يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه “واقع” ضخم
يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه “واقع” ضخم. واقع الجزيرة العربية، وواقع الكرة الأرضية!… وقفت في وجهه عقائد وتصورات؛ ووقفت في وجهه قيم وموازين؛ ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع؛ ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات..
كانت المسافة بين الإسلام- يوم جاء- وبين واقع الناس في الجزيرة العربية وفي الكرة الأرضية، مسافة هائلة سحيقة، وكانت النقلة التي يريدهم عليها بعيدة بعيدة…
وكانت تسند “الواقع” أحقاب من التاريخ؛ وأشتات من المصالح؛ وألوان من القوى؛ وتقف كلها سداً في وجه هذا الدين الجديد؛ الذي لا يكتفي بتغيير العقائد والتصورات، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد، والأخلاق والمشاعر… إنما يريد كذلك – ويصر- على ان يغير الأنظمة والأوضاع، والشرائع والقوانين، وتوزيع الموال والأرزاق. كما يصر على انتزاع قيادة البشرية من يد الطاغوت والجاهلية، ليردها إلى الله وإلى الإسلام!.
ولو أنه قيل لكائن من كان – في ذلك الزمان- ان هذا الدين الجديد الذي يحاول هذا كله، في وجه ذلك “الواقع” الهائل، الذي تسنده قوى الأرض كلها، هو الذي سينتصر، وهو الذي سيبدل هذا الواقع في أقل من نصف قرن من الزمان، لما لقى هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار!.
ولكن هذا “الواقع” الهائل الضخم، سرعان ما تزحزح عن مكانه، ليخليه للوافد الجديد. وسرعان ما تسلم القائد الجديد مقادة البشرية ليخرجها من الظلمات إلى النور، ويقودها بشريعة الله، تحت راية الإسلام!.
كيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً في تقدير من يبهرهم “الواقع” ويسحقهم ثقله، وهم يزنون الأمور والأوضاع؟!.
كيف استطاع رجل واحد. محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم… أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، أو على الأقل في وجه الجزيرة العربية كلها في أول الأمر ؟ أو على الأقل في وجه قريش سادة العرب كلهم في منشأ الدعوة؟ وأمام تلك العقائد والتصورات، والقيم والموازين والأنظمة والأوضاع، والمصالح والعصبيات، ثم ينتصر على هذا كله، ويبدل هذا كله؛ ويقيم النظام الجديد، على أساس المنهج الجديد، والتصور الجديد؟
انه لم يتملق عقائدهم وتصوراتهم، ولم يداهن مشاعرهم وعواطفهم، ولم يهادن آلهتهم وقيادتهم.. لم يتمسكن حتى يتمكن… انه أمر ان يقول لهم منذ الأيام الأولى، وهو في مكة، تتألب عليه جميع القوى:
“قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ولا انتم عابدون ما اعبد، لكم دينكم ولي دين”..
فلم يكتف بان يعلن لهم افتراق دينه عن دينهم، وعبادته عن عبادتهم، ومفاصلتهم في هذا مفاصلة كاملة لا لقاء فيها. بل أمر كذلك ان ييئسهم من إمكان هذا اللقاء في المستقبل. فكرر عليهم: “ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد”… وباطراد المفاصلة في هذا الأمر، الذي لا التقاء فيه! “لكم دينكم ولي دين”.
🖌 سيد قطب 📚 هذا الدين