الخاسر – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٤٢ – ربيع الثاني ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

وسط عدد من البيوت الطينية المتناثرة في البلدة يقف بصلف وغرور قصر ضخم أحاط به سور عريض يتوسطه باب حديدي رهيب وكأنه يصور لك ملامح القسوة والعجرفة التي يصطبغ بها ساكن هذا القصر، كما أن البيوت الطينية تحيطك علما بفقر ساكنيها وشدة بؤسهم وعظم فاقتهم.

وأمام الأكواخ والقصر تمتد أرض زراعية مسافات شاسعة حتى يخيل إلى الناظر بادئ ذي بدء أنها لا نهاية لها.

وليس من العسير عليك أن تعلم أن ساكن هذا القصر إقطاعي كبير مستول على هذه الأرض، وأن أصحاب هذه الأكواخ عمال عنده يفلحون الأرض ويزرعونها ويتعاهدونها بالسقي والرعاية، ويأخذون مقابل ذلك خُمس ناتجها لهم جميعا، في حين أن الأربعة أخماس كاملة تذهب إلى المستولي على الأرض.

وليست المشكلة في هذه القسمة الضيزى فقط، إنما هي كذلك في جعل كلمة الفصل في تحديد مقدار المحاصيل المستحقة للفلاحين بيد الإقطاعي الذي لا يفتأ يقلل المحصول إلى ثلثي المستحق لهم وربما إلى النصف في بعض الأحيان.

وإن اعترض بعضهم مطالبا بحقه كان نصيبه سيلا من الشتائم التي تتضمن اتهامه بسوء الأدب ونكران الجميل وجحد المعروف الذي أولاه إياه الإقطاعي، وعض اليد التي امتدت إليه بالإحسان، ثم يختتم هذا الموشح دائما بقول المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ولا يجد الفلاح المسكين ساعتها إلا أن يضع على الجرح ملحا ويلوذ بالصمت ويرضى من الغنيمة بالإياب.

وحتى يضمن الإقطاعي ألا تظهر حالة مشابهة يقوم عبر بعض رجاله برشوة بعض الفلاحين الضعفاء ليذهبوا إلى الفلاح المتمرد ويقوموا بلومه وتقريعه، ولا يزالون به حتى يرجع إلى الإقطاعي معتذرا معترفا بخطئه، ويطلب منه الصفح والغفران، وبعد لأي يقبل الإقطاعي اعتذاره ويعفو عنه شريطة ألا يعود إلى هذه الألاعيب الصبيانية والحركات البهلوانية، وحتى يظهر الإقطاعي بمظهر الأب الرحيم والأم الرؤوف فإنه يقدم هبة منه إلى الفلاح نصف شوال من الأرز مع وابل من المنِّ، حتى إن كلمات المنِّ تفوق عدد حبات الأرز في الشوال.

بدأ الموسم الزراعي الجديد ولم يكن مختلفا عن المواسم السابقة في شيء سوى أن عاملا جديدا يدعى حازما اضطرته الظروف ليعمل في الأرض، تلوح على سيماه مخايل الذكاء وعلامات الجد والاجتهاد.

بدأ حازم العمل بنشاط مفرط، فكانت عدد ساعات عمله تزيد على أربع عشرة ساعة، لا يتخللها سوى أدائه الصلوات ووجبة طعام منتصف النهار يشد بها صلبه، ثم يتابع عمله منهمكا في أدائه.

وظل حازم على هذا المنوال حتى حان وقت الحصاد، وبدأ جني الموسم، وأخذ حازم يحسب أجرته التي سوف يتقاضاها، مع تركه هامشا يسيرا لاحتمال الخطأ.

وأخيرا جمع المحصول كاملا وسلمه إلى الإقطاعي، وغدا حازم بعد ذلك ليتسلم أجرته، غير أنه فوجئ بإعطائه شطر ما يستحقه فقط، فتساءل قائلا: ومتى الشطر الآخر؟

– أي شطر يا بني؟

– بقية أجري.

– لقد سلمتك إياه كاملا موفورا مع حبة مسك أيضا.

– هذا غير ممكن، لقد أحصيت الناتج وحسبت نصيبي وهو ضعف ما أخذت.

– أتريد أن تخدعني؟ أتريد أن تأخذ مالي بغير حق؟ ألا تحفظ الود؟ هكذا تتنكر لكل معروف أسديته إليك وتتهمني بأكل الحرام..، حقا:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

– ولكني أريد حقي، أريد ثمرة جهدي وتعبي، لقد شربت الأرض من عرقي أكثر مما شربت من الماء.

– حقك قد أخذته كاملا، وليس لك فوقه مقدار حبة خردل، وهؤلاء الفلاحون حولك كثر، وكلهم أخذوا نصيبهم ورضوا به وشكروني على كرمي الزائد معهم، فما معنى أن تنفرد أنت بهذا؟ أترى هؤلاء كلهم قد رضوا ببخسهم حقهم وقبلوا بالظلم؟

– هذا لا يعنيني في قليل ولا كثير، أريد حقي.

– يبدو أنك لا تفهم بالحسنى، والآن انصرف قبل أن ترى ما لا يعجبك أيها الوقح.

– أريد حقي.

– حسنا، خذ، خذ، خذ، هذا حقك، خذ، خذ، أتريد المزيد، خذ، خذ، وانهال الإقطاعي على حازم ضربا بالسوط حتى أدماه، ثم أمر رجاله أن يلقوه خارجا.

– عاد حازم إلى كوخه وهو يشعر بالظلم الشديد، وأخذت الأفكار تصطرع في رأسه، وقد تصدرتها فكرتان:

الأولى: هي الانتقام من هذا الإقطاعي الجشع الذي ضربه وأهانه.

والثانية: الحصول على النصف الثاني من أجره.

فكر كثيرا غير أنه كان يجد الطرق كلها مغلقة أمامه؛ فهو مجرد عامل لا سند له ولا رجال ولا مال ولا قوة، أما الإقطاعي فذلك كله متوفر لديه، ولذلك رأى أخيرا أن يرجئ الأمرين إلى يوم يقال فيه: (لا ظلم اليوم)، أما اليوم فيكفي أن يرسل دعاءه إلى السماء فهي مفتحة الأبواب لمثل ذلك.

وبعد بضعة أيام قدم عدد ممن أنعم عليهم الإقطاعي بلقب “وجهاء الفلاحين” على حازم، ثم أخذوا يحدثونه عن سعة صدر الإقطاعي وشدة كرمه وجليل إحسانه وكثرة فضله وإنعامه، ثم أتبعوا ذلك ببيان أن حازما قد أخطأ وأساء، وأن من الخير له أن يعتذر ويتملص من ذنبه، فالإنسان ليس معصوما والاعتراف بالذنب فضيلة.

انتفض حازم لدى سماعه هذا الكلام انتفاض العصفور بلله القطر، وصاح بغضب: أحقا أنتم تتكلمون عن قناعة؟ أهذه نظرتكم الحقيقية لهذا الظالم؟ أبعد كل ما فعله بكم؛ امتص دماءكم، وسرق أقواتكم، وأضاع تعبكم وجهدكم، ثم تقولون عنه هذا؟

عذرا، ولكني أقول لكم: إن كنتم كاذبين في كلامكم فلستم سوى حفنة من المنافقين، وإن كنتم صادقين فعزائي لكم في فطركم التي مُسخت ورجولتكم التي ماتت.

أطرق بعضهم إلى الأرض، وبدا عليهم الوجوم، فيما استعد آخرون للشجار، غير أن حازما عاد فقال لهم: لا داعي للشجار فأنا لا أرغب في ذلك ولا أريده، ولكن إن كنتم غضبتم من بعض كلمات جرحت كرامتكم فلماذا لا تغضبون من الإقطاعي الظالم الذي يمتلك عظامكم امتلاكا؟!

وهنا قال أحدهم: هيا يا شباب، لا نريد سماع المزيد من الإهانة، لقد نصحنا له ولكنه لا يحب الناصحين، وغادر وفد الوجهاء الكوخ.

نكأت كلمات حازم جرحا كان قد اندمل في قلوب فريق من الوجهاء، وسرعان ما أخذت كلمات حازم تنتشر بين الفلاحين، وتسري فيهم سريان الماء في العود وانتشار النار في الهشيم.

أحس الإقطاعي بالخطر يحدق به فقام بطرد حازم من القرية، غير أن فعله ذلك لم يزد الفلاحين إلا غضبا، فأعلن الإقطاعي أنه سيتصدق على كل فلاح بشوال من الأرز ومثله من القمح، ولكنه دهش عندما أعلن الفلاحون أنهم يريدون تعيين أعضاء منهم يشرفون على عملية إحصاء المحصول وحساب النسب وجرد المستودعات.

وطفق رجال الحاشية يحذرون الإقطاعي من الاستجابة لمطالب الفلاحين حتى لا يتمادوا أكثر وحتى لا تضيع هيبته، بل الحل أن يزيد إفقارهم، واقترح أحدهم حلا سريعا وهو أن يعلن الإقطاعي تشكيل لجنة مراقبة لحل مشاكل الفلاحين بالعدل وبلا زيادة ولا نقصان، فتقوم هذه اللجنة الذين هم أصلا من حاشيته بحساب كمية الطعام التي في مخازن الفلاحين لتقرر أنهم أخذوا أكثر من حقهم وتسترد نصف الكميات التي معهم؛ فيتأدب الفلاحون بذلك ويضطرون إلى الإذعان طلبا لعطية وصدقة من الإقطاعي، ويرضون فيما بعد بما قسمه لهم، وختم المقترح بقوله: “أجع كلبك يتبعك”.

وطرب الإقطاعي لهذا الأمر جدا، وقهقه حتى بدت لهواته، وأمر بتشكيل لجنة المراقبة والتي بدأت عملها فورا وقررت بعد يومين أن الفلاحين أخذوا أكثر من نصيبهم وأن عليهم إعادة نصف ما أخذوه.

ازداد غضب الفلاحين ورفضوا إعادة شيء من الحبوب، فأمر الإقطاعي حراسه باقتحام المستودعات والمنازل وأخذ نصف الحبوب بالقوة، وبالفعل بدأ الحرس باقتحام المستودعات والبيوت ومطاردة الممتنعين عن إعادة الحبوب، ولكن حصل ما لم يكن في حسبانهم عندما اقتحموا بيت أحد الفلاحين ولم يكن فيه إلا النساء فانتهكوا حرماتهم، وعندها ثار الفلاحون وهاجوا، وأخذ كل واحد منهم فأسه ومعوله وانطلقوا يهاجمون حرس الإقطاعي وجنوده وتكاثروا عليهم حتى هزموهم وفروا، فانطلقت عندها جموع الفلاحين تؤم القصر الرهيب الذي لم يعد كذلك في عيونهم، وأخذت طَرقاتهم تهز أركان القصر، فأشرف الإقطاعي من النافذة ليجد الفلاحين قد أحاطوا به وهم يستعدون للهجوم على القصر، فنادى على حرسه وحاشيته لطردهم، فلم يجبه أحد.

عندها أخذ يعِدهم بزيادة النسب وتنفيذ مطالبهم، غير أنهم أجابوه: لقد انتهت مرحلة الظلم والقهر والتسلط، وأصبح كل شيء لنا الآن، لقد حان وقت استرداد ما سرقته منا طوال السنوات الماضية، لقد حان وقت القصاص.

هجم الفلاحون على القصر وأمسكوا بالإقطاعي وانهالوا عليه لطما ولكما وركلا، والإقطاعي يتوسل لهم أن يتركوه، وبعد طول بكاء وتوسل رضي الفلاحون أن يخرج الإقطاعي من البلدة بثيابه التي عليه تاركا كل شيء، وعندها تركوه وقد أوشك على الموت، فهرول مسرعا للخروج من القرية إلى المجهول، المجهول الذي ينتظره.

انتهت.

لتحميل نسخة من مجلة بلاغ BDF اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى