انقلاب تونس والفصل 80 || كتابات فكرية || مجلة بلاغ العدد ٢٧ – المحرم ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: خالد شاكر
دعم حزب النهضة التونسي والمحسوب على ما يسميه بعض الناس “الإسلام السياسي” قيس سعيد في انتخابات الرئاسة التونسية حتى فاز بها، وحقق حزب النهضة النسبة الأكبر في الانتخابات البرلمانية التونسية مما جعل رئاسة البرلمان لرئيس الحزب راشد الغنوشي، وأصبحت لهم حصة كبيرة في التشكيلة الوزارية الحكومية، وبعد كل ذلك وبجرة قلم انقلب قيس سعيد عليهم، وجمد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، واستفرد بالحكم، وطرد المحسوبين على حزب النهضة في عامة المواقع المهمة في الدولة…
وأعلن الانقلابي قيس سعيد أنه يستند في ذلك إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، وأنه -وهو بزعمه رجل القانون- يسير وفق الإجراءات الدستورية.
وبالتأكيد فإن المشهد واضح والهدف جلي، وهو انقلاب الثورات المضادة ضد مفرزات الربيع العربي، وحرب الدولة العميقة وما خلْفها من قوى دولية ومنظومة عالمية للإسلام وما له صلة به عبر التدرج بمحاربة فئة من جماعاته ثم فئة حسب ظروف كل بلد وموقع التيارات الإسلامية بها من معادلات الصراع المتعددة.
وأمام هذا الانقلاب التونسي السريع والذي لم يلق معارضة قوية من المنقلَب عليهم، فإنه من المفيد التأمل في دلالات استناد هذا الانقلاب على الفصل 80 من الدستور التونسي:
1 – ما هو الفصل 80:
هو مادة في الدستور التونسي تتعلق بحالة وجود خطر داهم في البلاد وتنص على أنه: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة. وبعد مضي ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير وفي كل وقت بعد ذلك يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه، وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما. وينهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب”.
2 – هل التزم قيس سعيد بالفصل 80:
لم يلتزم قيس سعيد بالدستور الذي أقسم على احترامه ولا بالمادة التي يزعم استناده إليها، فهي مادة تتعلق “بالخطر الداهم المهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها..” وليست متعلقة بوجود خلاف بين الرئيس والحكومة، فالخلاف بين الرئيس والحكومة له فصل في الدستور هو الفصل 99 والذي ينص على أنه: “لرئيس الجمهورية أن يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها مرتين على الأكثر خلال كامل المدة الرئاسية، ويتم التصويت بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب..، وفي حالة تجديد المجلس الثقة في الحكومة في المرتين يعتبر رئيس الجمهورية مستقيلا”.
ثم إن الفصل 80 يحتم استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب، والاستشارة تعني بداهة عرض الخطر والإجراءات التي يريد اتخاذها وسماع أقوالهم في تلك الإجراءات، وهو ما لم يحدث في الحالة التونسية.
ورغم أن هذا الفصل 80 أتاح للرئيس اتخاذ تدابير استثنائية إلا أنه منعه من تجميد البرلمان أو لوم الحكومة ونص على أنه “يعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”، فهذا تخصيص وتقييد للتدابير التي سمح بها الدستور في تلك الحالة، والخاص يقيد العام كما هو معروف.
3 – حقيقة مكانة الدستور في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة:
تحاول الأنظمة المسماة ديمقراطية وضع هالة من التقديس على دساتيرها، وتدندن كثيرا حول الدساتير وأهميتها وضرورتها، وينشغل كثير من الأحزاب والجماعات والطوائف بمسألة الدستور ومواده وتطول المناقشات حوله، وفي الواقع فإن النظام الديمقراطي في أصله لا يقدس الدستور ولا كبير مكانة له عنده؛ لأن الدستور عنده هو عمل بشري غايته القصوى تحقيق مراد الشعب، على تنوع في آلياتهم في معرفة مراد الشعب هذا، وبما أن أمزجة الشعوب تختلف، بل ويختلف مزاج الشعب الواحد من يوم لآخر، وتتباين الأنظمة الحاكمة للدول الديمقراطية تباينا فجا من يوم لآخر، فإن الدساتير تتبدل باستمرار، فالتعظيم الديمقراطي للدستور ليس لما يحويه من مبادئ وأسس، بل هو تعظيم مؤقت وصوري يزول بزوال الدستور وإقرار دستور آخر، سواء عبر انتخابات شعبية أو عبر تعليق العمل بالدستور القديم وإنشاء دستور جديد، وكله -تحت ضغط القوة والمال- باسم الشعب!.
وكذلك في زمن تعظيم النظم الديمقراطية للدستور المقر في مرحلة ما في بلد ما، فإن هذا الدستور يخضع في تفسيره لأهواء أفراد معدودين من الشعب كالمحكمة الدستورية مثلا حسب ما تمليه عليه أهواؤهم؛ فليس عندهم مرجع يحكم ويضبط تفسيراتهم، خاصة وأن كثيرا من دساتيرهم تلك تحوي ألفاظا عامة لا تحديد لها، وتحوي تناقضات بين مواد الدستور، وتحوي مواد صورية لا مضمون عملي لها، وتحوي مواد كُتبت بلا إحكام قبل سنين ولم تعد مناسبة لتغيرات مجتمعها..
ونتيجة لذلك يتكرر ما ذكره الخبيث المنقلب قيس سعيد أيام كان مجرد سياسي عابر: أن يأكل الحمار الدستور، فيصبح الدستور نصوصا لا واقع لها يتلاعب بها من شاء حسب قوته وسيطرته، ثم دارت الأيام حتى حان الوقت الذي يؤدي فيه قيس سعيد مهمة الحمار في أكل الدستور!!
4- بين دستور الثورة التونسية واللجنة الدستورية السورية:
ظلت النخب التونسية التي قبِلت بالدخول في لعبة الديمقراطية زمنا طويلا تكتب الدستور التونسي، وتتناقش حوله، ظنا منهم أن فيه طوق نجاة، حتى جاءت لحظة أصبحت جهودهم حبرا على ورق، ولم تنفعهم مؤتمراتهم ونقاشاتهم، ومثل هذا حصل في ليبيا ومصر؛ حيث كان الصخب عاليا لإعلان دستور يقال عنه “ثوري” ثم أكلت الحمير تلك الدساتير، فإذا كانت الدساتير التي كانوا يعتبرونها إحدى إفرازات “الثورة” في تلك البلاد لم تحم الشعوب من سطوة الثورات المضادة، فما بالنا اليوم في سوريا وبعض الواهمين أو المتآمرين يعملون على إعلان دستور توافقي بين “النظام” و “المعارضة” بين “الثور” و”الثوار”!! ظنا منهم أنهم بذلك يخطون خطوة في طريق مستقبل البلاد!، نعم إنها خطوة في الطريق، ولكنه طريق التآمر على الثورة والجهاد وبيع التضحيات وذبح الأمة بسكين بارد سكين الكفر الدولي والوثنية الديمقراطية.
أسأل الله أن يفشل كيدهم، وأن يحبط مكرهم وتآمرهم، وأن يهدي عباده الصالحين للصراط المستقيم، صراط الإسلام الشامل كافة، وأن يجنبهم طرق الشيطان وجنده.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٧ المحرم ١٤٤٣ هـ