وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ – الركن_الدعوي – مقالات مجلة بلاغ العدد ٥٧ – رجب ١٤٤٥ هـ
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
منزلة جهادية مشرفة اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من المسلمين، ألا وهي التحريض على القتال وشد العزيمة ورفع الهمم.
*معنى التحريض: في اللغة هو الحث على الشيء، وفي الشرع: هو التحريض على القتل، الحث عليه.
ويدخل في التحريض كل قول أو فعل للنبي صلى الله عليه وسلم فعله لتقوية المسلمين وتشجيعهم، ومنه التحذير والتكرير والتنبيه والنفي والتأكيد والترغيب والترهيب ومقاربة الهلاك، وقد تأتي مجتمعة أو فرادى بحسب حال المحرض.
ومن يقوم من المسلمين مقام التحريض في الجهاد فهو يؤدي المهمة النبوية الموكلة من الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال} [الأنفال: 65].
ورد عن الطبري في تفسيره: “أي: حُثَّ متبعيك ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين”.
وفي تفسير السعدي: “أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم”.
أما في تفسير القرطبي: “أي: حثهم وحضهم، يقال: حارض على الأمر وواظب وواصب وأكب بمعنى واحد، والحارض: الذي قد قارب الهلاك، ومنه قوله عز وجل: {حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا}[يوسف: 85] أي تذوب غما، فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين”.
التحريض فرض كالجهاد، أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] وهنا فائدتان مهمتان لمن قاتل وحده ولم يترك التحريض:
الأولى: كسر هيبة الأعداء وإرهابهم؛ فأنت وحدك لا تعبأ بالكثرة بل تقاتل وتدعو غيرك وتحرضه ليكون معك.
الثانية: تحريض وتنشيط وتشجيع المتخاذلين والهاربين حتى ينتفضوا ويعودوا إلى القتال، فاثبت وإياك أن تترك التحريض ولو كنت وحدك وخذلك الباقون، قال تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 84]، فثباتك لوحدك مع التحريض واجب عليك؛ وليس في القتال فقط؛ بل وفي قول كلمة الحق ونصرة المظلوم وكف يد الظالم ومحاربة المنافقين والمرتدين والخوارج وأهل البدع والأهواء الذين يلبسون على الناس دينهم فيجدون صعوبة أو حرجًا في قتالهم فيلتفتون لمعركة عدوها أشد وضوحًا فالحق لا يتجزأ وكذلك الباطل.
ومن أبرز مواقف التحريض والشجاعة والثبات وبذل النفس بالقول والفعل على مر التاريخ ما فعله القائد الأول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوتي أحد وحنين حين انكشف المسلمون فصاروا بين متراجع ومنسحب، وثبت معه قلة عددها اثنا عشر رجلًا والمشركون حولهم من كل جانب، فنادى صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته وهو بين أظهر المشركين، محرضًا ومشجعًا لمن هرب ومحرضًا ومثبتًا لمن معه، «أين أَيُّها الناسُ؟ هَلُمُّوا إلَيَّ، أنا رسولُ اللهِ، أنا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ..»، «أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ.. أَنَا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ..» والحديث متفق عليه عن عمرو بن عبد الله رضي الله عنه، يعيد ويكرر هذه العبارات محرضًا على القتال والثبات، والمشركون حوله وهو أقرب ما يكون للقتل والاستهداف.
ويوم بدر يحرض قومه صلى الله عليه وسلم: «..قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ..» رواه مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ويوم أحد بقي مع سبعة من أصحابه رضي الله عنهم، فجعل يحرضهم: «مَن يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّةُ، أَوْ هو رَفِيقِي في الجَنَّةِ؟» فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقالَ: «مَن يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّةُ، أَوْ هو رَفِيقِي في الجَنَّةِ؟» فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذلكَ حتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ: «ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا» والحديث في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: «جاهِدوا المشرِكينَ بأموالِكُم وأنفسِكُم وألسنتِكُم» صحيح أبي داود، والتحريض أنواع؛ بالنفس والمال واللسان، وقد اجتمعت كلها في النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة رضوان الله ثم التابعين من بعدهم إلى يومنا هذا يتوارثها المجاهدون الأبطال على مر العصور والأزمان، ومنهم:
*أبو بكر الصديق:
مواقفه أكثر من أن تحصى، وأبرزها تحريضه على القتال يوم الردة حين امتنعت بعض القبائل عن الزكاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لَمَّا تُوُفِّيَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكانَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، وكَفَرَ مَن كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: كيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وقدْ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فمَن قالَهَا فقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحِسَابُهُ علَى اللَّهِ فَقالَ: واللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بيْنَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، فإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا، قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: فَوَاللَّهِ ما هو إلَّا أنْ قدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ” صحيح البخاري.
*حسان بن ثابت:
يحرض المسلمين بالشعر ويهجو العدو، قَالَ له رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ قُرَيْظَةَ: «اهْجُ المُشْرِكِينَ؛ فإنَّ جِبْرِيلَ معكَ» والحديث في صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهْجُوا قُرَيْشًا؛ فإنَّه أشَدُّ عليها مِن رَشْقٍ بالنَّبْلِ».
*خالد بن الوليد:
يخوض مائة معركة؛ في واحدة منها تكسرت في يده تسعة أسياف، ولما حضرته الوفاة على فراشه قال: “لقد لَقِيتُ كذا وكذا زَحفًا، وما في جَسَدي شِبرٌ إلَّا وفيه ضربةٌ بسَيفٍ أو رميةٌ بسَهمٍ أو طعنةٌ برُمحٍ؛ فها أنا أموتُ على فِراشي حَتْفَ أنفي كما يموتُ العِيرُ! فلا نامت أعيُنُ الجُبَناءِ”، ترثيه أخته فتقول:
تسعون معركة مرت محجلة من *** بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها *** وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم *** ولا رمى الروم إلا طاش راميها
*عمرو بن الجموح:
رغم عرجه الشديد يصر على دخول المعركة، ومعلوم أن المعارك تحتاج رجالًا أشداء أصحاء وفي جهاده صعوبة ومشقة، يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم فيصر عليه بقوله: “فو الله إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ” فكان جهاده بنفسه رغم عذره محرضًا لغيره من الأصحاء.
*أبو بصير الثقفي:
أسلم ودخل المدينة بعد صلح الحديبية فرده صلى الله عليه وسلم إلى قريش كما في بنود الصلح، فهرب من المشركين وقتل منهم، وشكل عصبة تغير على عير قريش ويأخذونها، فقال عنه صلى الله عليهم وسلم: «وَيْل أمِّه، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد» رواه البخاري، فكان سببًا في تحريض الكثيرين ليدخلوا في الإسلام ويهربوا من بطش قريش وتغيير بنود اتفاق صلح الحديبية.
*الزبير بن العوام:
يقول رضي الله عنه: “نحن أمة لا نموت إلا قتلى فما لي أرى الفرش وقد كثر عليها الأموات”.
*خالد القسري:
خطب بالناس: “ضحوا تقبل الله أضاحيكم أما أنا فمضح بالجعد بن درهم”، والجعد هو مُؤسِّسُ مَذهَبِ الجَهْميَّةِ أوَّلُ من أظهَر مقالةَ التَّعطيلِ للصِّفاتِ، وأخذَها عنه الجَهْمُ بنُ صَفوانَ وأظهَرها؛ فنُسِبَت مقالةُ الجَهْميَّةِ إليه، قال ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: “كان أوَّلَ من أظهر إنكارَ التَّكليمِ والمخالَّةِ الجَعْدُ بنُ دِرهَمٍ في أوائلِ المائةِ الثَّانيةِ، وأمر عُلَماءُ الإسلامِ كالحسَنِ البَصريِّ وغَيرِه بقَتلِه”، وهذا تحريض واضح للانتقام من كل من ينتقص من دين الله.
*عمر المختار:
جاوز السبعين من عمره وهو يجاهد الطليان وأسر في معركة، وقف أمامهم قبيل إعدامه قائلًا كلمات كتبت بماء الذهب: “نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي”.
*يوسف العظمة:
رفض دخول الفرنسيين دمشق دون مقاومة مع أن النتيجة الحتمية لصدهم هي الهزيمة والموت الحتمي، وقال: “هل يكتب في التاريخ أن العدو دخل دمشق ماشيًا دون مقاومة!!”.
*بعض مخاطر التحريض:
-التحريض دون عمل مع القدرة هباء لا نفع منه؛ لأن الأظهر والأشهر بين الناس هو التحريض باللسان، لكن الأشد أثرًا وفاعلية هو التحريض بالنفس والمال، كما قال الشاعر:
نبني من الأقوال قصرا شامخًا ** والفعل دون الشامخات ركامُ
-التحريض بالذم أو الكذب أو سفك الدم الحرام؛ وهذا أشد وأخطر ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلىَ أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ» أخرجه الطبرانيُّ وصححه الألباني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
-التحريض دون عمل مع القدرة موجب لغضب الله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[الصف: 2-3]، جاء في تفسير السعدي رحمه الله: “فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}”.
وأخطر التحريض أن نأمر بمعروف فلا نأتيه وننهى عن منكر ونأتيه؛ كما ورد في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاءُ بالرجُلِ يَوْمَ القيامَةِ فيُلْقَى في النارِ، فتَنْذَلِقُ أقتابُهُ، فيدورُ بها في النارِ، كما يدورُ الحمارُ برحاهُ، فيُطِيفُ بِهِ أهلُ النارِ، فيقولونَ: يا فلانُ! ما أصابَكَ؟ ألم تكنْ تأمرُنا بالمعروفِ وتنهانا عنِ المنكَرِ؟ فيقولُ: بلَى، قَدْ كنتُ آمرُكُم بالمعروفِ ولَا آتِيهِ، وأنهاكُم عَنِ المنكَرِ وآتِيهِ».
فما أجمل الاتزان والمساواة في الأمور كلها، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة: 143]، وأجمل منه العدل بالقول والعمل والعبادة قال تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[المائدة: 8]، فلا نكون من أهل النفاق أو الجفاء أو التشدد، ونساوي بين أقوالنا وأعمالنا وعبادتنا.
اللهم اجعلنا من المجاهدين الصادقين في القول والعمل والعبادة، اللهم سدد خطانا واجعل أعمالنا وأقوالنا خيرًا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.