بَقِيَّة..
قصة رواها صاحب قديم..
“كانت زياراتهم لمدة نصف ساعة فقط لكلِّ شهر، وبعد عناء ومشقةٍ وسفر طويل، يدخل الأهالي ليروا طيف ابنهم وتغيبُ ملامحه لتعدد الحواجز الشبكية بينهم.. هكذا كانت حال السجناء في سجون طاغية الشام قبل الثورة السورية..
واليوم صار هذا البلاء والعذاب أمانيَّ لا تُدرك.. نسأل الله العافية..
ولمَّا كانت الدقائق لا تكفي بالكاد إلا لكلمات قليلة مسموعةٍ مراقبةٍ، كانت هدايا السجناء هي رسائل القلوب والعقول..
وربما كان أشهرها آياتٌ منسوجةٌ على أجزاء من ثياب السجناء الممزقة..
إحدى هذه الرسائل.. هي قصتنا..
كتب صاحبها على قطعة القماش هدية لأمه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}.. ومضى يخيطها، واستغرب أصحابه ولم يفهموا رسالته، وكانوا كلما سألوه عن رسالته أجابهم: أمي ستفهمها..
ومضت الأيام..
ونُودي باسمه للزيارة، فحمَلَ هديَّتهُ ومضى مبتسماً ممازحاً أصحابه: لن تخذلني أمي.
وبعد دقائق السلام والدموع، رفع هديَّتهُ بين كتفيهِ، فكان جوابُ أمهِ مباشرةً: لا إله إلا الله، استودعتكَ الله، وهو حسبُكَ ونعمَ الوكيلُ..”.
في يوم من الأيام، رأى فرعون رؤية ساءته، فجمعَ سَحَرتهُ يستفتيهم، فقالوا: هو غلامٌ من بني إسرائيل يجتاحُ ويُذهبُ مُلْكُ الأقباط، فهاجَ فرعون وماجَ، وأعمَلَ القتلَ في مواليد بني إسرائيل الذكور، فَلَمَّا خافُ الأقباطُ قلة خدمة بني إسرائيل لهم إن استمر الحال هكذا، قرر فرعون قانوناً رحيماً.. يقتلُ الولدان عاماً ويذرهم عاماً!!
ولما كان عام العفو منه وُلِدَ هارون عليه السلام، فلمَّا كان عامُ الذبحِ وُلِدَ موسى عليه الصلاة والسلام، ولو شاء الله لَوُلِدَ كأخيه.. لكن.. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي..
وجاء الوحي إلى أمه أن اقذِفيهِ في التابوتِ فاقذِفيهِ في اليمِّ فَلْيُلْقهِ اليمُّ بالساحلِ.. لكن أيُّ ساحل؟!! ساحلِ عدوِّهِ!!
ولو شاء الله لألقاهُ اليمُّ في ساحل بعيدٍ آمنٍ.. لكن.. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي..
وأخذهُ من الساحل عدوُّهُ.. لكن بمحبةٍ وأمانيَّ أن يكون قُرَّةَ عينٍ..
ولو شاء الله لأنشأهُ في أي بيتٍ من بيوتِ الأقباط.. لكن.. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي..
وحرَّمَ عليهِ المراضعَ كلَّها، وكم من مراضعَ أصبحت أفئدتها فارغةً يومها وبَكتْ دماً على مواليدها!!
عندما تنشأ في حضن أمكَ فتروي لكَ أن الفرعون قتلَ مواليد قومك كلِّهم، وفجَعَ أمَّهاتهم، وأن الله نجَّاكَ بآيةٍ عجيبةٍ، وردَّكَ إلى أمكَ التي شكرتْ نعمةَ ربها ورَوَتْ لكَ تاريخكَ كاملاً.. وكأنها تروي لكَ أن نجاتكَ لسببٍ يريدهُ الله..
ونشأ موسى وبلغَ أشُدَّهُ واستوى، وآتاهُ الله حكمةً وعلماً، ثمَّ فجأة.. في قتالٍ وشِجارٍ عابرٍ ينشطُ موسى لإغاثة قهرِ تاريخهِ وقومهِ، فيكزُ الآخر فيقضي عليه!! ثمَّ يدركُ برحمة الله عليه وصناعته له أنه لا بد من مفارقة الظالمين وعدم مظاهرتهم.. ثمَّ تكونُ الحادثة الأخرى ليخرجَ منها خائفاً يترقَّبُ قاصداً سواء السبيل، مفارقاً أرضهُ وأهلهُ سنواتٍ طويلة..
ولو شاء الله لَبَعثَهُ في قومه، ولم يُغيِّبهُ عنهم تلكَ السنوات.. لكن.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي..
وكعادة الله في أنبيائه.. كان موسى عليه الصلاة والسلام يرعى الغَنَمَ في سنينِ غربتهِ، كَمهرٍ لزوجهِ، وكان الله يصنعُ فيه النُّبوةَ..
ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يا مُوسَى.. أتدركُ بعدَ كمْ من الآهاتِ والابتلاءات جاءَ قدَرُ موسى؟!!
ثمَّ تخيَّل موقفَ فرعونَ لَمَّا جاءهُ موسى عليه الصلاة والسلام..
موسى الذي وُلِدَ في أعوامِ الذبحِ!!
موسى الذي نجا في تابوتٍ على ساحل فرعون!!
موسى الذي نشأ في بيت فرعونَ ولداً، وكان يرجوهُ قُرَّةَ عينٍ ونفعاً!!
موسى الذي هربَ من أرض فرعونَ خائفاً يترقَّبُ بعد أن فَعَلَ فَعْلَتهُ التي لا تُغفرُ في قانونِ الفراعنة ضد المنازعين!!
ثمَّ بعد ذلك يقول في وجههِ.. وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً..
لقد قُصَّتْ علينا قصة موسى عليه الصلاة والسلام من قبلِ ولادته حتى حدود الأرض المقدَّسةِ التي كتبَ الله لبني إسرائيل.. وظهرت فيها جليَّةً حكمة الله في تدبيرِ صُنْعِهِ لعبادهِ، وكيف تُخْلقُ الأقدارُ وتُسخَّرُ لأولياء الله الذين يُصنَعونَ في عالَمِ الغيب.. والله قصَّ علينا قصصهم عبرةً لأولي الألباب، وهدى ورحمةً لقوم يؤمنون..
فمن ولاية الله لعبيدهِ أن يهديَ قلوبهم لحكمة الأقدارِ وصناعتها..
فاللهُمَّ أَنزِلْنا مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ..