استثمار التنوع في بيئة الجهاد || كتابات فكرية ||مجلة بلاغ – العدد ٢٥ – ذو القعدة ١٤٤٢
مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢
الأستاذ: خالد شاكر
التنوع داخل المجتمع ظاهرة بشرية وقدر كوني وواقع لا مفر منه، ولهذا التنوع صور كثيرة، ولكننا نعني هنا التنوع في البيئة المجاهدة أي التي سارت على طريق الجهاد فتنوعت شعوبهم وقبائلهم، أو تنوعت وظائفهم ومهاراتهم، أو تنوعت فصائلهم وجماعاتهم، أو تنوعت طبقاتهم الاجتماعية..، وما شابه ذلك.
وهذا التنوع في المجتمع المجاهد موجود في عهد النبوة وموجود في كل عهد، فكان مجتمع المدينة يتنوع في مجمله إلى مهاجرين وأنصار، والأنصار يتنوعون إلى أوس وخزرج، وكل قبيلة منهما تتنوع إلى بطون عديدة، وكان الجيش ينقسم غالبا إلى قلب وميمنة وميسرة ومقدمة وساقة، فمن تنوع الأعمال في ساحة المعركة قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).
ومن تنوع الوظائف والمهارات في المجتمع المجاهد قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، وقوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
ومن تنوع العُصبة قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ).
لذا نجد أن جيش النبي صلى الله عليه وسلم يتوزع حسب توزع أعراقه وقبائله؛ ففي فتح مكة وقف أبو سفيان مع العباس رضي الله عنه يشاهد جيش المسلمين “وَمَرَّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ: سُليم، فَيَقُول: مَا لي وَلِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُول: مَا لي وَلِمُزَيْنَةَ، حَتَّى نَفِدَتْ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلَّا يَسْأَلُنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بهم، قَالَ: مَا لي وَلِبَنِي فُلَانٍ، حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ” “سيرة ابن هشام”.
وفي قصة وفد هوازن بعد معركة حنين عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم رد السبي إليهم، خطب قائلا: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلاَءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لاَ نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُم، فَرَجَعَ النَّاسُ، فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ: أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا» رواه البخاري.
فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرفاء واسطة بينه وبين الجنود يتعرفون منهم على حقيقة قولهم، والعرفاء هم رؤساء الجنود وقادتهم سموا بذلك لأنه بهم تُعرف أحوال الجيش ويعرف الأمير منه أحوالهم.
ويدخل في ذلك النقباء وهم المقدمون في أقوامهم يتعرفون أخبارهم وينقبون عن أحوالهم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار يوم بايعوه ليلة العقبة اثني عشر نقيبا كلهم من الأنصار؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وإن هذا التنوع داخل المجتمع الجهادي من أسباب قوته المحقِّقة لمقصود الجهاد؛ فتنوع الأعمال يؤدي لتكاملها، وتنوع الأعراق يؤدي لتعارفها ومعرفة أفرادها، وتنوع المهارات يؤدي لتطورها، وكلما قويت الروابط المجتمعية قوي المجتمع كله وازدادت حصونه منعة، وإذا ضعفت روابط المجتمع الداخلية ضعف المجتمع وتخلخل بنيانه؛ لذا كانت قوة أهل الحق في تقوية مجتمعهم، أما الطغاة فقوتهم في إضعاف المجتمع؛ لأن الاستبداد لا يتعايش مع مجتمع تدب فيه روح القوة والشهامة.
– وقد تأمل ابن خلدون في تاريخ الأمم فوجد أن العصبة وروابط القربة هي من أهم أسباب القوة والدفاع عن المجتمع وبها تقام الدول وتقوى في طورها الأول إلى أن يستقر أمرها، فقال في مقدمته: “ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد؛ لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في الطبائع البشرية وبها يكون التعاضد والتناصر وتعظم رهبة العدو لهم، واعتبر ذلك فيما حكاه القرآن عن إخوة يوسف عليه السلام حين قالوا لأبيه: (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ) والمعنى أنه لا يتوهم العدوان على أحد مع وجود العصبة له، وأما المتفردون في أنسابهم فقل أن تصيب أحدا منهم نعرة على صاحبه، فإذا أظلم الجوّ بالشر يوم الحرب تسلل كل واحد منهم يبغي النجاة لنفسه خيفة واستيحاشا من التخاذل فلا يقدرون من أجل ذلك على سكنى القفر لما أنهم حينئذ طعمة لمن يلتهمهم من الأمم سواهم، وإذا تبين ذلك في السكنى التي تحتاج للمدافعة والحماية فبمثله يتبين لك في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوة أو إقامة ملك أو دعوة إذ بلوغ الغرض من ذلك كله إنما يتم بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء ولا بد في القتال من العصبية كما ذكرناه آنفا، فاتخذه إماما تقتدي به فيما نورده عليك بعد، والله الموفق للصواب..
العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك نزعة طبيعيّة في البشر مذ كانوا، فإذا كان النسب المتواصل بين المتناصرين قريبا جدا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها ووضوحها وإذا بعد النسب بعض الشيء فربما تنوسي بعضها ويبقى منها شهرة فتحمل على النصرة لذوي نسبه بالأمر المشهور منه فرارا من الغضاضة التي يتوهمها في نفسه من ظلم من هو منسوب إليه بوجه، ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النسب أو قريبا منها”.
– ولما قامت الثورة السورية قامت وانتشرت مستندة إلى المناطقية والعائلية؛ فتشكلت الكتائب والألوية منسوبة إلى القرى أو المدن أو مرتكزة على العوائل، فكان الناس يتسابقون إلى نيل شرف المقاومة، ويعتزون بشهداء عوائلهم وتضحيات قراهم ومدنهم، ولذا فقد كانت تلك الروابط مَعينا لا ينضب؛ فكلما قدمت الكتيبة قائدا أو جنديا خلفه أخوه أو ابن عمه أو صديقه على درب البطولة والشهادة، وبذا استمرت تلك المجموعات والكتائب والألوية أعواما متتابعة.
ثم طرأت دعاوى الترتيب والتنظيم التي هدف كثير منها في الحقيقة لإضعاف نفوذ تلك الكتائب المحلية، وقطع صلتها بحاضنتها المجتمعية، وتحويلها لمجموعات قتالية غير مترابطة مجتمعيا، وعند ذلك ضعفت الحاضنة الشعبية وأصبح عدد الوافدين للجهاد أقل من عدد الشهداء والجرحى والتاركين للثغور..
* إن استثمار التنوع المجتمعي خاصة في مرحلة الثورة ضروري لحياة الثورة واستمرارها وقوتها، وإن القضاء على الروابط الاجتماعية أو إضعافها بدعوى التنظيم هو قضاء على النهر الجاري الذي يمد الثورة بأسباب قوتها وحياتها، ولن يخلو أمر العصبات والتكتلات الداخلية من أعراض جانبية كقول القائل عند نزغ الشيطان: يا للأنصار وقول الآخر: يا للمهاجرين، ولكن تبقى تلك الأعراض الجانبية أمراضا عارضة تحتاج لعلاج موضعي لا استئصال.
بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