“الجهادي” و”الوهم” والخطيئة الأخيرة – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد السابع والثلاثون ذو القعدة ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
قبل أن تسقط المنطقة بين سراقب ومعرة النعمان بأيام، جلستُ مع قائدٍ عسكريٍّ يتبع لهيئة تحرير الشام في بلدةٍ فارغةٍ، تحت الطيران الحربي والقصف الشديد، كنت استقلت منذ أشهر من الهيئة، ناقشنا الوضع الذي لا يبشر بخيرٍ، فقال لي: “لقد جمعونا، وقالوا لنا: المحرر كبير علينا” يقصد قيادة الهيئة، نقلها بالحرف “المحرر كبير علينا”، كان فهمَ معنى العبارة لكنه لم يعِ مؤداها، وكان يعلم كما يعلم كثيرون أن المنطقة ستسقط، فالتحرك العسكري لصدِّ تقدم العدو كان استعراضياً وفي محورٍ واحدٍ فقط، أخبرته وقتها بالذي تأكدت منه بالأدلة الكثيرة، أن الهيئة تنظيمٌ شموليٌّ يسعى إلى حكم المنطقة الصغيرة المتبقية من إدلب بالقهر والحصر، وليس له من باقي اسمه نصيب، فإذا أراد التوسع فليس جنوباً باتجاه العدو، بل شمالاً باتجاه منطقةٍ ثوريةٍ أخرى.
أثبتت الأيام للكثيرين أن مشروع الهيئة الذي سيطرت عليه قيادة جبهة النصرة لم يعد يمثل إلا طموحاتها المحدودة، في حيزٍ صغيرٍ شمال إدلب، وليس عند هذه القيادة البراغماتية استعدادٌ للتضحية في أي سبيل غير سبيل إثبات الذات وتحصيل المكتسبات، وأن السيطرة بالطريقة الشمولية على منطقة تكون حسب اتساع المنطقة وقدرة النظام أو التنظيم على تغطيتها بالعسكر والعسس، ليس للسهر على راحة أبنائها وتحفيزهم للمشاركة بوعيٍ وحريةٍ في التحرير والبناء، بل لكبتهم وتقييدهم واستغلالهم، وهذا ما كان ويكون ولا يدوم، والأيام دول.
هذا المحرر الذي يقصدونه، إدلب وريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي قبل سيطرة النظام وداعميه على أكثر من نصفه، لم تكن قيادة الجبهة ثم الهيئة تستطيع إحكام السيطرة عليه عسكرياً ولا إدارياً واستغلال أهله وموارده، وعندما تقلص لأسباب هي أهمها وأخطرها، وتمكنت من تحصيل الموارد وتوهمت القدرة، عادت إلى محاولة التوسع باتجاه الشمال، حيث فصائل الجيش الوطني، ومعظم هذه الفصائل كانت نالت نصيبها من التكفير والقتال زمن جبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام من ذات القيادة وبالطرق والذرائع نفسها، وفي مراحل حرجةٍ مرت بها الثورة، وكانت النتيجة ما وصلت إليه.
إن الجيش الوطني بفصائله يدعم الحكومة المؤقتة التي تتبع للائتلاف الوطني الذي يفاوض النظام المجرم برعايةٍ دوليةٍ، هذا الائتلاف ينتهج العلمانية التي تقصي دين المسلمين الثائرين، وهم الأغلبية وأصحاب الحق المستلب، وللمفارقة عندما تقع خلافات بين هذه الفصائل تلجأ إلى لجان مؤلفة من علماء مسلمين ومشايخ يقضون بينها بشرع الله، ثم تلتزم في الغالب بما تقرره اللجان، وبعض الفصائل لا تلتزم وهذا شاذٌّ معدودٌ يعرفه الناس ويميزونه، كما حصل في قضية “أبي عمشة” وقضية “أحرار الشام” مؤخراً، وبالمناسبة فإن قيادة هيئة تحرير الشام حاولت استغلال رفض هؤلاء الفريقين في المرتين المتتاليتين لدخول منطقة شمال حلب، لتحقيق طموحاتٍ توسعيةٍ أهم هاجسٍ لها هو حصر التمثيل والرعاية الدولية.
وفي إدلب ترفع هيئة تحرير الشام شعار تطبيق شرع الله، وتدعي ذلك في المحاكم والشؤون الإدارية، لكن عملياً يستطيع أي مراقبٍ جمع أدلةٍ كثيرةٍ على كذب هذا الادعاء، فالمعتمد عندهم ما وافق مصلحتهم إن استطاعوا انتقاءه من الشريعة أو لم يستطيعوا، فالمكوس المفروضة ابتداءً من المعابر إلى أصغر زارعٍ أو صانعٍ أو بائعٍ، والمعابر مع العدو التي مما تدخله إغاثةٌ أمميةٌ تهدد دخول الإغاثة عبر الحدود، والفساد المستشري في المحاكم حيث القوي يأكل الضعيف وبمستندٍ وأختامٍ، ومنكراتٌ في الأماكن العامة يمنع إنكارها إلا عن طريق السلطة التي حذفت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قاموسها الإداري، وتفشي المخدرات التي تقوم حملاتٌ معلنةٌ لملاحقة مروجيها، ويضبطها الأتراك مهربة إليهم في شحناتٍ عبر معبر باب الهوى، وملاحقة للمجاهدين الرافضين لمهادنة العدو المجرم تحت الاتفاقيات الدولية ثم قتلهم أو سجنهم بلا تهمٍ ولا محاكماتٍ، بالإضافة إلى إعلان التواصل والعلاقات الطيبة مع الجيش الوطني الذي لطالما تغنت هذه القيادة ذاتها بتكفيره ابتداءً من الجيش الحر وهيئة الأركان العسكرية، ومؤخراً التدخل لمساندة أطرافٍ رفضت الامتثال لأحكام اللجان الشرعية المفوضة في حل خلافاتٍ بين فصائلٍ في الشمال، أي نصرة هذه الاطراف ضد الحكم الشرعي وليس معه.
هذا وإن للائتلاف العلماني حضوراً في إدلب عبر ممثلين ومكاتب وهيئاتٍ سياسيةٍ، منها كدليلٍ أجريت انتخاباتُ “الهيئة السياسية في إدلب”، في كللي شمالي إدلب، 6 يناير / كانون الثاني 2022، قال الرئيس السادس المنتخب للهيئة السياسية في إدلب “أحمد حسينات” للسورية نت: “إنّ الهيئة السياسية تريد أن توصل رسالة للعالم أنّ في إدلب حركةً مدنيةً ديمقراطيةً، تشهد انتخاباتٍ وتداول سلطةٍ وحرية رأيٍ، وهو تمسك بمطالب الثورة السورية”، كما أن للحكومة المؤقتة حضوراً عملياً كبيراً في مجالات أهمها المجال الطبي والتعليمي، وللمنظمات التي تُعنى بـ”تحرير وتمكين المرأة” و”تنظيم الأسرة” حضورٌ، وغيرها من منظمات هدمٍ وتغييرٍ وتغريبٍ اجتماعي، والقائمة تطول.
هذه القيادة التي صبغت نفسها بالسواد ابتداءً، وهي حريصةٌ على التصدر والظهور في الواجهة، رأت أن عليها العمل على إزالة هذا اللون الذي أغرقت نفسها فيه، ولو كان ذلك يؤدي إلى اهتراء الثياب والجسد وإعمال المقص لإخفاء سوءات تظهر تحتها سوءات أبشع، ومع ذلك لا تنطلي هذه الفهلوية ولا يخدع هذا التذاكي إلا فاعله، كالحاكم الظالم الذي خاط له محتالان زياً لا يراه إلا الأذكياء، فنافق نفسه ونافق له كل من حوله حتى خرج على رعيته عرياناً ظاهر السوءة، قبيح الخُلق والخلقة.
من التقارير الصحفية الهامة التي صورها إعلاميون عن إدلب وسلطة الأمر الواقع فيها، فيلم “الجهادي” الذي صوره الصحفي الأمريكي “مارتن سميث” ، حيث ظهر فيه الجولاني بحلةٍ غربيةٍ جديدةٍ، وروَّج أتباعه أنها مقابلةٌ هامةٌ، ليتبين أنه تقرير ظهر فيه الجولاني في مقاطع صغيره بين مقاطع منها صورٌ لنساءٍ بلباسٍ فاضحٍ على شاطئ اللاذقية حيث يسيطر عليه النظام المجرم، وظهر هذا “الجهادي” المتحوِّر الذي يفهم الغرب من العنوان أنه “إرهابي” وفق شهادات مرفقة من مناطق النظام، ظهر بدور الكومبارس المخدوع، وهذا في الحقيقة مشينٌ ولا يرضي حتى خصوم الجولاني الذين يرون في هذا إهانة للثورة كلها وصورة غير لائقة ظهرت بغير رضاً منهم ولا قَبول.
ومن التقارير فيلم “الوهم” الذي صورته المراسلة الصحفية الأذرية “فافا أغاباليفا”، وظهرت سافرةً في إدلب مع مرافقةٍ من مركز الخدمات الإعلامية الذي يتبع للهيئة، ولقد ثار خلافٌ حول ثبات سفورها في إدلب، ليثبت ذلك بالدليل وبإقرار هذا المركز ذاته، مع ثبات الخديعة أيضاً حيث يظهر أن أغرار السياسة قيادة الهيئة لا يركزون على مضمون التقرير بل يتيحون المجال للصحفي القادم من الخارج للتصوير والحديث بحريةٍ، ثم إنتاج مادته الإعلامية بحريةٍ وبلا تعقيبٍ، على عكس الصحفي من داخل المنطقة، الذي يتعرض للمضايقات والضرب والسجن إذا تخطى الخطوط التي رسموها، “الوهم” فيلمٌ مصور في المنطقة الثورية المحررة، العنوان يكفي ليفهم المتلقي أن المنطقة وأهلها يعيشون حالةً من الوهم لا تدوم، بئس الخادع والمخدوع.
ما تقدم وغيره يجعل المتابع العاقل يزدري من يظن أن طموحات قيادة هيئة تحرير الشام التي ليس لها من تحرير الشام نصيب في شمال حلب جهاداً في سبيل الله أو سعياً لإقامة الشريعة التي لم تقم في إدلب كي تقوم في غيرها، على الأقل إن إقامة الشريعة لا تكون بنصرة الممتنع منها ضد حكمها وضد المطالب بتنفيذه، وهل يكون التوسل إلى الشيء بضده؟!، لكنه الطموح البراغماتي السلطوي، ومحاولة فرض الذات على النظام الدولي كممثلٍ حصريٍّ يقدم خدماتٍ أفضل من غيره، ويسيطر بقبضةٍ أشد من غيره، ويكبت أهل الثورة ويوجههم بانضباطٍ أكثر من غيره، وغنيٌّ عن البيان أن حرية التعبير والتغيير الشعبية شمال حلب ضئيلةٌ لكنها موجودةٌ، فيما أنها منعدمةٌ في إدلب، وحادثة الاعتصام في مدينة الباب وإقالة رئيس فرع الشرطة العسكرية دليلٌ واضحٌ.
كما أن محاولات قيادة الهيئة باتجاه الشمال قفزة هروبٍ إلى الأمام، حيث تقضي السياسة التركية بتوسع المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الوطني باتجاه الشرق، وتقلص المنطقة التي تسيطر عليها الهيئة إلى الزاوية شمال الM4 فقط، وهذا عندما يتحقق سيحجِّم قيادة الهيئة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، ويخلق لها مشاكل كثيرةً في منطقةٍ محصورةٍ منضغطةٍ سكانياً، لكن هذه القفزة غير محسوبة العواقب ستصطدم بالحرج التركي أمام العالم، وبأعداد كبيرة من العسكريين والمدنيين الرافضين لحكم أو تحكم الهيئة، سيكون تدخل الهيئة في الشمال حافزاً لهم للتحرك ضدها، وستحدث خللاً في إدلب التي تعيش قيادة الهيئة وهم السيطرة عليها، فيما تغلي قلوب أهلها المهمشين المكبوتين كمراجلٍ قد تنفجر في أي وقتٍ.
إن هذا “الجهادي” الذي لم يعد محسوباً على الجهاديين في عُرف أهل الشام، يعيش حالة من “الوهم” تضر بالثورة، لكنها تضر به وبمن حوله أكثر، فالدروس السابقة كثيرةٌ، والوعي موجودٌ ينتظر القدرة، وربما يرتكب الضال المضل الخطيئة الأخيرة التي تكون القشة التي تقصم ظهر البعير.
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد السابع والثلاثون ذو القعدة ١٤٤٣ هـ اضغط هنا
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد السابع والثلاثون ذو القعدة ١٤٤٣ هـ اضغط هنا