الأعشاب المجهولة – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد الثاني والثلاثون

العدد الثاني والثلاثون جمادى الآخرة ١٤٤٣ هجرية – كانون الثاني ٢٠٢٢ ميلادي

الأستاذ: غياث الحلبي

عام كامل مضى منذ أطبق النظام حصاره على مدينة حمص، كان عمر كسائر الموجودين المحاصرين في المدينة لا ينفك باحثا عما يسد به رمقه ويبقي ماء الحياة جاريا في عروقه بعد أن نفد كل ما ادخره من الأطعمة تحسبا لحصار كهذا، ولكن لم يدر بخلده قط أن الحصار سيطول هكذا، ومع ذلك فمما خفف عنه الحمل أنه عَزَبٌ لا زوجة لديه ولا أولاد يشغل تفكيره بهم ويظل قلقا كيف يؤمن لهم من الطعام ما يدفع عنهم عادية المسبغة.

كان عمر يسكن في بيت هو أشبه بمقر مع اثنين من رفاقه في الكتيبة، وهما قاسم وليث، وقد دأبوا على البحث عن الأعشاب وأوراق الشجر إضافة إلى أي حيوان تعيس الحظ قد يقابلهم ليصنعوا من ذلك كله ما يشاغلون به وحش الجوع عن إلحاقهم بمن سبقهم إلى الدار الآخرة.

لم يكن الأمر شاقا في مطلع الحصار؛ فقد كانت المدخرات الغذائية تفي بالغرض على قلتها، وحتى بعد نفادها كانت المنطقة عامرة بالحيوانات والأعشاب والأشجار، وتدريجيا أخذت تتناقص، صحيح أن عمر ورفاقه ترددوا قليلا قبل أن يشرعوا بأكل الهررة والكلاب، غير أن شدة المخمصة كانت كفيلة بإزالة ذلك التردد من جذوره ورميه في هاوية الرفض السحيقة.

* ظُهر أحد الأيام عاد ليث بصيد ثمين، فقد حالفه الحظ فعثر بين الأعشاب على سلحفاة لا بأس بحجمها وستكون مائدة العشاء عامرة بها، فيما أحضر عمر وقاسم كمية صغيرة من ورق الأشجار، وتقرر صنع حساء ودعوة بعض الأصدقاء.

كانت المشكلة تكمن في إقناع السلحفاة بإخراج رأسها من القوقعة، فهي مذعورة وتشعر أن ثمة خطر ينتظرها، كما أن الشباب ليسوا مستعدين للانتظار كثيرا، جلس أحدهم قرب السلحفاة ووضع أمامها أوراق الأشجار لعلها أن تخرج لتأكل، وقد نجحت الخطة فما إن أطل رأسها حتى طل دمها.

عانى عمر قليلا وهو يذبح السلحفاة فقد كان جلدها سميكا جدا، ثم كانت الخطوة الثانية وهي كسر القوقعة لإخراج السلحفاة منها وغسلها وتنظيفها، ثم وضعوها على النار وتحلقوا حول نارها يستدفئون ويتسامرون، وكانت ليلة باردة جدا، فخطر لليث أن يتمثل بقول مرة بن محكان:

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى يلف على خيشومه الذنبا

فأجابه عمر: ذكرتني بكلب جارنا أول أمس فقد نبح في تلك الليلة واحدة.

– ثم لف على خيشومه الذنبا.

– بالطبع لا، حتى ذُبح ووضع في القدر ثم أُكل لحمه ورميت عظامه.

– حسبنا الله ونعم الوكيل، هذا يجري في حمص في بلد خالد بن الوليد قرب مرقده الطاهر، أسافل الناس وأراذلهم يضربون علينا حصارا حتى نضطر إلى أكل الكلاب، ويعلم الله أن الكلاب الحيوانية خير من الكلاب البشرية.

– اهدأ يا ليث، هذه ضريبة الجهاد والمطالبة بالحرية، وهذا ثمن رفض الذل والاستعباد لحثالة البشر النصيرية، أما والله لن نضعف ولن نستكين وسنمضي رغم الشدائد حتى يحكم الله بيننا وبين عدونا.

– نعم يا عمر، ولكنا مستضعفون وقد خُذلنا، خَذلنا أقرب الناس لنا وتخلوا عن نصرتنا، حتى تكاد تشعر أن كثيرا من الفصائل المقاتلة لا تهتم بأمرنا ولا تبذل جهدا حقيقيا لفك الحصار عنا.

– صبرا يا ليث فليس بعد الشدة إلا الفرج، وهناك من الفصائل صادقون مخلصون يبذلون وسعهم، ثم تنهد قائلا:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

* كان على عمر ورفيقيه قاسم وليث أن يمضوا ساعات طوالا كل يوم في البحث عن الأعشاب التي تصلح للآدمي؛ فثمة أنواع عديدة من الأعشاب منتشرة ولكن أحدا من الناس لا يقربها أخذا بنصيحة طبيب قال لهم: “ما أكلته الغنم فكلوه وما تركته فاتركوه”، فهناك عدد من الأعشاب السامة التي قد تودي بآكلها، وهذا طبعا عندما كانت الأغنام موجودة، أما الآن فهي كالعنقاء وجودا.

 

ومع مرور الأيام أصبح ألم الجوع لا يطاق، والحيوانات التي كانت موجودة في البقعة المحاصرة قد انقرضت، والأعشاب الصالحة للأكل في تناقص مستمر، ولم يعد ما يحصلون عليه كافيا لسد الرمق وحفظ الحياة؛ لذلك فقد تشاور الأصدقاء الثلاثة في أخذ موقف جديد من الأعشاب التي كانوا يحذرونها من قبل لأن الأغنام لا تأكلها.

قال عمر: لم يعد أمامنا سوى تلك الأعشاب السامة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فرد ليث: ومن قال إنها ستبقى سامة بعد الطبخ والغليان، خاصة ونحن لن نأكل منها كميات كبيرة في المرة الواحدة كما تأكل الغنم، ولَلموت بالسم إن حصل أهون من الموت جوعا.

وهنا أخذ الثلاثة قرارا بجمع كل أنواع الأعشاب التي قد تصادفهم ثم عزل كل نوع على حدة واختباره إن كان صالحا للأكل أم لا.

أما طريقة الاختبار فبطبخ طبق منه فيه كمية صغيرة من العشب ليتناوله أحد الثلاثة، ثم التربص نصف ساعة، فإن لم تظهر عليه أعراض التسمم فهذا يعني أن هذا النوع من الأعشاب صالح للأكل بهذه الطريقة، وإن ظهرت عليه أعراض التسمم فينقل إلى النقطة الطبية لإسعافه، فإن نجا فلله الحمد وإن مات فهذا قدره.

فمن لم يمت بالسم مات بغيره

وموت الفتى بالسم أعلى وأفخر

[البيت لحاتم الطائي، وأصله بالسيف بدل السم]

لم يجد الأصدقاء الثلاثة مشقة في جمع الأعشاب التي كان يتحاشاها الناس فقد كانت موجودة بكثرة.

وبعد عودتهم تم إعداد الطبق الأول من عشب لا يعرفون اسما له ولا رسما، ومع ذلك ولشدة جوعهم فقد كان كل واحد منهم يريد أن يكون هو المختبر لسلامة الطبق، ولا يوجد أقطع للنزاع من الاقتراع، وفاز بالقرعة ليث، فسارع إلى الطبق فجعله كأمس الذاهب، وأتبع ذلك بقوله: هل من مزيد؟

فسأله صديقاه: كيف وجدته؟

– إن كان هذا سما فأنعم به من سم، ولا أظن الموت به إلا خيرا من الموت جوعا.

مرت نصف ساعة والأمور على ما يرام، فسارع عمر وقاسم إلى ما تبقى في القدر فأنشبا فيه ملاعقهما حتى لم يتركا منه فتيلا ولا قطميرا، وأضيف هذا العشب إلى قائمة الأعشاب الصالحة للأكل.

وبعد مدة انقرض العشب الذي عاش عليه الثلاثة في المدة المنصرمة، واضطر الثلاثة لتجربة عشب ثان، فطبخوا نوعا آخر، وقال قاسم: جاء الفرج، لقد نضج ما يمكن أن نسميه مجازا طعاما.

وأجريت القرعة بين قاسم وعمر، فكان الفوز من نصيب قاسم، وفرغ من طعامه وانتظروا الوقت المحدد دون ظهور أي أعراض، وزادت قائمة الأعشاب الصالحة للأكل نوعا جديدا.

وبعد مدة ثانية انقرض العشب الثاني، واضطر الثلاثة لتجربة عشب ثالث، وأعدوا طبقا من النوع الثالث من الأعشاب، ولم يحتاجوا إلى ضرب القرعة لأن الدور لعمر.

خلال دقيقتين كان عمر قد أنهى ما في طبقه من عشب لا يقدر على إدراك كنهه سوى داود الأنطاكي.

ولم تمر بضع دقائق حتى أخذت أغراض غريبة تظهر على عمر، فقد ثقل لسانه وضعفت حركته وأخذ يخلط في الكلام.

فقال قاسم: عمر، يا عمر، أبك شيء؟ هل تشعر بالألم؟

– ليس في شيء، ولكني أقول: لم لا نشن الآن هجوما على النظام ونكسر عنا الحصار؟

– بماذا سنهجم؟ بالبنادق والقنابل؟

– نعم نهجم، أنا وحدي أستطيع أن أحمل دبابة.

وهنا أدرك قاسم وليث أنه يهلوس وأن خطرا وقع على عمر، فأسرعوا بأخذه إلى النقطة الطبية، وهناك فحصه الطبيب، وأكد لهم أن صحته بخير ولكنه الآن في حالة سُكر بسبب المواد المخدرة الموجودة في العشب الذي تناوله، وسيصحو قريبا إن شاء الله.

عاد الثلاثة إلى المقر وعمر مستمر في هلوسته، وصاحباه يضحكان من أقواله ويتحاوران معه في خرافاته، ووجدا متعة في السماع إلى تخليطاته، بل وقاما بتصويره في مقطع مرئي ليكون مادة دسمة للفكاهة والضحك عندما يصحو عمر من تأثير المخدر، من مثل قوله:

– أنتم جبناء، رحم الله عنترة بن أبي شيبان.

– من عنترة بن أبي شيبان هذا؟

– صحابي جليل وبطل من أبطال المسلمين، لم يكن جبانا مثلكم.

– يعني ماذا صنع؟

– ماذا صنع؟ خاض معارك كثيرة وجاهد في سبيل الله دون خوف أو وجل، لقد قتل هرقل بيده يوم ذي قار وصارع الهرمزان يوم أحد وانتصر على الصليبيين يوم عين جالوت، وفرت من أمامه جحافل الفرس في المنصورة وبارز مائة من أبطال المشركين يوم تبوك، نحن نحتاج أمثال هؤلاء الأبطال.

– ثم إلام انتهى أمره؟

– استشهد بطلقة قناص في رأسه عندما دخل التتار القاهرة في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ولم يطل الأمر بعمر حتى نام، فلما استيقظ فجرا كان قد نسي كل شيء، فسأل رفيقيه عما جرى البارحة، فعرضا عليه المقطع المرئي، فاستغرق في الضحك حتى سقط على قفاه.

ومع هذا لم يجد الأصدقاء الثلاثة بدا من متابعة اختبار الأعشاب بهذه الطريقة، فالجوع قاس لا يرحم.

انتهت.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٢ جمادى الآخرة ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى