حديث عن التدخل الروسي العسكري الميداني في سوريا سنة 2015
《 ليالي حلب ٤٦》 الثورة في حلب٣٣
ستة أشهر بدأت في الشهر الثالث 2015 إلى الشهر التاسع من نفس العام حرر فيها جيش الفتح إدلب وأريحا وجسر الشغور وغيرها واستعادت فصائل حلب زمام المبادرة، وأصبح انهيار العدو النصيري في الساحل وحلب مسألة متوقعة يأملها المجاهدون ويخشاها العدا في الداخل والخارج..
وفي ظل تلك الظروف ومنعا لانهيار النظام النصيري، وسعيا من الروس في الحفاظ على مكتسباتهم بعد التدخل العسكري الأمريكي المباشر في سوريا بزعم حرب الإرهاب، انتقل العدو الروسي من الدعم المباشر للنظام النصيري بالقواعد العسكرية والسلاح والذخيرة والمعلومات الاستخباراتية والتأييد الدولي إلى التدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب بسوريا في 30 من الشهر التاسع لعام 2015.
والذي ظهر عند هذا التدخل أن هناك تناغما وتقاسما للأدوار بين الروس والأمريكان؛ فقد كانت أولوية الروس قتال فصائل المعارضة ويأتي قتال تنظيم الدولة في مرتبة ثانية وفي أماكن محددة، وكانت أولوية الأمريكان قتال تنظيم الدولة ويأتي قتال فصائل من المعارضة كتنظيم القاعدة في مرتبة ثانية وفي أماكن محددة، وسعى الروس للتمركز في المواقع الإستراتيجية سياسيا مثل غرب البلاد الذي يحوي المنافذ البحرية لسوريا وفيها قاعدة الطيران الروسية الرئيسية في حميميم والميناء العسكري الروسي في طرطوس، أما الأمريكان فسعوا للسيطرة على ثروات البلاد ممثلة في حقول النفط المتمركزة شرق البلاد، وعلى ربط التواجد الأمريكي شرق سوريا بالتواجد الأمريكي في العراق.
وقد استطاع التدخل الروسي تغيير خرائط السيطرة في سوريا وأصبح الروس يهيمنون على قرار العصابة النصيرية ويتفاوضون أصالة مع الدول الأخرى التي لها تدخلات في الملف السوري كما حدث في مؤتمرات الأستانا وسوتشي وغيرها.
* وقد استخدم الروس في تدخلهم أساليب منها:
– التدرج مع الكذب والمراوغة: فقد بدأ التدخل العسكري الروسي بسلاح الجو وتوجيه ضربات جوية محدودة وتسيير طيران استطلاع، ثم تطور إلى المشاركة الجوية الميدانية، ثم المشاركة المدفعية، ثم أنزل قوات برية ميدانية، مع فتح المجال للشركات الأمنية الخاصة لجلب مرتزقة روس ليشاركوا في المعارك دون أن يكونوا محسوبين رسميا على الجيش الروسي.
ومن التدرج والكذب كذلك إغراء المهزومين من الثوار بالاستسلام عبر تسويق المصالحات وتقديم الضمانات والوعود بعدم المساس بأهل المصالحات بل ونشر شرطة شيشانية أصلها مسلم سني في بعض المناطق، ومنع المليشيات الإيرانية والجيش النصيري من الانتشار في أماكن السنة التي دخلوها، ثم ما هي إلا شهور حتى يتغير الوضع تدريجيا ويساق الجنود لجبهات الموت ويدخل الجيش النصيري وتعود التصفيات والاعتقالات..
ومن التدرج كذلك تسويق المشاركة في الحرب داخل روسيا على مراحل ففي البداية زعمت الحكومة الروسية أنها تحارب آلاف من مواطني روسيا في سوريا سيعودون لبلادهم بعد الحرب، وأنها تقاتل تنظيم الدولة، ثم مراعاة لوضع الانتخابات الروسية زعمت في الشهر الثالث من 2016 أن التدخل الروسي حقق نتائجه وأنه بدأ سحب القوات الروسية، ثم بعد ذلك روجت للمؤتمرات السياسية المتتابعة لتوهم شعبها أن الأمر في نهايته وأن روسيا لن تدخل في مستنقع يستنزفها..
– الخوف من الاستنزاف البشري: كان التدخل الروسي الميداني في الحرب بسوريا بعد أكثر من أربع سنين من اندلاع الثورة السورية، وبعد استنزاف كبير وقع للجيش النصيري ولإيران ولحزب الله اللبناني وحلفائهم، وفي ظل تقدم وقوة الفصائل المعارضة لبشار، لذا حاول المحتل الروسي على مدى السنين الماضية ألا يزج جنوده في مقدمة الصفوف، وأن يعمل جاهدا على تحريك الآخرين وإدارتهم ليكونوا هم في خطوط المعارك الأولى، سواء كان الجيش النصيري أو المليشيات الإيرانية وحلفاءها أو جنود المصالحات الذين انضموا للفيالق التي يديرها الروس مباشرة؛ لذا فإن الخسائر البشرية الروسية إلى الآن تعد قليلة جدا مقارنة مع ما يتوقعه أي محتل ينزل بجنوده على أرض دولة أخرى، ورغم أن روسيا أعلنت قبل سنتين تقريبا أنها استخدمت في سوريا ما مجموعه ثلاثة وستون ألف عسكري بينهم خمسة وعشرون ألف ضابط، إلا أن هذه الأرقام محل شك كبير سواء في صحتها أو في فاعليتها ويبدو أن غرضها تبرير مزيد من التوسع والهيمنة في سوريا أمام التواجد الإيراني والأمريكي في البلد.
– الاعتماد على الكثافة النيرانية: قامت معارك الاحتلال الروسي على مبدأ الكثافة النيرانية التي تحرق المنطقة المراد اقتحامها وتشل الحركة داخلها ثم يتم الزج بقطعان المشاة المنقادين لهم لتمشيط المنطقة، فإن وجدوا مقاومة عاد الروس لحرق المنطقة ثم الزج بالمشاة من الجيش النصيري وحلفائهم، لتمشيط المنطقة، فإن وجدوا مقاومة عاد الروس لحرق المنطقة.. وهكذا، مع الاعتماد على تبديل القطع العسكرية المشاركة في الهجوم بشكل مستمر للحصول على جاهزية أكبر، فإن وجدوا ثباتا انتقلوا لجبهة أخرى، ويعتمدون في الدفاع على عمل أكثر من خط دفاع؛ بحيث يكون الخط الأول هو خط إنذار قائم على وحدات قتالية ضعيفة المستوى، أما الخط الثاني والثالث ففيه الوحدات ذات المستوى الأعلى؛ بحيث يستنزف الخط الأول القوى المهاجمة ليقوم الخط الثاني بكامل جاهزيته بصد القوى المهاجمة المستنزفة، وليس عند المحتل الروسي تكتيكات عسكرية عالية المستوى سوى ما استخدمه مؤخرا بشكل ثانوي من أساليب الهجوم النوعي الليلي، ولعل من أسباب ذلك ضعف أكثر نوعية الجنود الذين يقاتلون نيابة عنه على الأرض.
– التركيز مرحليا على الانتصار السياسي في سوريا لا الاقتصادي: كلفت الحرب في سوريا الخزينة الروسية الكثير، ورغم أن الروس عززوا تواجدهم في سوريا المحتلة إلا أنهم وفي ظل ضعف الاقتصاد الروسي والسوري لم يستفيدوا إلى الآن من سوريا الاستفادة الاقتصادية التي تغطي تكاليف الحرب، ولكنهم في ذات الوقت جعلوا هذا التواجد في سوريا قوة سياسية يستفيدون بها اقتصاديا في ملفات أخرى سواء في التجارة مع تركيا أو تمديد خط الغاز الروسي لدول أوربا أو في التدخل في ليبيا، فهم يعتقدون أن حسم الحرب في سوريا سيتيح لهم فرصة تعويض ما خسروه خلال السنين الماضية ويمكِّنهم من استغلال الاقتصاد السوري لعقود طويلة.
* ولعل مما يفيد التنبيه له في مواجهة هذا الاحتلال الروسي ضرورة استنزاف العدو الروسي والتنكيل به بشكل مباشر: فرغم أن المجاهدين استطاعوا التنكيل بالجيش النصيري والمليشيات المرتبطة به إلا أن التقصير في توجيه ضربات مباشرة متكررة قوية للمحتل الروسي شجع العدو على الاستمرار؛ فهو لم يخسر بشكل مباشر طوال أربع سنين سوى عدد محدود من الجنود والطائرات والعتاد..، وتسير أرتاله في الأماكن المحتلة بكل أريحية، وينشر قواعده العسكرية في أي مكان بلا تهديد حقيقي يطالها، فضلا عن عدم تعرضه لضربات ردع داخل روسيا؛ فالمتعين على الثورة أن تعتني بتوجيه الضربات القوية المتتابعة لأئمة الكفر ورؤوس الشر من المحتلين الروس ليعلم المحتل أن ضريبة تدخله في سوريا فادحة وفوق طاقته.
وإذا كانت عشر سنوات من احتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان أدت إلى انهياره؛ فإن ثلاث سنوات أو أربع من استنزاف الروس بسوريا يمكن أن تؤدي لانهيار روسيا بإذن الله، خاصة مع تورط روسيا في ملفات دولية متوترة أخرى مثل ليبيا وأوكرانيا وفنزويلا ودول أوربا الشرقية…
ومن المهم معرفته أن الروح القتالية الحالية للشعب الروسي أضعف بكثير من قبل؛ فالتغير الحضاري الذي مر به الشعب الروسي من مرحلة الاتحاد السوفيتي والشيوعية الحمراء والاشتراكية إلى مرحلة روسيا الديمقراطية الرأسمالية، مع تزايد إدمان الشعب الروسي على الخمور وسعيه لتحسين وسائل الرفاهية المجتمعية، قتل كثيرا من معاني الفتوة في نفوس الشعب الروسي وأثر على قدرته على التضحية، بل وأصبحت روسيا من الدول الجاذبة للعمالة الأجنبية الطاردة للشباب الروسي؛ حيث يفد لروسيا الملايين من الدول الفقيرة للعمل فيها ويهاجر الشباب الروسي إلى أوربا للبحث عن أعمال أرقى، وهذا أحد أسباب انكفاء الجيش الروسي عن خوض معارك مباشرة كبيرة طويلة الأمد في العقود الأخيرة.
لذا فإن العمل على التأثير في الرأي العام للشعب الروسي وإشعاره بالمخاطر التي تحيط به وبأبنائه جراء أطماع ساستهم في الشعوب المسلمة أمر مهم في الحرب القائمة.