أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ – الركن_الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٥٣
الشيخ : محمد سمير
عبد الكريم قاسم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن موالاه وبعد؛
إن من الصفات الرئيسة في الطاغية اتباع الهوى، فهواه هو المركز الأساسي الذي تدور أفعاله وأقواله حوله كما تدور الذرات حول النواة، لذلك لا تتعجب إذا رأيت تناقضا بين أمسه ويومه أو بين ماضيه وحاضره، فهذا ليس تذبذبا ولا تقلباً، وإنما هو عدم فهم منك لطبيعة الطاغية فالثابت عنده هو هواه وما سواه متغيّر فأفعاله وأقواله السابقة كانت تخدم هواه وأفعاله وأقواله الحاضرة ــ وإن كانت تناقض تماما السابقة ــ إلا أنها أيضا تخدم هواه
فالخط الأحمر الذي لا يجوز تجاوزه بحال هو هوى الطاغية، والمبدأ المستقِر الذي لا يخضع للمساومات هو الهوى وما عدا ذلك فيمكن التفاوض عليه ويقبل النقاش والحوار.
أيُّ فعلِ شرٍّ مهما كان شنيعاً سيوجد له تسويغ بل تبرير طالما أنه يدور في فلك الهوى، وأي فعلِ خيرٍ مهما كان سامياً سيوجد له تشويه وتجريم طالما أنه يناقض الهوى ويخالفه.
الحاشية والبطانة معيار تقريبهم وإدنائهم تعظيم الطاغية والجري مع هواه ولو كانوا أسوأ خلق الله وأرذلهم، وسيغض الطاغية الطرف عن جرائمهم وقبيح تصرفاتهم مع احتفاظه بملفات فسادهم ليحاسبوا عليها حال توقفهم عن دعم الطاغية أو معارضة هواه.
وأفاضل الناس وخيارهم سيقصون ويحاربون ويضيق عليهم وربما يقتلون ويسحلون أو يرمون في غياهب السجون لمخالفتهم هوى الطاغية بنصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وبيان قبح عاقبة سياسته الرعناء، وتحذيره مغبة تقريب أعداء الأمة واتخاذهم مستشارين وأولياء
ويظل الطاغية سادرا في هواه، سَكِراً بنفاق المنتفعين وعظيم مديحهم، مغتراً بالصفات الضخمة التي تكال له بغير حساب حتى يصدق أنه الزعيم الأوحد الذي لا يصلح لقيادة الأمة سواه وقد عقمت أرحام النساء أن تنجب مدانياً له فضلا عن المساوي، يظن أن سياسته وفطانته يعجِز الأساطين والفطاحل عن مقاربتها، ثم لا ينتبه من غفلته إلا بعد وقوع الكارثة وفوات الأوان وعندها يندم “ندامة الكسعي” ويلعن المنافقين والمنتفعين([1]) فيقال له: ” يداك أوكتا وفوك نفخ”.
ولعلك ــ أيها القارئ ـــ استطلت المقدمة وتريد مثالاً تاريخياً ــ كما اعتدت ــ على ما سبق فإليك شيئا من سيرة الزعيم العراقي الهالك عبد الكريم قاسم.
