{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} مجلة بلاغ العدد ٧٢ – ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

الشيخ: محمد سمير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد؛

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:212].

هذه الآية تبيّن حقيقةً عظيمةً وهي تهالك الكفار على الدنيا ومتاعها ولذائذها وشهواتها ويرونها الحياة التي يجب أن تُقتنص لذاتها بحلالها وحرامها فهي أكبر همهم ومبلغ علمهم، ولذلك تراهم يستهزؤون بالمؤمنين الذين يستحقرون الدنيا ولا يرونها سوى مرحلةً أو قنطرةً يعبر بها إلى الآخرة وبالتالي فهي لا تستحق التضحية والمخاطرة فليست قيمتها بالنسبة إلى الآخرة إلا كنسبة القطرة إلى البحر.

ومن شأن الكفار دائمًا تسخير إعلامهم للسخرية من المؤمنين والطعن بهم والافتراء عليهم، فعلى المسلمين عامةً والمجاهدين خاصةً أن يعوا هذه القضية فمن رام أن يسير في طريق الحق وطمع مع ذلك أن ينجو من إعلامهم الكفار فهو يعيش في بحرٍ لجيٍّ من الوهم.

فلا يجتمع السير في طريق الحق والنجاة من ألسنة أهل الباطل إلا كما يجتمع الحوت والضب وهذه السخرية مستمرةٌ وللدلالة على ذلك جاء الفعل بصيغة المضارع {وَيَسْخَرُونَ}.

قال أبو السعود:

“وإيثارُ صيغة الاستقبال للدلالة على استمرار السُّخريةِ منهم”.

وقال ابن عثيمين في فوائد هذه الآية:

“ومنها: أن الكفار لا يزالون يسلطون أنفسهم على المؤمنين؛ لقوله تعالى: {وَيَسْخَرُونَ} بالفعل المضارع؛ لأن المضارع يدل على الاستمرار، والحال، والاستقبال؛ فهم دائماً في سخرية من الذين آمنوا.

فالدنيا قد ملكت على الكفار عقولهم وقلوبهم فهم لا يستطيعون أن يفهموا كيف يعرض أهل الإيمان عنها ويقبلون راضين بالحياة الخشنة لأجل دينهم ويتلقون برحابة صدر المصاعب في سبيل ربهم”.

وقال الطبري:

“يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزيتها من الرياش والأموال، طلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها”.

والسخرية من المؤمنين تدخل ضمن محاربة المؤمنين لمحاولة فتنهم عن دينهم لذلك على المؤمن ألا يُقيم لكلام أهل الكفر وزناً وأن يتمسك بما رزقه الله من الحق.

قال محمد بن عاشور: “علينا كذلك التحضير للحرب النفسية.. لأن أهل الكفر والنفاق لا يدخرون جهدًا في السخرية من المسلمين ومن المجتمع الإسلامي تحت لافتات ومسميات مختلفة.. المؤمن عزيز كريم.. أبيٌّ.. لا يتنازل ولا يتساهل ولا يركن.. ولا يضع أمامه من هدف سوى مرضاة الله الذي وعده بالنصر والتمكين في الدنيا والآخرة”.

ويقول سيد قطب:

“لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة، زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها ولا يعرفون قيماً أخرى غير قيمها، والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن، ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة، إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها.. ولكن لأنه ينظر إليها من عل- مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة، وعنايته بالنماء والإكثار- فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى.

ينشد منها أن يقر في الأرض منهجاً، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس، ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة.

وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض، المستعبدون لأهداف الأرض.. ينظرون للذين آمنوا، فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم، ومتاعهم الزهيد ليحاولوا آمالاً كباراً لا تخصهم وحدهم، ولكن تخص البشرية كلها ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم ويرونهم يعانون فيها المشقات ويقاسون فيها المتاعب ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة وأعلى أهدافها المرموقة.. ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا- في هذه الحال- فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا، عندئذ يسخرون منهم، يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم، ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه!”.

أيها المؤمن الذي يحمل بين جوانحه عقيدة التوحيد، ويسير على خطى نبيه عليه الصلاة والسلام، متمسكًا بسنته عاضًا بنواجذه عليها ستلقى الكثير الكثير من السخرية من أهل الكفر وأذنابهم المبطلين، فلا تعبأ بهم ولا تلتفت إليهم ولا تلق بالا إلى كلامهم وهزئهم فعما قريب يقال: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:22-23].

والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى