لله جنود من براميل – الواحة الأدبية -مجلة بلاغ العدد الرابع والثلاثون شعبان ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد ٣٤ - شعبان - ١٤٤٣
الأستاذ: غياث الحلبي
الزمان والمكان: حلب الشيخ نجار 2014
أخذ الحوار ينحو منحى الخصام بين صلاح وزوجته فهو يستعد للذهاب إلى نوبته في الرباط ولم يترك لها سوى ألف ليرة سورية “تساوي خمسة دولارات حينها” لتنفقها في غيابه الذي سيمتد خمسة أيام كاملة.
– صلاح، هل أنت جاد في هذا؟ ماذا سنشتري بهذه الألف؟ لو أردنا أن نعيش على الخبز والزيت لما كفتنا، عندك ثلاثة أولاد يا صلاح!
– هذا ما أملكه، ماذا أفعل يا نهى، لقد أعطيتك كل ما في حوزتي، ولم يبق في جيبي سوى خمس وسبعين ليرة تركتها معي تحسبا لحادث يطرأ، إن كنت تريدينها خذيها.
– يا لسعادتي، سيصبح المبلغ ألفا وخمسا وسبعين ليرة، أنا بحاجة إلى خمسمائة ليرة كل اليوم لتكون حياتي كحياة الزهاد المتصوفة في العصر العباسي.
– أنا أعلم ما تعانيه، ولكن ليس باليد حيلة، لا مال لدي، من أين آتي به؟ أتريدين أن أسرق؟
– أتظن أن المرأة دمية والأطفال عرائس من الشموع لا يأكلون؟ لماذا تزوجت إذن؟
– كانت غلطة وأنا نادم عليها الآن أشد الندم.
– أترى هذا وقتا مناسبا للمزاح وخفة الدم؟
– أفترينه مناسبا للنكد والإثقال؟
– أنت من يسبب النكد، ادفع لي مالا يكفي للكفاف، ولن تسمع مني همسا ولا ركزا.
– يا هذه، أتعقلين؟ ليس معي مال، لا نقود لدي، أتفهمين العربية، أم أتكلم بالإنكليزية، I don’t have money
– يا هذا أتفهم بالمنطق؟ أتعرف العمليات الحسابية الأربع؟ هذا المبلغ لا يكفي يومين.
– حسنا تدبري أمرك وعندما أعود يأتي الفرج إن شاء الله.
– كيف سأتدبر أمري؟
كما سأتدبر أمري عندما أعود.
– خذ هذه القائمة من المستلزمات وأحضرها لنا عند عودتك، كلها أشياء ضرورية فلا تحذف منها شيئا.
– أمسك صلاح بالورقة، فإذا فيها: دواء للغسيل، زيت، زعتر، أرز، برغل، عدس، بندورة، بطاطا، بصل، ملح، مكعبات ماجي، سكر، شاي، حفوضات للصغير، دواء مقشع للصغير.
– ما شاء الله، ألا تريدين أيضا أن نذهب إلى باريس لنقضي شهر عسل هناك؟!
– قد حصل وقضينا شهر الثوم والبصل في تل الزرازير، وليكن في علمك، هذه الأشياء لا أعطيها لأهلي إنما هي لك ولأولادك.
– رأى صلاح أن الاستمرار في الجدل لا طائل تحته، فقال لها: أعدي كوبا من القهوة ريثما يأتي الشباب.
– للأسف نفد البن.
– إذن أعدي كأسا من الشاي.
– لم يبق إلا القليل وهو مدخر للفطور وللجارات إذا جاؤوا.
– أحضري كوبا من الماء، أم أنها أيضا مقطوعة.
– لا، موجودة والحمد لله.
– شرب صلاح الماء، مع أنه لم يكن يشعر بالعطش، ولكن حتى لا يخرج من المولد بلا حمص كما يقال.
– وبعد دقائق سمع صلاح زمور السيارة فارتدى جعبته وحمل بندقيته وخرج ليركب في صندوق السيارة الخلفي لتقله إلى الشيخ نجار حيث نقطة رباطه.
لم يكن الطريق يستغرق أكثر من خمسين دقيقة، وسرعان ما تسلم صلاح ورفاقه مستلزمات النقطة من النوبة السابقة، وأجروا تفقدا لها ثم وزعوا بينهم ساعات الرباط على الطلاقية.
وكانت النوبة الأولى لصلاح وأحد رفاقه، فخرجا لهناك، أما باقي الشباب فقد انشغلوا بإعداد الطعام وترتيب المكان.
عندما عاد صلاح من رباطه وجد رفاقه قد تركوا له ولرفيقه صحنا من الفول وقد عام الزيت فوقه وبقربه حبتا بصل وبندورة وبعض أرغفة الخبز، كان رفيقه صائما لذلك فقد انفرد صلاح بصحن الفول، فلما خلا به قال متمثلا قول الشاعر:
تقسم الناس دنياهم وفتنتها
وقد تفرد من يهوى بدنياه
وتأمل حبات الفول في الصحن وقد انغمس جزء منهن بالطحينة وبدا جزء آخر، فقال: أنتن أحق بقول شوقي من تلك الحجارة الهرمية المتداعية في أسوان
كعذارى أخفين في الماء بضا
سابحات به وأبدين بضا
أتم صلاح طعامه ثم جلس مع باقي رفاقه يتحدثون، كان صلاح قلقا على أهل بيته، كيف ستدبر زوجته أمرها ومن أين سيحضر لها القائمة التي طلبتها، وأخذت النفس الأمارة بالسوء تعمل عملها، يؤازرها الشيطان، انظر إلى ما حولك من المعامل، قد تركها أهلها ورحلوا..
– أليس من يدافع عنها أحق بها منهم؟
– أليس حفظ المال أولى من إضاعته؟ ستتركه الآن وبعد قليل سيقصفه النظام ويحوله إلى ركام، فلا أهله أخذوه ولا أنت انتفعت به.
– أليس الفقهاء نصوا على أن من ترك ماله بمضيعة جاز لمن اجتاز به أخذه؟
– أليس أولى الناس أن يحيا حياة كريمة المجاهد؟ فهل تترك هذه الأموال لأصحابها يأخذونها كاملة موفرة وأنتم من حفظها وحماها لهم لا تأخذون شيئا.
– أليس الإسلام دين يسر، والقاعدة تقول: الضرورات تبيح المحظورات، وأنت مضطر الآن؟
– أليس النظام قد تمكن من السيطرة على تلة الشيخ يوسف بمعاونة بعض الشبيحة من آل شويحنة ملاك بعض هذه المعامل، فاذهب وخذ نصيبك من الغنائم.
* وشعر صلاح بساقيه تسيران به إلى بعض المعامل ويتنقل بينها ويقلب بضائعها، وفي أحد المعامل ووجد أمامه بضائع كثيرة يمكن إخفاء شيء منها في ثيابه دون أن يلحظه أحد، وستكون قيمته لا بأس بها قد تصل إلى عشرة آلاف ليرة.
ولما هم بمد يده، صرخ به ضميره: ويحك ماذا تفعل؟ أتبطل جهادك؟
– هذا حقي وأنا آخذه.
– لماذا تشعر بالخوف إذا؟ لماذا تتخفى عن الأعين؟ لماذا تخشى أن يراك أحد؟ أرأيت أحدا يتصرف كالسراق وهو يأخذ حقه؟
– أنا لست سارقا.
– بل سارق، وتعلم أنك سارق، ولكنك تخادع نفسك.
– لا.
– بلى.
– لا.
– بلى.
– وصاحت به نفسه الأمارة بالسوء: لا تلتفت إلى الورع البارد، كل من الغنائم حلالا طيبا.
– صاح ضميره: متى كانت أموال المسلمين غنائم؟ ومتى كانت الفصائل تترك الغنائم في مكانها ولا تنقلها؟ دعك من تلبيسات إبليس فكل المبررات التي ساقتك لهذا المكان غير صحيحة، وأصحاب المعامل لم يتركوها بل يعملون على نقلها ودورك مساعدتهم على نقلها لا سرقتها، ويسر الإسلام لا يعني أخذ المال الحرام، والضرورة لو حلت بك فيمكنك سؤال الناس لا سرقتهم و.
– حاول صلاح أن يسكت ضميره أو أن يصرف فكره إلى أمر آخر، وتقدم نحو البضائع وكادت يده أن تلامسها.
– فصرخ ضميره بعنف شديد: شراكان من نار، شراكان من نار، شراكان من نار، من نار، من نار، نار، وتراءت لمخيلته نار تلظى، تتقد، تتميز من الغيظ، فولى البضائع ظهره وخرج يركض يستعيذ بالله من النفس الأمارة بالسوء والشيطان، ويفوض أمره إلى خالقه.
* مرت الأيام الأربعة في الرباط سريعة وحل اليوم الخامس، يوم تبديل النوبات، وضاقت الدنيا بصلاح حتى تمنى الموت، فقال: وقد رأى طائرة مروحية للنظام قدمت لتلقي برميلين متفجرين: اللهم اجعل لي فرجا ولو بالبرميل.
وألقت الطائرة برميلها الأول فسقط بعيدا عنهم، ثم اتجهت الطائرة فوقه وشعر صلاح أنها سترمي البرميل عليه، فندم على دعائه، وأخذ يردد الشهادتين بسرعة، وألقت الطائرة البرميل، فسقط البرميل بعيدا عنهم عشرين مترا تقريبا، وكان فيه الفرج لصلاح.
وجاء الفرج الذي دعا به وانتظره.
لم ينفجر البرميل ويمكن تفكيكه وبيع مواده وسيكون نصيب المرابط منه عشرة آلاف ليرة، هم سبعة والبرميل يباع بسبعين ألفا وربما تزيد.
حمد صلاح ربه، وقال: ليتني قلت: اللهم اجعل لي فرجا ولو بطائرة.
انتهت.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٤ شعبان ١٤٤٣ هـ