وجوب قسمة الغنائم المنقولة عند ابن تيمية | الركن الدعوي | مجلة بلاغ العدد التاسع عشر جمادى الأولى 1442هجرية
الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة تزكي الإنسان وترقيه وتراعي كوامن نفسه وخصائص طبعه، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، ولذا فلا غرابة أن تكون أحكام الفقه المتعلقة بالمعاملات المالية أحكاما مستوعبة لما فيه صلاح وإصلاح البشر في كل زمان ومكان.
وإن من المسائل التي اعتنت الشريعة الإسلامية بأحكامها مسألة الغنائم، فجاءت سورة في القرآن باسم سورة الأنفال، ووردت آيات عديدة تتحدث عن الأنفال والغنائم والفيء، وحفلت السنة النبوية بمئات الأحاديث التي تشرح عمليا تفاصيل تلك الأحكام.
ولأهمية الغنائم في تقوية الجهاد وتثبيت المجاهدين، ولدقيق أحكامها وتفصيلات فروعها وما يتعلق بها كالفيء والجُعل والرضخ والنفل والسلب والخُمس وأربعة الأخماس ومؤنة الغنيمة، فإنها تحتاج اجتهادا دقيقا ونظرا عميقا، وكان المرجع في أمورها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لخليفته أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهكذا كان يتصدر الكلام في مسائلها أكابر الفقهاء في كل عصر؛ لعظم ما يترتب عليها من مصالح الإسلام والمسلمين.
وفي عصرنا الحاضر ورغم أن الجهاد اليوم جهاد دفع، إلا أن وجود الغنائم يقتضي البحث عن مصارفها، فليس كون الجهاد جهاد دفع يعني إهمال أحكام القتال والأسرى والعهود والغنائم..، خاصة وأن الغنائم التي أُخذت في السنين العشر الأخيرة في بعض البلدان كليبيا وسوريا والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها كانت تعادل ميزانيات دول أحيانا، وهذا مما يزيد أهمية دراسة فقه الغنائم خاصة مع بُعد العهد عن الصدر الأول، وبُعد أكثر الأمة عن الجهاد، وبُعد أكثر الفقهاء عن دراسة نوازله، وبُعد أكثر المختصين عن تنزيل أحكامه على وقائعه، وما ترتب على إهمال بعض الناس لفقه الغنائم من أمور أضرت كثيرا بمعركة الإسلام ضد أعدائه.
* ولأن نوازل الجهاد المعاصر كثيرة وتحتاج إلى مزيد فقه وبصيرة فقد استسهل بعض الناس قولا أدى لإهمال النظر في فقه المغانم وأصولها ومقاصدها فترتبت على ذلك أخطاء جسيمة، وذلك أنه راج قول بأن ابن تيمية رحمه الله يرى عدم وجوب قسمة الغنائم وأن للإمام أن يوزعها أو يمنع توزيعها حسبما أدى إليه اجتهاده.
ولأن ابن تيمية رحمه الله هو من أهم مصادر الفقه الحركي المعاصر فقد راج هذا القول في عدد من الحركات المجاهدة.
لذا كان هذا البحث الذي ينفي نسبة هذا القول لابن تيمية رحمه الله، بل ويؤكد إنكار ابن تيمية رحمه الله له، مع التنبيه على أنه ليس من مقصود هذا البحث تفصيل مسائل الغنائم المعاصرة وما يقسم منها وما لا يقسم، والتعامل مع غنائم المرتدين وغنائم الكفار الأصليين، وما كان مالا عاما للمسلمين قبل وما لم يكن، وتسليح المعارك، وضرورات الجهاد، وديوان الجند، بل المقصود هو حث الفقهاء المعاصرين على مزيد دراسة النوازل وتفصيل أحكامها في كل واقع، وعدم تعميم قول ضعيف ينسف فقه الغنائم وأحكامه ومقاصده جملة وتفصيلا.
* الشبهة التي منها نُسب لابن تيمية رحمه الله القول بعدم وجوب قسمة الغنائم وأن للإمام أن يوزعها أو يمنع توزيعها:
أصل الشبهة والخطأ في فهم كلام ابن تيمية رحمه الله هو نقل أجزاء مبتورة من كلامه رحمه الله وعدم قراءة كامل الكلام وعدم جمع بقية كلامه في المسألة، ومن أمثلة النقل المبتور نقل قوله رحمه الله في تفسيره لسورة الإخلاص: (والنبي صلى الله عليه وسلم منَّ على أهل مكة، فإن الأسير يجوز المنُّ عليه للمصلحة وأعطاهم مع ذلك ذراريهم وأموالهم، كما منَّ على هوازن لما جاؤوا مسلمين بإحدى الطائفتين: السبي أو المال، فاختاروا السبي، فأعطاهم السبي وكان ذلك بعد القسمة، فعوَّض عن نصيبه من لم يرض بأخذه منهم، وكان قد قسم المال فلم يرده عليهم، وقريش لم تحاربه كما حاربته هوازن، وهو إنما منَّ على من لم يقاتله منهم كما قال: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» فلما كف جمهورهم عن قتاله وعرف أنهم مسلمون أطلقهم ولم يغنم أموالهم ولا حريمهم ولم يضرب الرق لا عليهم ولا على أولادهم بل سماهم الطلقاء من قريش، بخلاف ثقيف فإنهم سموا العتقاء فإنه أعتق أولادهم بعد الاسترقاق والقسمة، وكان في هذا ما دل على أن الإمام يفعل بالأموال والرجال والعقار والمنقول ما هو أصلح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر فقسمها بين المسلمين وسبى بعض نسائها وأقر سائرهم مع ذراريهم حتى أُجلوا بعد ذلك فلم يسترقهم، ومكة فتحها عنوة ولم يقسمها لأجل المصلحة..
ولو فتح الإمام بلدا وغلب على ظنه أن أهله يسلمون ويجاهدون جاز أن يمنَّ عليهم بأنفسهم وأموالهم وأولادهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة فإنهم أسلموا كلهم بلا خلاف بخلاف أهل خيبر فإنه لم يسلم منهم أحد فأولئك قسم أرضهم؛ لأنهم كانوا كفارا مُصرِّين على الكفر، وهؤلاء تركها لهم لأنهم كلهم صاروا مسلمين، والمقصود بالجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم ليتألفهم على الإسلام فكيف لا يتألفهم بإبقاء ديارهم وأموالهم..، فهذا كله بذل وعطاء لأجل إسلام الناس وهو المقصود بالجهاد.
ومن قال: إن الإمام يجب عليه قسمة العقار والمنقول مطلقا فقوله في غاية الضعف مخالف لكتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر وليس معه حجة واحدة توجب ذلك؛ فإن قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر تدل على جواز ما فعل لا تدل على وجوبه إذ الفعل لا يدل بنفسه على الوجوب، وهو لم يقسم مكة ولا شك أنها فتحت عنوة، وهذا يعلمه ضرورة من تدبر الأحاديث، وكذلك المنقول: من قال: إنه يجب قسمه كله بالسوية بين الغانمين في كل غزاة فقوله ضعيف، بل يجوز فيه التفضيل للمصلحة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل في كثير من المغازي. والمؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم خيبر فيما أعطاهم قولان: أحدهما أنه من الخمس والثاني أنه من أصل الغنيمة وهذا أظهر. فإن الذي أعطاهم إياه هو شيء كثير لا يحتمله الخمس، ومن قال: العطاء كان من خمس الخمس، فلم يدر كيف وقع الأمر ولم يقل هذا أحد من المتقدمين، هذا مع قوله: «ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم»، وهذا لأن المؤلفة قلوبهم كانوا من العسكر ففضلهم في العطاء للمصلحة كما كان يفضلهم فيما يقسمه من الفيء للمصلحة. وهذا دليل على أن الغنيمة للإمام أن يقسمها باجتهاده كما يقسم الفيء باجتهاده إذا كان إمام عدل قسمها بعلم وعدل ليس قسمتها بين الغانمين كقسمة الميراث بين الورثة وقسمة الصدقات في الأصناف الثمانية..، فالغنائم أبيحت لمصلحة الدين وأهله فمن كان قد نفع المجاهدين بنفع استعانوا به على تمام جهادهم جعل منهم وإن لم يحضر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون يد واحدة يسعى بذمتهم أدناهم ويرد متسريهم على قاعدهم» فإن المتسري إنما تسرى بقوة القاعد فالمعاونون للمجاهدين من المجاهدين، ولبسط هذه الأمور موضع آخر) “مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج 17 ص491- 496”.
* رد هذه الشبهة:
يتبين مقصود ابن تيمية في هذا النقل بتوضيح أمور؛ منها:
1- ابن تيمية رحمه الله أنكر في كتبه قول ابن سباع الشافعي المعروف بالفركاح بأن الغنائم للإمام يتصرف فيها وفق ما يراه، وجعله قولا مخالفا للإجماع، فقال رحمه الله: (عارضهم أبو محمد بن سباع الشافعي فأفتى: أن الإمام لا يجب عليه قسمة المغانم بحال، ولا تخميسها، وأن له أن يفضل الراجل، وأن يحرم بعض الغانمين، ويخص بعضهم، وزعم أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي ذلك، وهذا القول خلاف الإجماع) “مجموع الفتاوى، لابن تيمية، ج 29 ص317”.
2- العلماء يفرقون بين حكم قسمة العقار كالدور والأراضي وقسمة المنقول كالنقود والحيوانات، فوقع الخلاف في قسمة العقار فجوز قسمته جمهور الفقهاء من غير وجوب وأوجب قسمته بعضهم، وهو خلاف معروف في كتب الفقه، فقول ابن تيمية: (من قال: إن الإمام يجب عليه قسمة العقار والمنقول مطلقا، فقوله في غاية الضعف) فيه رد قول من سوى بين العقار والمنقول وأوجب قسمتهما مطلقا في كل حال؛ فهذا هو القول الذي وصفه بأنه في غاية الضعف، ولكنه لا يعني أنه لا تجب قسمة المنقول.
3- العلماء يوجبون قسمة المنقول، ولكنهم يختلفون في إشراك بعض الناس في الغنيمة أو تفضيل بعضهم لمصلحة شرعية على بقية الغانمين، فقول ابن تيمية: (وكذلك المنقول؛ من قال: إنه يجب قسمه كله بالسوية بين الغانمين في كل غزاة، فقوله ضعيف) هو رد على من أوجب قسمة كل المنقول بالسوية بين الغانمين بلا مراعاة لبعض المصالح التي تقتضي الزيادة لبعضهم، فهذا هو القول الذي وصفه بأنه ضعيف، ولكنه لا يعني أنه لا تجب قسمة المنقول، يدل على ذلك تكملة الجملة السابقة من كلام ابن تيمية؛ حيث إن نص الكلام هكذا: (من قال: إنه يجب قسمه كله بالسوية بين الغانمين في كل غزاة، فقوله ضعيف؛ بل يجوز فيه التفضيل للمصلحة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل في كثير من المغازي) فالكلام في كيفية تقسيم غنيمة المنقول لا في أصل وجوب تقسيمها.
4- وابن تيمية يتحدث عن اجتهاد الإمام في كيفية القسمة لا اجتهاده في هل تقسم أم لا؛ فقول ابن تيمية: (وهذا دليل على أن الغنيمة للإمام أن يقسمها باجتهاده كما يقسم الفيء باجتهاده إذا كان إمام عدل قسمها بعلم وعدل، ليس قسمتها بين الغانمين كقسمة الميراث بين الورثة وقسمة الصدقات في الأصناف الثمانية) فيه تشبيه الغنيمة بالفيء بجامع اجتهاد الإمام في قسمة كل منهما، لا تشابههما في كيفية القسمة.
5- وكذلك يرى ابن تيمية أن الإمام يجمع الغنيمة من الكفار لتوزيعها، وله أحيانا أن يجتهد حسب مصلحة الإسلام في المنِّ على الكفار بأموالهم أو ببعضها فلا يجمعها ولا تجري فيها أحكام الغنائم، فقال: (ولو فتح الإمام بلدا وغلب على ظنه أن أهله يسلمون ويجاهدون جاز أن يمنَّ عليهم بأنفسهم وأموالهم وأولادهم).
6- ابن تيمية تطرق لهذا الكلام المجمل في تفسيره لسورة الإخلاص، وبين أن بسط هذا الكلام له موضع آخر، فقال في آخر هذا الكلام: (ولبسط هذه الأمور موضع آخر) وقد بسط ابن تيمية هذه الأمور في مواضع كثيرة صريحة، فلا يُتعلق بالمشتبه من كلامه ويُترك الواضح.
7- وهذا نقل لأحد المواضع التي وضح فيها ابن تيمية هذا الكلام، وهو في كتابه السياسة الشرعية عند شرحه للأموال السلطانية، فبدأ بتعريف الغنائم وبيان أحكامها، وأكد في هذا الموضع على:
أ- وجوب قسمة غنيمة المنقول على الغانمين.
ب- تجويزه للإمام أن يفضل بعض الغانمين لمصلحة دينية.
ت- توضيحه أنه يشرح ويرجح قول الحنفية والحنابلة ولا يأتي بقول يخالفهم في ذلك.
ث- أن الإمام إذا كان يجمع الغنيمة ويقسمها فيحرم الغلول، وأما إذا لم يأذن بتقسيم الغنائم فيجوز للمجاهد أن يأخذ مقدار نصيبه من الغنيمة بلا إذن من الإمام.
ج- أن من ادعى أن للإمام أن يفعل في الغنيمة ما شاء وأن يمنع توزيعها فقوله فيه تطرف، ودين الله وسط.
قال ابن تيمة: (الواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة. وهم الذين شهدوها للقتال قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويجب قسمها بينهم بالعدل فلا يحابى أحد لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله..، وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية ودولة بني العباس لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر؛ لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية..، وهذا النفل قال العلماء: إنه يكون من الخمس. وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس؛ لئلا يفضل بعض الغانمين على بعض. والصحيح أنه يجوز من أربعة الأخماس وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية لا لهوى النفس، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة. وهذا قول فقهاء الشام وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم..، وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها لم يجز لأحد أن يغل منها شيئا.. وأما إذا لم يأذن أو أذن إذنا غير جائز: جاز للإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة متحريا للعدل في ذلك. ومن حرم على المسلمين جمع الغنائم والحال هذه وأباح للإمام أن يفعل فيها ما يشاء؛ فقد تقابل القولان تقابل الطرفين ودين الله وسط) “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، ص29- 30”.
= فمنشأ الخطأ في فهم كلام ابن تيمية رحمه الله هو في الخلط بين حكم تقسيم العقار والمنقول؛ فيرى ابن تيمية جواز قسمة العقار لا الوجوب، لكنه يرى وجوب قسمة المنقول، وكذلك الخلط في حكم تفضيل الإمام بعض الغانمين؛ فيرى ابن تيمية جواز تفضيل بعضهم من أربعة أخماس الغنيمة، لا من الخمس فقط، وكذلك الخلط بين حكم جمع الغنائم المنقولة وحكم توزيعها، فيرى ابن تيمية جمعها وتوزيعها وللإمام أن يمنَّ على الكفار بأموالهم تألفا لهم فلا يجمعها، ومن تتبع كلامه واستقصاه تبين له الأمر.
والحمد لله رب العالمين.
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد التاسع عشر جمادى الاولى 1442 للهجرة _ كانون الثاني 2021 للميلاد اضغط هنا
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد التاسع عشر اضغط هنا