الأنظمة الوظيفية والثورة السورية – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٢٩ ربيع الأول ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد التاسع والعشرون ربيع الأول ١٤٤٣ هجرية – تشرين الأول ٢٠٢١ ميلادي
الأستاذ: حسين أبو عمر
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد انطلاق الثورة السورية، سارعت كل الأنظمة الوظيفية إلى إعلان تأييدها للثورة، وفتحت الأبواب لجمع التبرعات، وللمنصات الإعلامية الداعمة للثورة، بل وتقديم المال بشكل مباشر لبعض المكونات السياسية والعسكرية والاجتماعية والإعلامية الثورية…
كما هو معلوم، فإن هذه الأنظمة لا تملك قرارها بيدها، ولا تستطيع التحرك من ذاتها، وإنما قرارها بيد الراعي الأمريكي؛ ولأن الراعي الأمريكي كان يصعب عليه في البداية اختراق الثورة بشكل مباشر، فكانت المهمة موكلة إلى بعض الشخصيات “الإسلامية”، والحكومات الوظيفية لإنجاز هذه المهمة.
بدأ الدعم يتدفق في البداية عن طريق شخصيات “إسلامية” شريفة وغير شريفة، حتى إذا اعتاد الناس على كم معين من المال، بدأ التضييق على الداعمين الشرفاء، وبدأت الدول الوظيفية التدخل بشكل مباشر، إلى أن وصل الحال أن تترأس أمريكا غرف الدعم!.
وهذا مزلق خطير جدًا، كان قد نبه عليه أكثر من واحد من منظري الثورات، يقول أبو مصعب السوري في (إدارة وتنظيم حرب العصابات) في هذا الصدد: “تأتي إليك هذه المصادر بغطاء جيد على شكل متبرعين وتجار مسلمين؛ لأنهم يعلمون أنك لن تتقبل أن يأتي الكافر مباشرة، كأن تأتي إليك المخابرات الأمريكية والغربية أو الروسية، فيأتي إليك هؤلاء المخبرين المسلمين الذين أشكالهم من أشكالنا…
فيدخل عليك ويقول هذه الأموال بدون قيد أو شرط فأنت تأخذها وتتوسع بها…
فالمهم بعد أن تتدفق عليك هذه الأموال وتتوسع وتعتاد عليها تجد أن المال انتهى…
بعد ذلك يأتيك المتبرع يعطيك، ثم يأتيك فيقول لك عندنا إشكال انتظر قليلا، وخلال هذا الوقت يبدأ يسألك أسئلة عن العمل فأنت تتحرج وتجيبه، ثم يتطور هذا شيئًا فشيئًا إلى أن يفرض عليك مواقف، ويقول لك: تحالف هذه الدولة، وتحالف هذا الحزب…”.
كما جاء في (دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد 2012): “وربما يقوم الداعم الخارجي وفقا لمصالحه الشخصية، بتحديد نوع الهجمات أو نطاقها أو موقعها؛ في محاولة لتغيير طبيعة الصراع؛ أو قد يسعى إلى منع حليفه من الفوز، متمنيا بدلا من ذلك إطالة أمد الصراع إلى أجل غير مسمى”.
أما في حالة الثورة السورية فإن الوضع قد انزلق إلى مستوى أبعد بكثير مما حذر منه أبو مصعب السوري، إذ إن “الداعمين” كانوا يتحكمون بقرار الكثير من الفصائل بشكل كامل.. كانوا يتحكمون بشكلها، وبتحالفاتها، وبمعاركها وهدنها، وباقتحاماتها وانسحاباتها.. بل وبتوجيه فوهة سلاحها!! بل وبتسليمها لمواقعها أيضًا!!.. فسلب القرار هو أكبر مشكلات الثورة السورية.
وهذا الأمر ليس سرًا حبيس الغرف المغلقة، بل هو منشور ويعترف به الكثيرون، في لقاء على [قناة أورينت، برنامج تفاصيل، حلقة: طعنة خالد المحاميد الأخيرة للنيل من صمود درعا.. فهل ينجح في تحقيق مسعاه؟] قال العميد أسعد الزعبي: “يا أستاذ أحمد! أنت تعلم أنني كنت في مكان بالأردن بالقيادة، في غرفة القيادة، كل ملاحظة كانت تصدر من الدول -وكانت هناك الكثير من الملاحظات- تصدر مثلا أن هناك باللواء الفلاني مثلا كان رجل يُظن أو يُشك بأنه متطرف أو يميل إلى ميول إسلامية؛ لنقل أنها عميقة إلى حدٍ ما، يتم إبداله فورا”.
يقول: إنهم كانوا يستبدلون أي شخص يتم الاعتراض عليه من قبل الدول، بينما في موضع آخر يعترف أنهم كانوا يعلمون أن الفصائل، التي لم تأت عليها اعتراضات من قبل الدول، وكانوا يقدمون لها الدعم، كانت تتفاوض مع الروس على ملف الجنوب منذ بداية التدخل الروسي؛ في لقاء تلفزيوني مع [تلفزيون سوريا، برنامج ما تبقى، حلقة: ما بنود اتفاق درعا المقترح؟] قال: “نحن لما نحكي عن اتفاقيات وخيانة، نقول: لأنه بدأ التحاور مع الروسي منذ عام 2015 بشكل سري، منذ عام 2015؛ انظر، ونحن في الرياض1، كانت هناك فصائل يفاوضون الروسي بشكل سري على قضية درعا والجنوب”.
وهنا، لا بد من التذكير بالكلام الذي سربه سعد الجبري، المسؤول السابق في الاستخبارات السعودية، من أن ابن سلمان هو الذي طلب من بوتين التدخل في سوريا لإنقاذ بشار، وأن الأول كان قد أقدم على تلك الخطوة بعد أن أقنعه ابن زايد بضرورة تنفيذها، حتى لا تقع سوريا تحت حكم “الإخوان المسلمين”، وكانت صحيفة الغارديان قد نشرت تقريرًا عن هذا الموضوع.
الأمريكيون، تعاملوا في البداية مع تسريب الجبري، كما لو أنه مفاجئ لهم! بالرغم من أن اعتراف نائب مساعد وزير الدفاع لسياسة الشرق الأوسط في عهد أوباما أندرو إكسوم، اعترافه بتنسيق الجهود مع موسكو لمنع سقوط الأسد كان سابقًا على تسريب الجبري!، في شهادة مكتوبة أعدت (للجنة الفرعية للشؤون الخارجية بمجلس النواب)، قال إكسوم: “بدأ كل شيء في صيف عام 2015، عندما بدأ مكتبي في تنسيق التخطيط بين الوكالات لسيناريو في سوريا اعتبرناه “نجاحًا كارثيًا”..
بعد سنوات كافح فيها نظام الأسد لهزيمة التمرد المستمر والذي سيطرت فيه الدولة الإسلامية على معظم شرق سوريا وبدأت أيضًا في تهديد المدن الرئيسية في سوريا في الغرب، شعرنا بالقلق من احتمال انهيار نظام الأسد فجأة، بطريقة تعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر، ويشمل ذلك أمن دولة إسرائيل”.
فالدول الوظيفية وإن كان لها دور حاسم في تدجين الفصائل إلا أنها لم تتحرك يومًا من ذاتها، وإنما كانت تتحرك دائمًا وفق بوصلة الولايات المتحدة.. لم تتحرك لا في “دعمها” ولا في إفشالها للفصائل من تلقاء نفسها، في كتابه (صراع الحضارات) يقول صموئيل هانتنجتون: “بينما يوسع التجمع -الأقرباء درجة ثانية وثالثة حول أقربائهم ثقافيا- من الحرب ويطيل أمدها، إلا أنه كذلك شرط ضروري وإن كان غير كاف لتحديد الحرب وإيقافها”.
ويقول: “ولأنهم إذا تجمعوا حول أقربائهم يكون لهم نفوذ عليهم، وهكذا يصبح المتجمعون عوامل كبح وإيقاف”.
إلى أن يقول: “وقف الحروب ومنع تصعيدها إلى حروب كونية يعتمد أساسا على مصالح وأفعال دول المركز في حضارات العالم الرئيسية”. فالأمر بيد دول المركز وليس بيد هذه الدول الوظيفية.
وهكذا، بعد أن أتمت تلك الأنظمة الوظيفية المهمة في احتواء وتدجين الكثير من الفصائل وحرف بوصلتها، بدأت هذه الأنظمة الوظيفية مؤخرًا إعادة تطبيع علاقاتها مع نظام بشار: بدءًا من فتح سفارات، ولن يكون آخرها التطبيع الاقتصادي والأمني والسياسي الأردني مع نظام بشار المتجانس.
خلال نفس الفترة، التي كان النظام العربي الوظيفي يسير فيها بخطوات باتجاه التطبيع مع نظام بشار، كانت تحصل خطوات دولية أيضًا في هذا الاتجاه، من “عدالة بيدرسون الانتقالية” وصولًا إلى منح “منظمة الصحة العالمية” نظام بشار الكيماوي مقعدًا في مجلسها التنفيذي، وفي نفس الوقت، يقول الأمريكيون: إن قوى الثورة لم تعد تشكل أي خطر على دمشق، الأمريكيون الذين يقولون: إنهم نسقوا مع الروس؛ لأنهم كانوا يخشون من سقوط نظام الأسد فجأة.
* أما لماذا الآن؟
فتشير الكثير من الدراسات الغربية إلى أن حالات التمرد لا تصل إلى نهايتها غالبا إلا بعد أن يمضي عليها مدة من الزمان، جاء في (دليل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لتحليل التمرد 2012 ) أن: “الصراع المسلح في بعض الأحيان يحتاج إلى أن يمضي في مساره لفترة من الوقت قبل أن يتسنى إجراء مفاوضات جادة”. كنت أشرت إلى شيء من ذلك في مقالة (مفوضية نصر الحريري وعدالة بيدرسون التصالحية.. لحظة النضج؟)
بل إن بعض الباحثين قال بأن المدة اللازمة لنضج الصراع تتراوح بين عشرة إلى اثنتي عشرة سنة!
في مقابلة مع (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية) في 11 أبريل 2013 وصف أنتوني كوردسمان، أستاذ كرسي أرليه بورك في الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مدير سابق لتقييم الاستخبارات في مكتب وزير الدفاع، وعمل مستشارًا لوزارتي الخارجية والدفاع خلال الحربين الأفغانية والعراقية، وصف مصطلح “الربيع العربي” بأنه مصطلح غبي!، وسمى ما بدأ يحدث في العالم العربي بـ”العقد العربي”؛ يعني اضطرابات ستستمر لعقد من الزمان، وتنتهي!
فمعركتنا الحقيقية اليوم هي في استعادة القرار..
في الاستمرار بالثورة..
بل والعمل على نشر الأفكار والروح الثورية في كل بقاع العالم الإسلامي، حتى تخيب آمالهم وتفشل مخططاتهم.