الثَّورةُ السُّوريَّةُ ووَاجِبُ الاعْتِبار
الثَّورةُ السُّوريَّةُ ووَاجِبُ الاعْتِبار
كتبت هذا المقال قبل سنة من الآن، في مثل هذه المناسبة، وهذه أبلغ، وهي مرور عقد كامل على انطلاق الثورة السورية المباركة.
إن السعيد من اتعظ بغيره، وإن من اتعظ بنفسه لسعيد، إذا قورن بمن لم ولا يتعظ بغيره ولا بنفسه، ومرت به سنوات التجارب القاسية، فازداد غفلة على غفلة، وهنيئاً هنيئاً لمن تزيده التجارب والمحن علماً وإخلاصاً وإصراراً، وهنيئاً هنيئاً لأهل الاعتبار.
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} [الحشر : 1-2]
بعد أن همَّ بني النَّضِير من يهود المدينة بالغدر بالنبي، سار صلى الله عليه وسلم بالصحابة الكرام لقتالهم فحاصرهم حتى انكسروا وقبلوا بالجلاء عن المدينة، على أن يحملوا من أموالهم ما حملت إبلهم فحملوا ما شاؤوا حتى أنهم هدموا بيوتهم التي استحسنوا سقوفها، وكان المسلمون هدموا من البيوت وقطعوا وحرقوا من الشجر حول حصونهم التي كانوا تحصنوا فيها ما شاء الله.
“{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أي: البصائر النافذة، والعقول الكاملة، فإن في هذا معتبراً يُعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق، المتبعين لأهوائهم، الذين لم تنفعهم عزتهم، ولا منعتهم قوتهم، ولا حصَّنتهم حصونهم، حين جاءهم أمر الله، ووصل إليهم النَّكَال بذنوبهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار، وهو اعتبار النظير بنظيره، وقياس الشيء على مثله، والتَّفكُّرِ فيما تضمَّنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة، وبذلك يزداد العقل، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان، ويحصل الفهم الحقيقي” (تفسير السعدي).
فالنَّصر بيد الله يؤتيه من يشاء، والخِذلان والخُسران يبتلي الله به من يشاء، وفي تحقق هذا أو ذاك عِبَرٌ وله أسباب، فلا بد أن يتساءل من آتاهم الله العقول وكلَّفهم: لماذا؟!، وذلك للعمل على تحقيق أسباب الخير المستطاعة، ومنع أسباب الشر لاتقاء سيِّءِ العواقب.
فالانكسار في الحرب، والخوف والجوع، والنَّقص من الأموال والأنفس والثَّمرات، والتَّهجير من الأرض، ليس يصيب قوماً دون قوم، ولا ينجو منه أهل دين دون غيرهم، بل هذه سُنَّة قدريَّة كونيَّة فيها حكمة شرعيَّة، تُدال على الناس مسلمِهم وكافرِهم، والعاقبة للمتَّقين.
ومما يجب إعمال العقل فيه تساؤلاً وبحثاً عن إجابات، حال الثَّورة السُّوريَّة -وهي الجهاد اليوم على أرض الشام- وما كانت عليه في بدايتها من إقبال وانتصار، وما اعتراها بعد خمس سنواتٍ من تراجعٍ وانحسار، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في أيامنا هذه، مطلع عام 2020م العام العاشر للثورة، (ثم 2021م بعد مرور عقد على انطلاقتها)
– لماذا بدأت الثورة وانتشرت بسرعة وازدادت قوَّة حتى كادت تقتلع النظام المجرم والميليشيات التي تدعمه؟!
– لماذا لم تجتمع الثورة على قيادة واحدة ومرجعيَّة فكريَّة واحدة؟!
– لماذا تنكَّر العالم للثورة السُّوريَّة، حتى كاد يجتمع علناً على معاداتها وقتالها؟!
– لماذا ألقت أكثر مكونات الثَّورة بيدها في قيد التَّبعيَّة والاستعمال للقوى الإقليميَّة والعالميَّة، ولم تضع هذه اليد في يد الأخوَّة والمصلحة الثَّوريَّة الجهاديَّة المشتركة ؟!
لماذا؟! … لماذا؟! …لماذا؟!
أسئلة كثيرة وأجوبة كثيرة، كلُّ حزبٍ جمع قليلاً منها في زاوية رؤيته المصلحيَّة غالباً، لذلك ترى كيل الاتِّهامات وإلقاء اللَّوم على الأخرين هرباً من المسؤوليَّة، بدلاً من حمل كلِّ مسؤول جزءاً منها ليَسهُل حملها بشكل جماعيّ.
إلى الآن لم تصدر دراسة معلنةً عن أي جهةٍ تكون شاملةً في بحثها، حياديَّةً في عملها، (جهاديَّة-ثوريَّة) في توجهها، تُعمِل التَّفكُّرَ والاعتبار في الأعوام السابقة وتلخِّص الأسئلة والإجابات في أهمِّها وأنفعها.
وليس المطلوب فقط دراسة ما كان بما فيه من حقائق قد تستاء بعض الجهات من ذكرها (ولا يهم فمصلحة الدِّين والأمَّة مقدمة على رضا هذا أو سخط ذاك)، بل يشمل المطلوب الارتكاز على ما كان لتوقِّع ما سيكون والعمل على تغييره، على الأقل من خلال تنبيه المجاهدين الصَّادقين وعموم المرابطين الثَّابتين في الشَّام والنُّصح لهم، طالما أن أصحاب القرار لا يحبُّون من يدعمهم بالدِّراسة ويحوطهم بالنُّصح ويخوِّفهم مما يظنوه مصلحةً وهو سراب أو هلاك.
ترى اليوم أن الغالبيَّة العظمى من المسلمين تسأل عن الخير المنتظر – غالباً ما يكون هذا بلا عمل- فيفرح المرء لدرجة غِشِّ نفسه عندما يسمع بعض التَّخرُّصات تحت عنوان بُشريات، ولا يعتبر بما فات من سنوات مرَّت، لكي يتهيَّأ ويتجهَّز بالصَّبر والثَّبات والعمل لتجنُّب الوقوع في أسوأ ما هو آت.
قال المفكِّر الأمريكي إريك هوفر: “الدِّعاية السِّياسيَّة لا تخدع النَّاس، لكنها تساعدهم على خداع أنفسهم”، وما عليك إلا أن تراقب الملايين من البشر الذين خَدعوا وخدَّروا أنفسهم بأنفسهم، عندما حصروا حدودهم المعرفيَّة باليوم أو الأسبوع، أو الشهر كحد أقصى، هذا للماضي ففقدوا دروس السنوات والاعتبار منها، أما الواقع والمستقبل فضاعت معالمه، وأخذوه مَكذوباً عن كهنة أقبية الاستخبارات ووسائل التَّواصل، فيطيرون بكل خبر حتى تبلغ الكذبة الآفاق في ثوانٍ، وهذا للكذبة فقط، ويسأمون من قراءة دقيقةَ حقٍّ.
نُقِلَ في الصَّحيحين عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشَّرِّ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهليَّةٍ وشرٍّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟، قال: “نعم”، قلت: وهل بعد ذلك الشَّرِّ من خير؟، قال: “نعم، وفيه دخن” ….. الحديث.
فالعاقل من يتوقع الخير والشَّرَّ، ويعمل للحفاظ على الخير وتوقِّي الشَّرِّ، والجاهل من يتملكه الغرور فيسيء العمل، أو يتملكه القنوط فيترك العمل، والأيام دُوَلٌ قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، وهذه سيرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الانبياء ومن تبعه من خلفاء زاخرةٌ بالعلم والخير مليئةٌ بالدُّروس والعِبر.
ولقد سبق ابن خلدون -رحمه الله- إلى ذكر أسباب قيام الدَّوَلِ واستمرارها وانهيارها فهل من معتبر؟!، وفي أيامنها هذه عِبَر كثيرة عن انتصاراتٍ وانكساراتٍ في أمم الكفر وأمَّة الإسلام، فلسطين، الثورات العربية، أفغانستان، الثورة السورية أو الجهاد الشامي، فهل من معتبر؟!.
وينسفُ كلَّ ما سبق قولُ القائلِ: “قياسٌ مع الفارقِ”، أو “الظُّروفُ مختلفةٌ”، ليُخرِجَ نفسه من دائرة البحث والنقد، ويمتنع عن الاعتبار والاتِّعاظ بالتَّاريخ البعيد أو القريب أو حتى الواقع الحاضر، وكأنه بِدَعٌ من النَّاس، وفريدُ عصرهِ والعصورِ التي مضت، والمشكلة هذه أكثر ما تجدها في أصحاب الشِّعارات المزايدين على غيرهم بها.
والحق أنَّ الفارق إن وُجِدَ في قياسٍ فإنه لا يوجد في كلِّ قياس، وإن اختلفت بعض الظُّروف فإنَّها لا تختلف كُلُّها ولا جُلُّها، فإنما نحن بشر، ربُّنا واحد وأصلنا واحد والدِّين الذي أُمِرنا بعقيدته وشريعته واحد، ولولا فائدة الاعتبار في البناء والإصلاح والتدارك لما أمر الله به، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]
محمد الإبراهيم
أبو يحيى الشامي