الحر لا يُباع ويُشترى -الركن الأدبي- مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٥ – ربيع الأول ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: أبو محمد نصر

أحمد شابٌ فقيرٌ في مقتبل العمر، تخرج في الجامعة بتخصص “إدارة أعمال”، ولم يمض على زواجه إلا سنوات معدودة، وقد رزقه الله عددًا من الأولاد، وقد أجبرته الظروف وسنوات التهجير على العمل في أكثر من مكان وذلك ليُعيل أسرته ويطعم أولاده، وفي كل مكان كان يعمل به، كان حريصًا أشد الحرص على عدم ترك هذا العمل، لكن تجري الرياح في بعض الأحيان بما لا تشتهي سفن الإنسان.

جلس أحمد فترة من الزمن دون عملٍ، وأصبحت حالته المعيشية صعبةً جدًا، فالجوع بدأ يفتك بأولاده، وصاحب البيت الذي يسكنه هو وعائلته يريد “الأجرة” فقد مضى الشهر الأول وهذا الثاني ولم يدفع أحمد الأجرة له، إلى أن قرأ أحمد إعلانًا لشركةٍ خاصةٍ تبحث عن موظفٍ يحمل شهادةً جامعيةً في إدارة الأعمال، فقال أحمد: قد جاء الفرج، فقدم على تلك الوظيفة ونجح في المسابقة، وبدأت الأحلام تأخذ أحمد يمنةً ويسرة، سأفعل كذا وسأشتري لأولادي ما يريدون، وسأسعد قلب زوجتي التي تحملت معي الصعاب، وبدأ أحمد العمل وكله حرصٌ على الاستمرار في العمل، فعدم العمل بالنسبة له يعني دمار الأسرة، والمبيت في الطرقات؛ لأنه لن يملك وقتها مبلغًا من المال يستأجر به بيتًا له ولأسرته.

وقع أحمد عقد عملٍ مع هذه الشركة، ولكنه لم يدر أنه يوقع بيده عقد “عبودية” لا أكثر، فصاحب الشركة رجل متعجرفٌ متكبرٌ يظن أن العاملين عنده في الشركة عبيد وليس لهم أي حقٍ من الحقوق حتى حق الاعتراض، فالمال والسلطة عندما يملكهما من لا يخاف الله يجعلان منه فرعونًا صغيرًا.

 

في بداية الأمر حاول أحمد أن يساير صاحب الشركة بما يستطيع، وأن لا يعترض على الأخطاء التي كان يراها، لأن الاعتراض يعني ترك العمل، وترك العمل عاقبته معلومة، وكم ضحّى أحمد من كرامته وسمع كثيرًا من الإهانات في سبيل المال الذي سيتقاضاه في آخر الشهر ليحقق تلك الأحلام فيشتري لأولاده ما يريدون ويسعد زوجته التي كانت تجلس كل يوم بعد أن يعود أحمد من عمله لتسمع منه عن تلك الضغوط التي يتحملها وعن تلك المعاناة التي يعانيها مع صاحب الشركة، ولكن ماذا تفعل؟؟ هل ستقول لأحمد أترك العمل ولنا الله الذي لا ينسى أحدًا، أم تقول له اصبر فالراتب سيُنسيك طعم الإهانة، وجلس الاثنان في حيرةٍ من أمرهما، ولكن من يفوض أمره لله لن يبقى في حيرة.

وفي يوم من الأيام وأحمد على رأس عمله، جاءه صاحب الشركة غاضبًا فأحمد خالف أمره في مسألة معينة، وقد ارتفعت الأصوات، فقال صاحب الشركة لأحمد: لم خالفت أمري وفعلت غير الذي أمرتك به؟

فقال أحمد: فعلت ذلك لأن هذا هو الصحيح.

فقال صاحب الشركة: الصحيح هو الذي أحدده أنا لا أنت، وما عليك إلا أن تنفذ أمري دون اعتراض.

ثم أضاف: هذه الشركة شركتي والقول قولي ولا قول لك ولا رأي، وإن لم يعجبك هذا الكلام، فهذا باب الشركة يُدخل جملًا، وإن تركت أنت فسيأتي بدلًا عنك عشرة، فبمالي أستطيع توظيف من أريد.

لم يكتف صاحب الشركة بذلك بل قال له: بل بمالي أستطيع شراء من أريد، وهذه الكلمة أيقظت في أحمد كثيرًا من الأمور، هل نحن حقًا نعيش في ظل الإسلام؟؟

أم عاد بنا الزمان فأصبحنا نعيش في زمن الجاهلية الأولى عندما كانت العبودية منتشرة والعبد ليس له من أمره شيء، أم عاد بنا الزمان أكثر فرجعنا إلى قصر فرعون، وكيف كان بنو إسرائيل يعيشون تحت ظله عبيدًا.

 

نعم عادت العبودية في زماننا لكن بنكهةٍ جديدةٍ، فصاحب المؤسسة والشركة والمعمل وقائد الفصيل وقائد الكتيبة وقائد السرية، والقاضي وكل صاحب سلطةٍ، أصبح يرى من هم دونه في المنصب والعمل عبيدًا، وأنه السيد المطاع الذي لا يُخالف أمره، بل أصبح شعار كثيرٍ من أصحاب المناصب {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ} [غافر:29]، فالقول قوله والمنصب منصبه.

أما أحمد فقد قال لصاحب الشركة: الحر لا يُباع ولا يُشترى، ولن أبيع كرامتي التي لا أملك غيرها بمال الدنيا كلها، أما أنا فقد تركت العمل وأما أولادي وزوجتي فلهم الله الذي لن ينسى عباده، وعاد أحمد أدراجه إلى البيت بعد أن تحرر من قيود العبودية الجديدة باحثًا عن عملٍ جديدٍ يكون فيه حرًا، وكثيرٌ هم الذين شابهت قصتهم قصة أحمد، ما زالوا يعانون قيود العبودية، ولكن الحاجة والفقر تمنعهم من كسر القيود..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى