الثورة وضرورة التجديد – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٦١ – ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
د. أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فمع تمدد الحراك الإصلاحي التجديدي وانتشاره وزيادة زخمه بفضل الله رأيت من المناسب إعادة نشر مقال كتبته في شهر ربيع الأول الفائت الموافق لشهر تشرين الأول من العام السابق والمقال يحمل عنوان الثورة وضرورة التجديد فأقول وبالله التوفيق:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رواه أبو داود وصححه السخاوي والألباني، يقول أهل العلم: إن كلمة (مَن) ههنا اسم موصول تفيد الإطلاق، فيحتمل أن يكون المجدد فردا، ويحتمل أن يكون طائفة من الناس.
وفي هذا يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: “الذي أعتقده من الحديث أن لفظ (مَن يُجَدِّدُ) للجمع لا للمفرد” انتهى من تاريخ الإسلام.
ويقول ابن كثير رحمه الله : “قال طائفة من العلماء: الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلةٍ وغير مرسلة (يحمل هذا العلم من كل خلف عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين) وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا هذا ونحن في القرن الثامن” انتهى من البداية والنهاية.
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: “لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإنَّ اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أَطلَقَ أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي -وإن كان متصفا بالصفات الجميلة- إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل ، فعلى هذا كل من كان متصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد ، سواء تعدد أم لا” انتهى من فتح الباري.
وعليه فالتجديد قد يجعله الله على يد فرد فيكون التجديد شاملاً للعلم و الجهاد والسياسة وغيرهما من أبواب الخير أو على يد طائفة يكون لكل من أفرادها تجديد باب من أبواب الخير ولا يلزم من هذا التجديد أن تكون الغلبة والقوة للدولة المسلمة فهو يتناول جميع الأحوال والله أعلم..
هذا وإن واقع الثورة الحالي بشقيه السياسي والميداني أثبت أن الإطارات الوظيفية المحتكرة للعمل السياسي والعسكري هي إطارات مرتهنة تابعة وعاجزة ينخر فيها الاختراق والفساد، وعليه لا يعول عليها في إدارة المعركة الوجودية للثورة، بل إن رهن قرار الثورة وتأطيرها بإطارات مؤسساتية وظيفية مكبلة ومناهضة للحراك الثوري الحقيقي والعمل الجهادي الصادق يعتبر بشكل أو بآخر عاملاً بارزاً في الثورة المضادة الناعمة الهادفة لاستبدال “الثورة الحرة” الحقيقية “بثورة زائفة” وظيفية تنقلب على تاريخ الثورة ومبادئها، وتتنكر لتضحياتها و تطبع وتتصالح مع أعدائها بدعوى الواقعية السياسية المدمرة، وكما هو معلوم فـ “الثورة” تتناقض مع منطق “الواقعية السياسية” البراغماتي، ذلك أن الفرق واضح بين إرادة التغيير “القيمي والمنظومي” في الثورة، وبين التماهي والتكيف”القيمي والمنظومي” مع أي واقع يفرض، وأنه حين يحكم منطق “الواقعية السياسية” على حساب منطق “الثورة” فمن الطبيعي أن يكون ثمرة ذلك الانقلاب على مبادئ الثورة وثوابتها والمتاجرة بجهاد وتضحيات أهلها مقابل مصالح حزبية وشخصية متوهمة، وشيطنة الرافضين لمنطق الواقعية السياسية المدمر، وعليه فإن الثورة التي لا تحافظ على مبادئها وثوابتها وترضخ لمنطق أصحاب الواقعية السياسية تضيع قضيتها ويفقد أبناؤها هويتهم، ليغدو بيادق على رقعة المصالح الدولية، ولذلك كله فالمشكلة الحقيقية باتت تكمن في الدور الوظيفي الخبيث الذي باتت تلعبه أجسام سياسية وميدانية تحت شعار “الواقعية السياسية”، وعبر خطوات “الحل الاستسلامي” وصولا لهدف “وأد الثورة”، كل ما سبق يحتم على أبناء الثورة الصادقين ضرورة التجديد، والانحياز للحق والقضية، والسعي الدؤوب للانفكاك السياسي والميداني عن هذه الإطارات المكبلة، حتى يصار إلى الاغتنام الأمثل لسنن التدافع القائمة وما أكثرها بفضل الله.
– فعصابة البعث المجرمة في أضعف حالاتها ولله الحمد، خاصة مع الانهيار الاقتصادي وتحرك السويداء واحتقان الساحل وفشل مشروع التطبيع.
– كما أن الهبّة الشعبية للعشائر بصبغتها الثورية؛ تركت أثرها الواضح على معادلة استمرار عصابة قسد في إجرامها بحق الدين والثورة وأهل السنة برعاية أسيادها،
– وبالتأكيد فإن للحرب الروسية الأوكرانية الساخنة، والحرب الأمريكية الصينية الباردة، والتوتر الصهيوني الصفوي، وما يجري من اصطفافات واستقطابات سلبية هنا وهناك أثر واضح لا يخفى.
أخيرًا؛ فالثورة بفضل الله وكرمه لا ينقصها قوة مادية أو قوة بشرية، إنما ينقصها إرادة تجديدية، تكسر أصنام الركون والوصاية والارتهان، وإطاراتها الوظيفية المكبلة، وتستعيد استقلال قرارها وتحشد قدراتها، لتخوض معركتها الوجودية قبل فوات الأوان، وهذه مهمة جميع الصادقين والغيورين على الثورة وتضحياتها كتلا وافرادا، والله الموفق، (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) [الأعراف: 128-129]