الجهاد في الليل – الركن_الدعوي – مجلة بلاغ العدد السادس والثلاثون شوال ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد السادس والثلاثون شوال ١٤٤٣ هـ
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فقد أكرم الله عباده المؤمنين بأن منّ عليهم بفريضة الجهاد، واختص المجاهدين في الجنة بباب يدخلون منه لا يدخل معهم منه غيرهم، وجعل للجهاد في سبيل الله أنواعًا وأشكالًا وضروبًا متعددة، كجهاد الدفع والطلب، وجهاد المال والسنان، وجهاد الكفار والمنافقين، وجهاد الليل وجهاد النهار، ووو…إلخ، والواجب على المسلمين تحصيل ما يستطيعون منها؛ فما لا يدرك كله لا يترك جله، وحديثنا اليوم عن الجهاد في الليل، وبعض أنواعه وأحواله.
* فضل وأهمية الجهاد في الليل:
الجهاد في الليل نوع من الجهاد يدخل فضله في فضل الجهاد العام، ومما يؤكد فضل الجهاد في الليل ما يلي:
– حرمة النار على من سهر في سبيل الله، فعن أبي ريحانة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «حُرِّمت عَيْن على النار سَهِرت في سبيل الله» أخرجه النسائي بإسناد صحيح.
– أدعى لحضور القلب واستشعار الإخلاص ومنة الله عز وجل على العبد المجاهد أن رزقه قيام الليل في جهاد الأعداء.
– أستر عن عيون العدو وعيون جواسيسه ورصاده وطيران استطلاعه.
– على قدر المشقة والتعب والمخاطرة وقلة القائمين بالأمر يكون الأجر والثواب.
– مباغتة العدو وإحداث نكاية فيه في وقت غفلته.
– تقليل خسائر المجاهدين ورفع الروح المعنوية.
– تعويد النفس على الجد والنشاط وأن الجهاد لا يقتصر على نوع أو وقت أو نمط أو جهد معين.
* آداب الجهاد في الليل:
للجهاد آداب عديدة يتأكد منها في جهاد الليل:
– إخلاص النية لله عز وجل وعدم المن على الناس بقول أو فعل من أمور الجهاد، قال تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ).
– عدم النظر إلى عورات الناس أو التجسس عليهم؛ خاصة أنهم في وقت راحة ووضع الثياب.
– عدم التعدي على أموال الناس وحقوقهم؛ إذ إنه تحت جنح الليل تلوح فرص لأخذ المال الحرام في غيبة الرقباء من البشر.
* صور من الجهاد في الليل:
للجهاد في الليل صور عديدة منها:
– التبييت: وهو الإغارة على العدو ليلا، ومنه قتل كعب بن الأشرف، فقد كان ذلك ليلا؛ حيث شيع رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في سرية معه، فانطلقوا حتى وصلوا حصن كعب بن الأشرف وقتلوه ليلا.
وكانت تلك الإغارات الليلية عادة في السرايا الصغيرة التي يأمن فيها المجاهدون أن يصيبوا بعضهم في ظلمة الليل، أما إن كان الجيش كبيرا فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر عادة الصباح، فعن أنس رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر، فجاءها ليلا، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح” رواه البخاري.
– الحراسة ليلًا: ومنه الرباط ليلا وحراسة الثغور والأماكن المهمة والمجاهدين النائمين في ظلمة الليل، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله» رواه الترمذي وحسنه.
ويوم غزوة حنين وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية، فقال: «من يحرسنا الليلة؟»، فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال: «فاركب»، فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقبل هذا الشِّعب حتى تكون في أعلاه، ولا نُغَرن من قِبلك الليلة»، وفي الصباح جاء أنس حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم، فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت، فلم أر أحدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل نزلت الليلة؟» قال: لا، إلا مصليا أو قاضيا حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
– الاستطلاع الليلي: وجمع أخبار العدو ومواقعه وتحركاته، فعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ القَوْمِ» فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ القَوْمِ» فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ القَوْمِ» فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» رواه البخاري.
وكذلك يوم الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم» فقام حذيفة فأتى بخبر القوم، رواه مسلم.
– المسير ليلًا: من عوامل تحقيق الانتصار على العدو السير ليلًا والكمون نهارا، ورغم صعوبة التحرك ليلًا مع اشتداد الظلام ووعورة الطريق؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه مرات أن يتحركوا ليلًا ويكمنوا نهارًا، فكان هذا من أهم أسباب مفاجأة العدو وإرباكه، كما حصل في عدة غزوات منها دومة الجندل وخيبر وغيرهما.
– الاستعداد ليلًا للهجوم صباحًا:
كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعد جيشه ليلا ويغزو في الصباح، فإن لم يحصل الغزو في الصباح أخره صلى الله عليه وسلم إلى بعد الظهر، ففي حديث النعمان بن مقرن رضي الله عنه، قال: «شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا لم يقاتل في أول النهار انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات» رواه البخاري.
وفي يوم خيبر قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: الله أكبر خربت خيبر» متفق عليه.
– تلبية نداء الاستغاثة ليلا:
كان النبي صلى الله عليه وسلم سباقا للخروج ليلا حين استشعار الخطر، فعن أنس رضي الله عنه قال: لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف وهو يقول: «لم تراعوا، لم تراعوا» متفق عليه.
– الهجرة ليلًا: ومن أنواع الجهاد في الليل الهجرة ليلًا وترك أرض العدو عند الشعور بالخطر دون إحداث ضجة أو حركة تثير العدو أو تلفت انتباهه، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين هاجرا تحت جنح الليل أخذا بالأسباب.
* اللهم ارزقنا الثبات على نعمة الجهاد في سبيلك على النحو الذي ترضى به عنا، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبنا، في الليل والنهار، واجعلنا من عبادك المخلِصين المخلَصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والحمد لله رب العالمين.