ألا إن القوة الرمي – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٢٩ ربيع الأول ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد التاسع والعشرون ربيع الأول ١٤٤٣ هجرية – تشرين الأول ٢٠٢١ ميلادي
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
يعتبر الرمي من أهم أسباب القوة والإعداد للجهاد والمجاهدين في سبيل الله، لما له من أهمية عظيمة في النكاية في العدو وهزيمته ورده على أعقابه؛ وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم معظم القوة للمجاهد بإتقان الرمي، في قوله: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ». رواه مسلم.
فضله:
وردت أحاديث كثيرة في فضل الرمي وتعلمه وإتقانه والمداومة عليه وتحذر من تركه أو نسيانه، فمن فضائله:
– الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله: فعَنْ سَلَمةَ بن الأكوعِ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ ينتَضِلُون، فَقَالَ: «ارْمُوا بَنِي إِسْماعيل فَإنَّ أبَاكم كَانَ رَامِيًا» رواه البخاري.
– سبب لدخول الجنة على اختلاف المهمة سواء كان راميا أو صانعا أو مدربا أو ناقلا أو منفقا للنبل: فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله»، وقال: «ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» «وليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها» أَوْ قَالَ: «كَفَرَهَا». وفي رواية: «والممد به» وفي أخرى: «والذي يجهز به في سبيل الله» رواه أحمد.
– أجر عتق رقبة: فعَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «من رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ كَمَنْ أعتق رقبة» رواه ابن حبان.
– يثاب الرامي عند لهوه إذا كان بنية التدرب على الجهاد نكاية للعدو: فروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رفعه قال: «عليكم بالرمي فإنه خير -أو من خير- لهوكم» وفي رواية: «من خير لعبكم» رواه الطبراني.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم يَقُولُ: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلاَ يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ» رواه مسلم.
– السباق بنية الإعداد للرمي جائز ويثاب فاعله: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ» رواه أحمد.
صور الرمي:
الرمي بالنبل أو ما يقوم مقامه من سلاح حسب كل أهل زمان ومكان:
مما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» أن معظم القوة والإثخان في العدو يكون في الرمي، ونظرًا لواقع الجهاد والمجاهدين والحرب اليوم، فقد قلَّ أو انعدم الالتحام الجسدي، وصارت أغلب أسلحة الدول والجيوش الكبرى والمجاهدين تعتمد على الرمي فقط، سواء البعيد من مدفعية ونحوها، أو القريب من بنادق أو مسدسات وقنص، ويدخل الطيران المسير والحربي والمروحي والبارجات والصواريخ بأنواعها تحت مسمى الرمي، مع الاعتبار بالسلاح الأنفع لكل مرحلة أو معركة حسب زمانها ومكانها باختيار الأنفع بتعلمه وإتقانه مما تدعو إليه الحاجة.
آدابه:
– الانتباه إلى السلاح ألا يصيب أحدا من المسلمين بأذى: فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَرَّ في شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بكَفّه؛ أَنْ يُصِيبَ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْء» متفق عليه.
– النهي عن العبث في الرمي: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» متفق عليه.
– عدم ترك الرمي أو نسيانه والإثم على من فعل ذلك: فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ، أَنَّ فُقَيْمًا اللَّخْمِيَّ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ وَأَنْتَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْكَ، قَالَ عُقْبَةُ: لَوْلاَ كَلاَمٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم لَمْ أُعَانِيهِ، قَالَ الْحَارِثُ: فَقُلْتُ لاِبْنِ شِمَاسَةَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ قَدْ عَصَى» رواه مسلم.
*نماذج من رماة الإسلام:
1 – سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: صحابي جليل وهو من أشهر رماة الإسلام، روي أنه قَتَلَ يوم أحد بسهم واحد ثلاثة مشركين فتعجب الناس منه، فقال رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبلنيه (ذخرّني به)» رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
وهو خال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد افتداه النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه يوم غزوة أحد، كما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدا غير سعد، سمعته يقول: «ارم فداك أبي وأمي» متفق عليه.
وقد كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مجاب الدعوة، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال: «اللهم سدد رميته وأجب دعوته» رواه الحاكم.
وقد كان أول رامٍ في سبيل الله يوم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب من الحجاز يسمى رابع، فانكفأ المشركون على المسلمين، فجاءهم سعد بن أبي وقاص يومئذ بسهامه، فكان أول من يرمي بسهم في سبيل الله، في أول قتال في الإسلام.
2 – أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: صحابي جليل من أشهر رماة المسلمين، ومن القلة التي دافعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: فعن أنس، قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ»، ((الحجفة: الترس))، قال: «وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا، شَدِيدَ النَّزْعِ ((أي رمي السهام))، وَكَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ((من شدة الرمي))»، قال: «فَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ» متفق عليه.
3 – أبو يحيى “صهيب الرومي” رضي الله عنه: صحابي جليل ومن أشهر رماة المسلمين، ورويت عنه قصة عجيبة في هجرته تدل على حسن رمايته وثباته، فنزل فيه قرآن يتلى إلى يوم الدين، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قال: «أَقبَلَ صُهَيبٌ مُهاجِرًا نَحوَ المَدينَة، واتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِن قُرَيشٍ، فَنَزَلَ عَن راحِلَتِه، وانتَثَلَ ما في كِنانَتِه، ثُمَّ قالَ: يا مَعشَرَ قُرَيشٍ، لَقَد عَلِمتُم أَنِّي مِن أَرماكُم رَجُلاً، وايمُ الله، لاَ تَصِلونَ إِلَيَّ حَتى أَرميَ بِكُلّ سَهم مَعيَ في كِنانَتي، ثُمَّ أَضرِبَكُم بِسَيفي ما بَقيَ في يَدي مِنهُ شَيءٌ، فافعَلوا ما شِئتُم، فَإِن شِئتُم دَلَلتُكُم عَلَى مالي وخَلَّيتُم سَبيلي، قالوا: نَعَم، فَفَعَلَ، فَلَمّا قَدِمَ عَلَى النَّبيّ صَلى الله عَلَيه وسَلم قالَ: رَبِحَ البَيعُ أَبا يَحيَى، رَبِحَ البَيعُ، قالَ: وَنَزَلَتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ} [البقرة : 207]» أخرجه ابن سعد في الطبقات.
4 – قتادة بن النعمان رضي الله عنه: صحابي جليل من أشهر رماة المسلمين، فقد إحدى عينيه بسهم أصابه وهو يحمي النبي صلى الله عليه بوجهه يوم أحد فأعادها له النبي صلى الله عليه فكان يرى بها أفضل من عينه السليمة، وقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال: «أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسٌ، فَدَفَعَهَا إِلَيَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَمَيْتُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْدَقَّتْ عَنْ سِيَتِهَا ((السية: انحناء طرف القوس))» رواه الطبراني.
5 – إن صدق الإعداد مع العمل طريق النصر والفلاح، لما وصل خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى مدينة الأنبار ليفتحها، استعصت عليه بسبب ارتفاع أسوارها وإحاطتها بخندق عظيم، فاقترب من أسوارها قدر استطاعته وتراشق الفريقان بالنبل، فأمر المسلمين أن يركزوا رميهم على عيون المشركين وكذلك فعلوا، ففقؤوا يومها ألف عين من المشركين، فتصايح الناس: ذهبت عيونُ أهل الأنبار، وانتصر المسلمون يومها من رشق النبل دون مقارعة السيوف، وسميت هذه الغزوة بغزوة “ذات العيون”.
الخاتمة:
اللهم سدد رمينا ورأينا، ووحد صفنا، واجمع كلمتنا، وأحكم خطتنا، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من الرماة المهرة المسدَّدين في القول والعمل، وزدنا بسطة في العلم والجسم بفضلك وقوتك يا ذا القوة المتين.
والحمد لله رب العالمين.
ألا إن القوة الرمي – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٢٩ ربيع الأول ١٤٤٣ هـ
– الشيخ أبو حمزة الكردي