أطلق عصفوره وتمنى إمساك العصافير الطائرة!! – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٩ – شعبان ١٤٤٦ هـ

مجلة بلاغ العدد ٦٩ - شعبان ١٤٤٦ هـ⁩⁩⁩February 04, 2025

الشيخ: المنصور بالله الحلبي

لو تأملت اليوم حال الناس لوجدت الكثيرين يفعلون ذلك، فنفسه تهفو لما ليس لها وتنسى ما عندها.

وإن شئت فقل؛ ينشغل بالقيل والقال عن الفعال، ويطلق العنان لنفسه ويرسم الآمال العريضة والأماني الكاذبة لو كان يملك كذا وكذا.

وإذا سألته عن سبب كسله وضعف عمله تعذر بقلة الحيلة وسوء الحال وأن الواقع أكبر منه، وفي الحقيقة أنه لا يريد العمل.

وهنا لا نود التركيز على حال الواقع وعقباته وتوصيفه؛ وإنما نريد تسليط الضوء على حال العامل واستطاعته، فمن المؤكد أن الواقع أكبر من الأفراد، وأن القدرات تختلف، والاستطاعة لدى الناس تتفاوت، وأن ثمة عقبات تقف في طريق العاملين.

ولكن السؤال المهم هل أدى كل مسلم ما يستطيعه من العمل، وهل عمل بما يُتاح له من القدرة؟

فالله سبحانه أعطانا قاعدة قرآنية مريحة جدا في تعاملنا مع الله تعالى وفي تعاملنا مع أنفسنا وفي تعاملنا مع البشر حيث قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ويضيف العلامة السعدي رحمه الله فوائد جميلة واستنباطات نافعة فيقول: “يأمر تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيّد ذلك بالاستطاعة والقدرة، فهذه الآية، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر”.

والله سبحانه عالم بالنفوس خبير بالكوامن البشرية فرض على عباده ما هو داخل تحت قدرتهم، رحيم بهم إذ لم يكلفهم بما لا يطيقون، فقد قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وأباح للمريض ما لم يُبح لغيره فقال: {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61]، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمريض العاجز عن القيام في الصلاة: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» البخاري.

وإذا كان التكليف بالمقدور فلماذا ننشغل بما لا نستطيع وندع ما نستطيع! لماذا نترك المتاح ونطلب غير المتاح! لماذا نحمل أنفسنا ما لا نطيق والله لم يحملنا ذلك!

إذا لم تستطع شيئًا فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع

وأقدار الله علمتنا أن من ترك ما يستطيع وانشغل بغيره ذهب منه ما يستطيع، ومن بذل جهده بما يستطيع فتح الله عليه ما لا يستطيع.

فيا أخي في الله إذا كانت استطاعتك في إصلاح واقعك خمسة بالمئة فأنت محاسب عليها ولست محاسبًا على الباقي من النسبة، وتقصير غيرك لا يعفيك من المسؤولية أمام الله، ولا تنشغل بغيرك عن نفسك، ولا ترى القذاة في عين أخيك وتعمى عن الجذع في عينك، ولا شك أن الجميع مقصرٌ في عمله، ولكن تختلف نسبة التقصير والتفريط بين العاملين.

بالمقابل يفهم البعض هذه الآيات والأحاديث فهمًا خاطئًا، ويجعلها حجةً لنفسه في تركه للعمل وتثاقله عن البذل متعللًا بيسر الدين وسماحته.

ويضع عجزه في قالبٍ شرعيٍّ وإن يريدون إلا فرارا!

*وختامًا أقول لإخواني في الشام:

بعد أن فتح الله عليكم البلاد واستجابت لكم العباد عليكم أن تبذلوا ما تسطيعون وتقدموا ما عليه تقدرون، سواء كنتم أفرادًا أو جماعات أو مؤسسات، وإن الثغر اليوم كبيرٌ يحتاج تضافر الجهود وتكاتف الهمم علّ الثغر يُسد والأمانة تُؤدى، فالناس ينتظرون منكم تطبيقًا للإسلام كما يحب ربنا ويرضى، فتحوا لكم قلوبهم وأصغوا إليكم بآذانهم، ولا تنسوا أن العالم أجمع يراقب تحركاتكم وينظر لأفعالكم فماذا أنتم فاعلون! وماذا تجيبون ربكم إذا سألكم يوم الحساب هل أديتم الأمانة وحملتم المسؤولية ووقف كلٌّ على ثغره، أم ستفرطون فيها وتتراشقون التهم وتضعون اللوم على بعضكم حتى يذهب من أيديكم هذا النصر المبين وعندها لا ينفع الندم ولا يُجدي البكاء.

ولا تنس يا أخي أن الله سائلك عن استطاعتك وقدرتك هل عملت بها أم أضعتها متعذرا بحجج واهية، وتقصير غيرك لا يعفيك عن تقصير نفسك، وضع قول الله تعالى نصب عينيك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

اللهم وفق أهل الشام لما تحب وترضى واستعملنا ولا تستبدلنا، ولا تشغلنا بالجدال عن الفعال يا رب العالمين. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى