن أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية حالياً هو مرض الراديكالية الدينية”، مشيراً إلي أن الميليشيات الراديكالية ترهب وتدمر مجتمعاتها، وبعد ذلك تتوجه للدول المجاورة.

وأضاف: “حتى لو كانت هذه الجماعات تنشر الإرهاب في الخارج فهي تؤثر على مجتمعاتها الداخلية، ولذلك يجب على المجتمعات الإسلامية رفض هذه الميليشيات الراديكالية، ولمصلحتنا نحن يجب أن نساعدهم”.

إذاً، من خلال التهمة المصلحية المُسيَّسة والعمل البحثي الدؤوب يخلص الغرب بساسته وباحثيه إلى أن الراديكالية الإسلامية موجودة، وإن اختلفوا في سبب نشوئها وطرق مواجهتها، لكن يتفقون في المحصلة على ضرورة القضاء عليها، فيما يتجاهلون دولاً أو أحزاباً أو حركاتٍ تصرح براديكاليتها، مثل دولة إيران التي تتبنى مبدأ تصدير الثورة الرافضية وتطبقه في دول الجوار العربي السني، وأذرعها المنتشرة مثل الحزب التابع لها في لبنان، وجماعة الحوثي في اليمن، حتى حزب البعث الحاكم في سوريا منذ عام 1963 وأمثاله، وهو يعرف نفسه بأنه “حركة قومية شعبية انقلابية تناضل في سبيل تحقيق الوحدة العربية والحرية والاشتراكية”، ويتبنى في منطلقاته النظرية مبدأ التغيير الجذري للدولة والمجتمع.

السبب الذي يجعل الغرب يركز على الجماعات الجهادية وأحزاب الإسلام السياسي، أن الهدف المعلن أو غير المعلن الذي تعمل لتحقيقه هو التغيير الجذري بمعزل عن النظام الدولي، أو باستهدافه مباشرةً، وليس ضمن الحيز والدور الذي يسمح به ويحقق مصالحه، بالطريقة التي تقبل بها وتحسنها الحركات والتنظيمات الموظفة أو المرضي عنها، التي تكون محصلة تحركاتها صفرية أو إيجابية لدوام استقرار النظام واستمرار السيطرة على الشعوب.

من هنا تستمر الدول في تصنيف التحركات والتنظيمات والجماعات، وإعطاء علامات وتحديد درجات تصنيفية لها، حسب مدى رفضها أو قبولها وتماهيها مع الواقع الدولي والمحلي، ورضوخها للتوافقات الدولية التي تحقق أهداف ومصالح الدول المهيمنة، فمنها مثلاً وإن كانت مصنفة على قائمة الإرهاب تصل إلى مرتبة مصدر قوة استراتيجية للولايات المتحدة، هذا ما صرح به جيمس جيفري المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا عند حديثه عن “هيئة تحرير الشام”، ومنها ما توصف بالراديكالية بسبب استهدافها لدورية روسية تمر في وسط المنطقة الثورية المحررة، رغم أنها غير معروفة وغير مصنفة، وإن الميزان لهذا هو ما ذكرته أعلاه، القبول بواقع النظام الدولي وتوزيع الأدوار المحلية، وتقديم الأدلة التي تثبت ذلك، ثم إن الهدف النهائي هو القضاء على الراديكاليين أو تجريدهم من راديكاليتهم، وهذا وجه آخر من وجوه القضاء عليهم، لو كانوا يعلمون.

اللهم استعملنا ولا تستبدلنا وأعنا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا، اللهم آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى