قَرَابِينُ مَعْبَدِ الذَّاتِ | كتابات فكرية | مجلة بلاغ العدد التاسع عشر جمادى الأولى 1442هجرية
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
القُربانُ هو ما يُتَقربُ بهِ، قد يكون تقرباً إلى الله وقد يكون إلى ما دونه وسواه، وتتعدَّد أنواع القرابينِ، فقد يكون القربان مادياً عملاً أو شيئاً، وقد يكون معنوياً.
عند استحضار المعنى الأساس للقربان يسيطر على الذِّهنِ تصورُ التَّقرُّبِ إلى الغير، لكنَّ العاقلَ المكلَّفَ المُبتلى قد تعظُمُ عليهِ نفسهُ، بباطلٍ واضحٍ أو باطلٍ تزيَّا بحقٍّ، فلا يرى غير نفسه فيمشي في سبيلها ويسعى في رضاها، يقدِّمُ بين يدي عبوديتهِ لذاتهِ وهواهُ أنواعاً وأشكالاً من القرابين.
هذا المعنى يتَّضح من أول معصيةٍ ارتُكبت وكانت في محراب عبودية إبليس لذاته، فلقد دفعه كِبره وتعظيمه لذاته إلى أن يعصي أمر الله عز وجل، فلقد قدَّم الخبيث طاعته لله قرباناً لذاته المتكبِّرة، {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف : 12].
ثم كانت المعصية الثَّانية من باب تقديم مصالح الذَّات والسَّعي في رضاها، حيث أغرى إبليس أول البشر بالخُلد والملكِ كي يعصيا ويأكُلا من الشَّجرة، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20 – 21]، لكنه لم ينجح في جرِّهِما إلى تقديسِ الذَّات كِبرا وعُلوّاً، فأعان الله آدم عليه السَّلام على التَّوبة العاجلة فتاب عليه وعلى زوجه، أما الخبيث فمنعه كبره، فما زال يتقلب في المعصية إلى قيام الساعة.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة : 27]، يُروى في التفسير أن قابيل قدَّم زرعاً غثاً أعجبته منه سنبلةٌ ففركها وأكلها، وقدَّم هابيل كبشاً من أحسن غنمه، فتقبل الله قربان هابيل لا لما تقدَّم، بل لأن هابيل كان على الحقِّ، وإنما يتقبَّل الله من المتَّقين، وإنَّ قابيل قدَّم قربانه لا طاعةً لله فيما أمر، فأمره معروفٌ سلفاً أن يزوِّج أخته لهابيل، بل قدَّم القربان يزاحم أخاه ليرضي ذاته ويسعى في هوى نفسه وملذاته، فلم ينجح ولم يفلح، ثم قدَّم أخاه قرباناً لترضى وتتفرد هذه الذَّات الظالمة.
وكذا يمضي النَّاس بين مقدِّمٍ قرابين الطَّاعة لله عزَّ وجلَّ، ومقدِّمٍ قرابين الهوى في معبد الذَّات، وتأخذ الذَّات هذه مسالك وطرقاً كثيرةً ترضي هواها، وتأخذ أشكالاً وأنواعاً، فمسالك الطواغيت، والأصنام، والأديان المختلطة، والدُّنيا بما فيها من فسادٍ وباطلٍ من متبوعٍ وتابعٍ.
وفي معبد الذَّات قلَّةٌ يعلنون المقصد من القربان والمطلوب من تقديمه، ويورِّي الأكثرون ويغلِّفون مقاصدهم بغلاف التَّبرير والتَّجميل، فمِنْ مستدركٍ عائدٍ عن غِيِّه، ومِنْ متمادٍ يقدِّم القربان تلو القربان، يهون عليه الرخيص والغالي ثم الأغلى ليحصِّل ما تهوى نفسه الطاغية، ويعلن أو يخفي ويبرِّر.
وإنما تكبُر وتعظُم القرابين في معبد الذَّات شيئاً فشيئاً حتى يُوبِقَ المرءُ نفسه، وهذا ما حصل مع الراهب برصيصا، الذي منَّاه الشَّيطان ووعده أن يخلِّصه مما أوقعه فيه مقابل أن يُوْمئ بالسجود له، ففعل ذلك ومات عليه، والعياذ بالله، وكذا قدَّم بلعام علمه وتقواه قرباناً في معبد ذاته، عندما منَّاها القوم بالسِّيادة والوجاهة، وكذا يفعل أمثالهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإن هذه الذَّات كلما عظمت عند صاحبها ومن يرتبط به برباط المصلحة، هانت عند غيرهم من الخلق وهم أكثر، فيقدِّم هذا المنبتُّ قرابين أكثر ليحافظ على علوِّ ذاته، ويصنع بالتَّضحية بالحقِّ واجتراح الباطل، وبالتَّضحية بالعدل واجتراح الظُّلم، وبالتَّضحية بأهل الصَّلاح والخير وجمع أهل الفساد والشَّرِّ، يصنع لنفسه هالةً وهميَّة من الأهميَّةِ والتَّقديسِ تقوم على التزلُّفِ والنِّفاقِ والخوف.
الأسماء والأمثلة كثيرةٌ كثيرةٌ، منهم من كفر بالله أو أشرك الشِّرك الأكبر، ومنهم من أشرك الشِّرك الأصغر، فلم ينقض أساس الدِّين معلناً، وما يعصي هؤلاء أمر الله عز وجل إلا طاعة لأنفسهم واتِّباعاً لظنونهم وما تهوى الأنفس، وتعمل التَّبريرات عملها في خلط الخبيث والطيِّب، ويعمل الإعجاب بالخبيث واستسهاله عمله في نفس من تهون عليه المبادئ العظيمة لهذا الدِّين العظيم.
الإسلام نظام حياةٍ شاملٍ، فيه تزكيةٌ للنفس وحكمٌ وإعمارٌ للأرض، ولئن قدَّم الحكَّام على مرِّ تاريخه القرابين ليحافظوا على ذواتهم وعلِّوها، فلقد قدَّم بعضهم القليل وقدم الآخرون الكثير.
وللمفارقة، قدَّم صلاح الدَّين الأيُّوبيُّ ومن معه قرابين التَّضحية في سبيل الله ليحرِّروا بيت المقدس، وبعدها بسنواتٍ قدَّم الكامل بن العادل الأيُّوبيُّ بيت المقدس للصَّليبيِّين قرباناً في معبد ذاته الطَّامعة بالمُلك والدنيا، ثم بعد انهيار آخر دولةٍ للإسلام قدَّم حكام الدويلات الإسلام وأرض الإسلام قرابين ليرضوا الدول الكافرة الكبرى، لكي ترضي ذواتهم الطَّاغية بشيءٍ من السُّلطة والامتيازات.
وبقي المسلمون يجاهدون لاستعادة الإسلام بدولته، ليحكم الدُّنيا بشريعته، وقامت من أجل ذلك الثورات وتشكَّلت الجماعات وتأسَّست الحركات والتَّنظيمات، يا لها من غايةٍ عظيمةٍ تُقدَّم من أجلها القرابين والتَّضحيات، وهي في سبيل الله العظيم إن صدقت النِّيَّة وصلح العمل، لكن ليس كل عاملٍ يعلن العمل لله يصدق ويحسن، وكلما طال الطريق وبَعُدَت الشُّقَّة تخفَّف عددٌ من العاملين من المبادئ واختزلوا الأهداف، وابتعدوا وربما تخلَّصوا من الصُحبة المحافظة “الثَّقيلة”.
هذه المبادئ والأهداف شعاراتٌ تُستَحضر وتُغيَّب، فالشُّورى عائقٌ في نظر المستبدِّ، العدل يؤدي إلى محاسبة الفاسد ومن معه، الحقُّ يصدع رأس من يؤمن ببعضه، النَّاصحون المزعجون يقولون: اتق الله، لمن يظن أنه أهل التقوى، رأي المسلمين الذين هم شهداء الله في أرضه، وتأتي التَّبريرات التي تقترن بالتَّنازلات وترك الواجبات، والافتراء وملاحقة الصَّادعين بالحقِّ السَّاعين به، والحكم على المسلمين بأنهم كفارٌ يستباحون ويستتابون أو رعاعٌ منقادون، سجن المصلحة، قتل المصلحة، ظلم المصلحة، مصلحة هذه الذَّات الآثمة.
هذه القرابين في معبد الذَّات المتغيِّرة المتكيِّفة، تخدم الحقَّ الموهوم والجهاد المزعوم، فالحقُّ مقترنٌ بهذه الذَّات وبها يُعرف في نظر صاحبها، والتَّبرير حاضرٌ دائماً، وفي الغالب يعلمون أن هذا الفعل محرمٌ ومخالف لما أمر الله، لكنهم يبرِّرون بمتطلَّبات سياستهم وفهمهم، وكل ذلك في سبيل الله زعماً!، فالغاية عندهم تبرِّر الوسيلة، وإنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، ولا يخرج نظام الحقِّ والعدل من رحم الباطل والظلم، ولكن عابدي ذواتهم يكابرون.
يذكرني هذا المقام بالسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي -رحمه الله-، الذي قال عندما عُرضت عليه الأموال ليمتنع عن هدم معبود الهنود الصنم الأكبر (سومنات): “إني فكَّرْتُ في الأمر الذي ذُكِرَ فرأيتُ أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصَّنم؟ أَحَبُّ إليَّ من أن يُقال: الذي ترك الصَّنم لأجل مالٍ يناله من الدنيا”، والمُلَّا محمد عمر مجاهد -رحمه الله-، الذي قرَّب هدم صنم بوذا قرباناً إلى الله عز وجل، وقال رافضاً عروض الدول لشرائه وافتدائه: “لأن ينادى عليَّ يوم القيامة أين عمر هادم الأصنام، خير من أن ينادى أين عمر بائع الأصنام”، والرَّجلين من أهل أفغانستان الذين رفضوا أن يُسلموا المسلمين لأعدائهم، وتحمَّلوا حرباً من أطول وأعنف الحروب في التاريخ تقرُّباً إلى الله عزَّ وجلَّ وصبراً لوجهه، ولم يقدِّموا مبادئهم ولا إخوانهم قرباناً ليَسلموا بإرضاء الحاقدين على الإسلام والمسلمين، فأثابهم الله ثباتاً ونصراً وتمكيناً ومكانةً في القلوب.
فشتان بين من قرَّب القرابين في محرابِ العبوديَّة لله عزَّ وجلَّ، ومن قرَّب القرابين في محراب العبوديَّة للذَّات، وهيهات يُتقبَّل الباطل سبباً إلى الحقِّ والفساد سبباً إلى الصَّلاح، وهيهات يُثاب من ابتغى النَّصر والتَّمكين بغير رضى الله، هيهات.
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد التاسع عشر جمادى الاولى 1442 للهجرة _ كانون الثاني 2021 للميلاد اضغط هنا
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد التاسع عشر اضغط هنا