تسلم عبد الكريم قاسم الرئاسة في العراق بعد انقلابه عام 1958م، واستمر في الرئاسة إلى عام 1963م حين انقلب عليه رفاقه القدامى بعد غدره بهم
وكان قد اتفق مع الضباط الذين شاركوه الانقلاب على تعزيز الأهداف القومية والتقارب مع الجمهورية العربية المتحدة بل الدخول في وحدتها ولكنه بعد نجاح الانقلاب أخذ يتملص من وعوده ويعادي القوميين العرب ويعمل على إقصائهم
فقاسم كان قومياً وقت أن كانت القومية تخدم هواه أما وقد صارت عقبة في طريقه فيجب التخلص منها ورفضها ومحاربة أنصارها، وأحلّ قاسم الشيوعيين محل القوميين فقربهم ورفع شأنهم وأطلق لهم الإعلام، مع العلم أنه لم يكن شيوعيّا لكن الهوى الآن يقتضي ذلك،
” سيطر الحزب الشيوعي سيطرة تكاد تكون تامة على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ومعظم المقروءة بموافقة عبد الكريم… واستخدم هذه السيطرة في مهاجمة خصومه السياسيين وخاصة دعاة الوحدة ونعتهم بما يحلو ويطيب له، وكيل تهم العمالة والارتباط بالاستعمارين الأمريكي والبريطاني لإرهابهم وشل نشاطهم”([2])
لقد أطلق قاسم رسن الشيوعيين ليعيثوا في الأرض فساداً دون رقيب ولا حسيب
“امتلأت شوارع بغداد بتجمعات بشرية كبيرة، كانت تهتف للاتحاد الفيدرالي والصداقة السوفياتية وهو شعار الحزب الشيوعي وحلفائه وعندما وصلت الجموع البشرية إلى وزارة الدفاع خرج عبد الكريم قاسم وحياهم([3]) وفي هذه المرحلة يجب التلاعب بالقضاء من أجل تخليص الشيوعيين من جرائمهم التي يرتكبونها ويجب التغاضي عن الفوضى والعنف الذين يسعون لنشره فبعد إحدى جرائم الشيوعيين “باشر المجلس بالتحقيق وأوقف المحرضين وأدانهم وأحالهم إلى المحكمة العسكرية وذهب القرار إلى الحاكم العسكري العام الذي أمر بإطلاق سراحهم بأمر من عبد الكريم قاسم باعتبار أن ما قاموا به كان بدافع الإخلاص للزعيم ولحماية وصيانة الجمهورية ولم يكن القصد منه الإخلال بالنظام أو الضبط العسكري أو تهديد سلامة الضباط”([4]) فتأمل نزاهة القضاء واستقلاله، وعدم خضوعه لأهواء الزعيم!؟
وكما كان يوعز إلى القضاء بتبرئة الشيوعيين المجرمين كونهم أنصاره، فإنه كان يوعز إليه ليجرّم خصومه وينزل بهم أشد العقوبات ” وكان عبد الكريم يختلي [بقاضيه] المهداوي قبل النطق بالحكم، وكان يحيل إلى المحكمة من يشاء إحالته، ويعفي من الإحالة أي شخص أو مجموعة رغم إحالتهم بالقانون الذي أصدره لهم فالقانون هو وهو القانون”([5]) وقد أقر المهداوي بعد القبض عليه وعلى قاسم أنه كان يتلقى الأحكام من قاسم وقال مخاطبا قاسما قبيل مقتليهما: “ما تجاوب؟ مو أنت قلت: احكم ناظم ورفعت بالإعدام وأنا أعفيهم؟”([6])
ومن نزاهة القضاء إملاء الشهادة على الشاهد حسب أهواء المحكمة ليحاكم الخصوم على ما ورد فيها ففي أثناء محاكمة ناظم الطبقجلي ورفاقه أتي بشاهد يدعى “عزيز أحمد” وبعد أن تليت عليه شاهدته قال الشاهد مخاطبا المهداوي ” سيادة الرئيس هذه الإفادة أخذت مني وأمليت عليّ من قبل أشخاص أنا ما أعترف بها وهذه الإفادة لا يمكن أن تقبل”([7]) فلم يلتفت المهداوي إلى ذلك بل توجه إلى المتهمين طالبا منهم مناقشة الشاهد وقد كرر الشاهد ذلك مرارا فلم يحصل إلا على الطرد([8])
ونتيجة لإجرام الشيوعيين ونشرهم الفوضى والإجرام في العراق وقصدهم الموصل المدينة المتدينة المسلمة لينشروا فيها كفرهم وإلحادهم ويرتكبوا فيها جرائمهم فيما سمي مهرجان “أنصار السلام” ثار العقيد عبد الوهاب الشواف بعد أن حاول نصح قاسم مراراً وفي ذلك يقول ” قلت لقاسم: إن القرآن مزق مرتين مرة في عهد هولاكو عندما أباح بغداد ومرة ثانية في عهدك، إن كتب الإلحاد التي تشكك في وجود الله وتهاجم الأديان ملأ الشيوعيون بها المكتبات فردّ عليّ أنا لا أقدر أن أدخل الدين بعقول الناس بالقوة”([9]) ولعل القارئ شعر مثلي بالتقزز الشديد من جواب هذا الطاغية فهو لا يقدر أن يصدر ــ ولو قراراً ــ بمنع الكفر ولكنه يقدر على تدمير الموصل وقتل أهلها من أجل كرسيه، ويقدر على سجن العلماء وتعذيبهم كما فعل مع الشيخ عبد العزيز البدري، أو إهانتهم وتهديدهم كما فعل مع الشيخ محمود الصواف.
ألصقت بالشواف مباشرةً تهمة الخيانة والعمالة وبدأ الإعلام الفاسد يردد هذه الأكاذيب “وبعد قيام الجمهورية العراقية الفتية وتمتع الشعب بالحرية والاستقلال أخذ الاستعمار يفتش عن عملاء وأذناب آخرين لخدمة مصلحته، واتصل سراً بهؤلاء الخونة وبعض البسطاء لاستخدامهم لمآربه الدنيئة وقد وجد أخيرا مطية الاستعمار العقيد الركن عبد الوهاب الشوف الخائن بحق الشعب والوطن”([10]) ولا شك أن القارئ شعر بالغثيان وهو يقرأ هذا الكلام السمج الممجوج المكرور الذي يردده كل طاغية عندما يثور عليه الأحرار أو يرفض ظلمه الشرفاء أو يجهر بكلمة الحق في وجهه أهلُ العلم.
ولقمع الثورة في الموصل ترك للشيوعيين حرية الإجرام الوحشي “إذ انطلق الشيوعيون يقتلون ويسحلون وينهبون الدور ويحرقونها فأشاعوا الفوضى، وساد الرعب والخوف والهلع، وأبيحت مدينة الموصل، وهتكت المحرمات والمقدسات، وأخذ الناس بالشبهات، واحترق الأخضر واليابس، وانطلقت الغرائز الحيوانية والهمجية من عقالها، وتحول الشيوعيون وحلفاؤهم إلى ذئاب جائعة تفترس وتقتل.”([11]) فالحرية التي ذكرها الإعلام هي حرية الإجرام لمؤيدي السلطة، والاستقلال المقصود هو الاستقلال عن الحق والعدل وكرامة الإنسان. ونتيجة الضغوط الشعبية والعسكرية القومية القوية على قاسم لمحاسبة الوحوش البشرية التي ارتكبت تلك المجازر الشنيعة في الموصل تمخض الجبل فولد فأرا فأصدر قرارا بتشكيل هيئة تحقيق لكن بشرط “ألا يحقق بالأعمال التي ارتكبت في الموصل من يوم 8/3/[1959] حتى يوم 11/3 وعليه أن يجري التحقيق في الأعمال التي ارتكبت بعد هذا التاريخ أي أن قاسم أباح مدينة الموصل لمدة ثلاثة أيام([12])
وظن الحزب الشيوعي أن قاسماً شيوعي فعلا فأخذ يطالب بإشراكه في الحكم، وأخذت جرائده تدبج المقالات في هذا الموضوع، فأغضب ذلك قاسم لأنه كان يرى أن وظيفة الحزب يجب أن تقتصر على مدحه وتمجيده([13]) أما المشاركة في الحكم فهي خط أحمر وبدأ بالتضييق على الحزب الشيوعي فهو ” لم يترك لهم الحبل على الغارب يصولون ويجولون إلا لتنفيذ أغراضه هو ولتحقيق غاياته، أما إذا خرجوا عما رسمه لهم فإنه سيقلم أظفارهم فليس لهم سوى الجري خلفه والتصفيق له والهتاف باسمه فقط، لأن الجرائم التي ارتكبوها في الموصل لم تترك لهم من نصير أو شفيع”([14])
وهكذا يتعامل الطاغية مع أنصاره يدعمهم، ويقدمهم حتى يقضي منهم وطره فإذا شعر منهم بخلاف هواه، أو قضى حاجته منهم رمامهم في هاوية لا قرار لها، أوليس قاسم هو الذي قال لما عوتب في تفاقم الشيوعيين ” إن الشيوعيين تحت قبضتي وفي اليوم الذي أشعر أنهم قد تعدوا حدودهم سأخنقهم خنق الدجاج بكل هدوء”([15]) ” ثم أصدر قاسم أوامره إلى قادة الفرق والمتصرفين (المحافظين) بأن يوقفوا المد الشيوعي كما تولى هو بنفسه إفهام الشعب بأنه سحب تأييده للحزب الشيوعي بخطبه العديدة التي ألقاها([16])
وقد سمح للخطباء أن ينتقدوهم على المنابر علنا ويبينوا للناس كفرهم وإلحادهم وما ارتكبوه من مجازر وجرائم([17])
وبما أن قاسم يعبد هواه فقد رأى أن يعيد تقريب الشيوعيين بعد محاولة اغتياله فعقد مؤتمرا ” حاول فيه رد الاعتبار للشيوعيين وتبرأتهم من مجزرة كركوك التي سبق أن أدانهم فيها”([18]) وألصق تهمة ارتكاب مجزرة كركوك التي قام بها الشيوعيون بظهر البعثيين والناصريين
ولا بأس مع الشيوعية أن يدغدغ عواطف الإسلاميين فيردُّ على رسالة بعث بها بعض العلماء العراقيين قائلا: ” كان لكتابكم أطيب الأثر في نفوسنا نرجو الله أن يوفقنا إلى خدمة دينه وحماية شرعه والقضاء على الظلم والظالمين””([19]) قاسم هذا الذي ترك الحبل على غاربه للشيوعيين ليعلنوا بأشنع أنواع الكفر ويجهروا بحرب الله ورسوله وإهانة المقدسات الإسلامية يزعم بكل صفاقة أنه يريد أن يخدم دين الله ويحمي شرعه، وهاك ما فعله أنصاره في المعتقلات في خصومه السياسيين “إذ كانوا يقصدون غرف المعتقل على التوالي ليلا ليظهروا تهكمهم ب (الله ورسوله) ولم يرتدع أحدهم عن القول بأن لينين صاحب رسالة أشرف من رسالة محمدكم وقرآنكم وأن دينكم الإسلام بات سخيفاً لا يساير العصر وقد تجاوز أحد الضباط أحد المعتقلين حين كان يقرأ القرآن وكانوا يجهرون بالكفر بالله وبالإسلام”([20]) هذا فضلا عن التعذيب الوحشي الذي كان يتعرض له السجناء
بل إنه ” وافق على أن يكون الدستور العراقي المزمع وضعه علمانيا”([21]) لولا أن حال دون ذلك عبد السلام عارف
وقد يتطلب الهوى التغاضي عن الماسونيين جواسيس الإنكليز فيجب حينها اختلاق الذرائع من أجل إبقائهم في مناصبهم ووظائفهم فبعد الثورة قدم عبد السلام عارف إلى قاسم قوائم بأسماء الماسونيين قائلا: “سيدي يجب حجز كل هؤلاء والتحقيق معهم وإحالتهم إلى المحاكم وتطهير مؤسسات الدولة منهم، من شرورهم وآثامهم ويكفيهم عاراً أنهم يسمون فرمصونيين [ماسونيين] فرد عبد الكريم قاسم: لماذا؟ تريث إن فيهم الكثير من الأطباء والمهندسين وغيرهم من الاختصاصيين والبلد محتاج اختصاصاتهم وخدماتهم. قال عبد السلام: سيدي هؤلاء جواسيس للإنكليز والأمريكان ما فائدتهم؟ وفائدة علمهم؟ ما داموا جواسيس
ورد عبد الكريم قاسم: افرض أن ما تقوله حق فإذا تقرر إخراجهم من وظائفهم ألا يجب تعويضهم بغيرهم؟ ومن أين نأتي باختصاصاتهم أليس من الغرب والشرق؟ في الوقت الحاضر على الأقل أليس هؤلاء القادمين والذين سيعوضونهم جواسيس لحكوماتهم؟ فما حصلنا إلا خسارة الأموال وزعزعة الدوائر إننا نكتفي برقابتهم وتنبيههم وإبقائهم في وظائفهم وأشغالهم([22])
فرد عبد السلام: سيدي هؤلاء جواسيس لليهود والصهيونية وهم فرماصونيون لا يعرفون الله ولا الوطن ويجب اتخاذ الإجراءات الصارمة ضدهم وأنا بصفتي وزير الداخلية يجب أن أحجزهم فرد عبد الكريم قاسم: أنا رئيس الوزراء وأنا لا أوافق على حجزهم انتظر([23])
فما دام الجواسيس لا يشكلون خطراً على الزعيم فلا بأس أن يبقوا في وظائفهم بل إن الأمر وصل إلى أكثر من ذلك في الدفاع عن الجواسيس فقد رفعت قضيتهم إلى المدعي العام المدني ــ والذي هو مجرد حذاء في قدم قاسم ــ فجاء الرأي القانوني ” إن هؤلاء الماسونيين كانوا يمارسون نشاطهم تحت بصر الحكومة وسمعها وإن أحد رؤساء الوزارات كان منهم وأحد وزراء الداخلية المهمين انتمى إليهم…”([24]) وهكذا أغلقت قضية الجواسيس دون أن يمسسهم سوء
وليست هذه هل المرة الوحيدة فتقريب الجواسيس يدور مع هوى الزعيم فإذا خالفوا هواه فضحوا حينها وشوهت سمعتهم ودمغوا بالخيانة العظمى
فمصطفى البارزاني يجب أن يعود إلى العراق ويستقبل فيها استقبال الأبطال “ويمنع تفتيش حقائبه التي جلبها معه وعددها خمس وعشرون ولا يُعلم ماذا كان بداخلها”([25]) مع أنه ذيل من أذيال الاستعمار الإنكليزي وخادم طيّع لهم حتى أنه كتب مرة إلى الإنكليزي ادمونز مستشار الداخلية قائلا: “إنه لا يريد إلا رضاه ويطلب استرحامه وإنه إن أمر فإنه يشعل نارا ويرمي نفسه فيها كما أنه حاضر للخدمة وليس له رجاء إلا مقام فخامة المستشار، والأمر أمره وهو سيده الأفخم”([26])
وفي رسالة إلى الكرنل (ميد) يقول: ” إني لا أزال على وعدي معكم حتى الموت ولا أجرؤ على كسر العهد مع حكومة جلالتكم وإنني والله وبالله وتالله أطلب من جلالة ملك بريطانيا العظمى ومن همتكم وعدالتها جميع حوائجنا من جميع الوجوه وهي أمنا الشفيقة ونحن أولادها وغي رسالة أخرى له يقول: لو كانت القضية مع حكومة بريطانيا العظمى فإننا جميعاً نسلم أرواحنا وأموالنا بيدها.”([27])
هذه الرسائل وأمثالها قدمها عارف لقاسم ليمنع البارزاني من العودة إلى العراق إلا أن قاسم أصم أذنيه وقال: إن سبب ما كان يحدث في الماضي هو الاستعمار وأن الثورة قضت على الاستعمار وأنه لا يستطيع أن يمنع الناس من استقبال الملا [البارزاني]([28]) ” وبعد عودة البارزاني يغض الطرف عن جرائمه في تصفية خصومه التركمان ويشترك الشيوعيين معه في ذلك في مجزرة كركوك ” عمت الفوضى مدينة كركوك بسرعة واشتعلت الحرائق في جميع أنحاء كركوك واتصلت الفرقة [ أي الفرقة العسكرية الثانية] بشركة النفط للمساعدة في إرسال سيارات الحريق المتيسرة عندها بكثرة ولكن قبل وصولها أحرقها المتظاهرون [يعني البارتيين أنصار الملا البارزاني والشيوعيين] أو منعوها من أداء عملها ومما زاد في هول المأساة هو اشتراك ضباط الصف والجنود الحزبيين مع المدنيين في الهجوم على بيوت التركمان وقتل العوائل بكاملها أي يمحون البيت بكامله نساءً، وأطفالاً ورجالاً ومن أجل إرهاب مقر الفرقة سحلت جثث القتلى من التركمان إلى قرب المقر وعلقوها بالحبال على الأشجار المحيطة بالمقر”([29]) ” ولم تتمكن الفرقة العسكرية من التصدي لهؤلاء الوحوش وحماية المدنيين التركمان لأن ” معظم الضباط وضباط الصف منتمون للحزبيين البارتي والشيوعي ومؤيدون لخطة القضاء على التركمان تمهيدا لسيطرة البارتيين على كركوك”([30]) “واكتفى قاسم حينها بالشجب لما جرى ونصح هؤلاء الذين انتزعت منهم الرحمة بالعودة إلى طريق الرشاد كما هدد باستعمال القوة ضدهم”([31]) إلا أنه عاد لتبرئة الشيوعيين والبارتيين من هذه المجزرة كما سبق ذكره
ولكن عندما شعر قاسم بأن الملا البارزاني قد تجاوز حده وأنه أصبح مصدر قلق وتهديد لحكمه أكثر من كونه أداة يستخدمها ضد أعدائه “استخدم محتويات إضبارة الداخلية ورسائله للإنكليز للتشهير به ودمغه بالعمالة “([32]) لقد استخدم قاسم البارزاني “ليسنده ويسخره في مقاومة مشاريع الوحدة ودعاتها وكان له خير عون ونصير إلى أن قضى عبد الكريم منه لبانته فنفض منه يده ووجه إليه أبشع التهم والنعوت والصفات([33])
وأما الحرب مع اليهود وتحرير فلسطين فيكتفى من ذلك بصك الميداليات والوعد بتوزيعها بعد تحرير فلسطين دون أن يُخطى في سبيل ذلك خطوة واحدة، وهذا حوار دار بين الشواف وقاسم قبيل ثورة الموصل
يقول الشواف “لماذا نتورط في معركة مع الجمهورية العربية المتحدة؟ وما هو الدافع لنا؟ وهل هناك أسباب أو هل لنا مصلحة في مثل هذه المعركة مع إخواننا في العروبة؟
قال له عبد الكريم بصوت هامس:
عبد الوهاب سوف أفضي لك بسر لم أقله لأحد
وفتح عبد الكريم درج مكتبه ثم أخرج علبة صغيرة وفتحها وسأل الشواف:
هل ترى؟
وقال الشواف: ما هذا؟
قال قاسم: ميدالية العودة إلى فلسطين، لقد أنشأت ميدالية وزعتها فعلاً وكتبت عليها (عائدون) وهذه هي الميدالية الثانية التي سوف نوزعها وعليها (عدنا)
وقال الشواف: سيدي الزعيم متى سنوزع هذه الميدالية ؟ متى نعود إلى فلسطين؟
وغمز قاسم بعينه ثم قال: سوف أقول لك في الوقت المناسب يا شواف”([34])
وبعد هذا الظلم والعدوان والاستبداد والجرأة على الدماء والأموال كان لا بد من أن يحلّ بالزعيم الأوحد عقوبة الله ويذوق من الكأس التي طالما أذاق منها المستضعفين والأخيار
حوصر في وزارة الدفاع ولم يغن عنه أنصاره بل أخذوا يزعمون له “أن الشعب وحده سيحبط الثورة ويقضي على الثوار وأنصارهم قضاءاً مبرماً ولن يلبث إلا قليلاً ليشاهد بأم عينه الثوار يسحلون في الشوارع ومما شجع قاسماً على تصديق هذا الادعاء ما يسمعه من هدير المتجمهرين من حشود أنصاره حول وزارة الدفاع: عاش الزعيم عبد الكريم”([35])
” ولم يدر أن أنصاره من المنتفعين والمنحرفين في مبدأهم والمرتزقة وأشباه الرجال وهؤلاء لا يمكن أن يقاتلوا كما يقاتل الرجال من أصحاب العقيدة الراسخة والإيمان العميق”([36])
فأخذ ذلك المتجبر المتغطرس يتذلل لمحاصريه ولأصدقائه الذين سبق و رمى بهم في السجون، ليستسلم لهم مقابل الحفاظ على حياته يقول عبد السلام عارف
” ولكنه عاد للتوسل وأخذ يردد: تذكر أخوتنا يا عبد السلام، فقلت له من جديد: أنا أذكر كل شيء أنا لم أخن علاقتنا ولن أخونها مثلك هذا قرار لإنقاذ البلد لا رجعة فيه
فعاد يقول في التليفون: هل تريدون إهانتي؟ هل تريدون الانتقام مني؟ ألا يوجد أي حلّ يحفظ كرامتي؟
أرجوك، أرجوكم، أنتم إخوتي لماذا تريدون أن أسلم بهذه الدرجة من الذل؟
قلت: الوطنية فوق المظاهر أنت قد أخذتنا إلى السجون وأنا واحد منهم ونحن مكبلون بالحديد ولكننا الآن نخدم الوطن.
قال: هذا انتقام مني
قلت: نحن لسنا بمنتقمين إننا محررون”([37])
ثم استسلم الطاغية أخيرا ” فتم إلقاء القبض على عدو الشعب عبد الكريم قاسم ومعه فاضل عباس المهداوي وطه الشيخ أحمد وكنعان خليل حداد من قبل القوات المسلحة”([38])
وأجريت له محكمة شبيهة بالمحاكم التي كان المهداوي يحكم بها على خصوم قاسم بالإعدام فحكم عليه وعلى بعض أزلامه ومنهم القاضي الفاسد المهداوي خلال محاكمة دامت ربع ساعة “بالإعدام رميا بالرصاص ونفذ فيهم”([39])
ومن عدل الله تعالى أن سمع قاسم بأذنه تبرؤ قاضيه المهداوي منه
” وكان عبد السلام قد قال للمهداوي: أبو عباس اشلون محكمة محكمتك؟ بصيغة الاستنكار
فأجاب المهداوي: وأنا شنو؟ اسألوا هذا كلها من عنده ــ وأشار إلى الطاغية ثم أدار ظهره للطاغية وكان يبدو على المهداوي بوضوح أنه كان مستعدا لمحاكمة الطاغية بنفس الحماسة التي كان يحاكم بها أعداءه والحكم عليه بالموت كما حكم على أعدائه([40])
والعجيب أن قاسم بعد كل جرائمه ومجازره قال أثناء محاكمته: “إني خدمت الشعب، نفذنا الثورة، أنقذته من الاستعمار هيأت له العيش الكريم، أنا خدمت الفقراء، بنيت لهم المساكن وفرت العيش الكريم لكل إنسان”([41]) ترى من أيّ جلود البقر قُدَّ وجه قاسم حتى قدر على هذه الوقاحة وهو على شفير قبره
فتأمل رعاك الله كيف كانت عاقبة هذا الطاغية المتجبر واليوم لا يعرف له قبر على وجه البسيطة فإنه لما قتل ودفن نبش قبره بعض أنصاره ونقلوا جثته إلى منطقة (أبو عروج) وحرثوا الأرض كي لا يعرف مكان القبر ولكن الجهات الرسمية لما علمت بذلك نبشت القبر الجديد وأخرجت الجثة وثقّلتها بالحديد ثم رمتها في نهر دجلة بالقرب من جسر ديالى([42])
فهل من معتبر؟
([1]) يقول العقيد محسن الرفيعي: ومرت الأيام وبينما كنت أتناول طعام الغداء مع الزعيم بمفردنا انتابه شرود أعقبه حسرة كبيرة وقال متأوهاً: لعنة الله على من دفعني لإعدام ناظم ورفاقه ( أنا والزعيم مذكرات العقيد محسن الرفيعي في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، إعداد وتحرير ستار جبار الجابري، ط1، 2010)
([2]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (ص296)
([3]) المصدر السابق (ص159 وما بعدها)
([4]) المصدر السابق (ص174 وما بعدها)
([5]) المصدر السابق (ص282)
([6]) المصدر السابق نفسه
([7]) ثورة الشواف في الموصل الصراع بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وحلفائهم وبين ناظم الطبقجلي والقوميين (ص331)
([8]) المصدر السابق (ص333)
([9]) ثورة الشواف في الموصل الصراع بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وعبد الوهاب الشواف وضباط الموصل الوحدويين (ص115)
([10]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين ورفعت الحاج سري والقوميين (ص77)
([11]) المصدر السابق (ص79)
([12]) ثورة الشواف الصراع بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وعبد اوهاب الشواف والوحدويين (ص305)
([13]) أطلق الشيوعيون خمسة وخمسا لقبا في مدح قاسم وتبجيله ومنها على سبيل المثال (الزعيم الأوحد، العبقري، الحبيب، الغالي، المعجزة، القديس، البطل، الأمين، المقدام، الفذ، معجزة السماء، اللوذعي، المنقذ، بطل الثورة، قائد الدنيا الجديدة (سقوط عبد الكريم قاسم (ص99)
([14]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين ورفعت الحاج سري والقوميين (ص182)
([15]) المصدر السابق (ص204)
([16]) المصدر السابق (ص209)
([17]) سقوط عبد الكريم قاسم (ص121)
([18]) المصدر السابق (ص215)
([19]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (ص90)
([20]) ثورة الشواف في الموصل الصراع بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وحلفائهم وناظم الطبقجلي والقوميين (3/193)
([21]) ثورة الشواف الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (ص162)
([22]) علما أن قاسم طرد الموظفين الأكفاء من وظائفهم لعدم مسايرتهم أهواءه وشكل لأجل ذلك لجان تقوم ” بتقديم المقترحات عن الموظفين الذين يقفون ضد سياسته غير القانونية والشرعية بحجة عدم تجاوبهم مع الثورة وإخلاصهم للزعيم، وعادة ما يكون هؤلاء الموظفون الكفؤون الملتزمون بواجبات الوظيفة ومسؤولياتها ويرفضون إمرار كل ما هو باطل وغير شرعي… وهكذا شلّت أعمال هذه اللجان سير أعمال الدولة ودب الرعب بين الموظفين ووضع الموظف غير المناسب في محل الموظف المناسب (ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (ص288 وما بعدها)
([23]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (ص140 وما بعدها)
([24]) المصدر السابق (ص141)
([25]) انظر ثورة الشواف في الموصل الصراع بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وحلفائهم وناظم الطبقجلي والقوميين (3/16)
([26]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (181)
([27]) المصدر السابق نفسه
([28]) المصدر السابق نفسه
([29]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وحلفائهم وناظم الطبقجلي والقوميين (3/209)
([30]) المصدر السابق (3/210)
([31]) انظر المصدر السابق (3/212)
([32]) ثورة الشواف في الموصل الصراعات بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف (181)
([33]) المصدر السابق (ص241)
([34]) ثورة الشواف الصراع بين عبد الكريم قاسم والشيوعيين وعبد اوهاب الشواف والوحدويين (3/275)
([35]) أين الحقيقة في مصرع عبد الكريم قاسم (ص133)
([36]) المصدر السابق (ص139)
([37]) أين الحقيقة في مصرع عبد الكريم قاسم، أحمد فوزي، ط1، 1990م، الدار العربية، بغداد (ص19 وما بعدها)
([38]) أين الحقيقة في مصرع عبد الكريم قاسم (ص29 وما بعدها)
([39]) أين الحقيقة في مصرع عبد الكريم قاسم (ص30)
([40]) أين الحقيقة في مصرع عبد الكريم قاسم (ص136)
([41]) أين الحقيقة في مصرع عبد الكريم قاسم (ص25)
([42]) انظر المصدر السابق (ص184)