أغرى إبليسُ أبانا آدم عليه الصلاة والسلام وزوجته بشهوة البقاء: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}.
ويُحكى أن لقمان بن عاد دعا ربه أن يُطيل عمره فأجيب سؤله غير أنه لا سبيل إلى الخلود؛ فاختر إن شئت بقاء سبع بقرات أو بقاء سبع نوايات من تمر أو بقاء سبعة نسور؛ كلما هلك نسرٌ عقب بعده نسر، فاختار سبعةَ نسور، فكان لقمان يأخذ فرخ النسر من وكره فيربيه عنده حيث يطير مع النسور ويرجع إليه حتى يموت ويخلفه نسرٌ آخر حتى هلك “لبد” آخر نسر عنده فمات لقمان بعده.
عاش لقمان بن عاد ألفين وأربعمائة سنة، طال عمره جدًا حتى مات أخوه الملِك شداد فورث الملك من بعده.
قال الأعشى:
لنفسك أن تختار سبعة أنسر … إذا ما مضى نسر خلفت إلى نسر.
وقال تيم اللات:
رأيت الفتى ينسى من الدهر حقه … حذار لريب الدهر والدهر آكله.
ولو عاش ما عاشت للقمان أنسر … لصرف الليالي بعد ذلك يأكله.
إنها شهوة البقاء التي أغرى بها هولاكو آخرَ الخلفاء العباسيين فنفَّذ له الخليفةُ المستعصم كل ما أردا ثم قتله هولاكو واستباح بغداد ودمرها.
إنها شهوة البقاء التي أغرى بها تيمور لنك الفقيهَ ابنَ مفلح فنفَّذ له ابنُ مفلح كل ما أراد ثم استباح اللنكُ دمشق وأحرقها.
إنها شهوة البقاء التي أغرى بها الأمريكان برهان الدين رباني وشريف الشيخ أحمد ثم ألقوهما في مزبلة التاريخ.
إنها شهوة البقاء التي تعلق بها حزب النهضة التونسي وحزب النور المصري سعيًا وراء منهج السلامة لا سلامة المنهج.
كل هؤلاء، ومن هم على شاكلتهم، يزعمون أن كل ما فعلوه من فساد وإفساد كان بدافع المحافظة على مصالح الأمة وحفظ دماء الشعوب ودفع المفسدة الكبرى بمفسدة أخرى أصغر منها!
وكذبوا والله؛ فما هو إلا الوهن؛ ((حب الدنيا وكراهية الموت)) وما هي إلا شبهةُ مفسدة متوهمة في عقولهم خرجت على أفواههم بسبب شهوتهم في حب البقاء لعمر نسور سبعة أو يزيد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما).
لكنهم حصَّلوا المصلحة الشخصية والشهوة في البقاء في الملك المزعوم والسلطة الموهومة مرتكبين أكبر مفسدة بتضييع الدين والنفس والعقل والعرض والمال بتركهم طريق الجهاد والتضحية واستفحال الوهن في قلوبهم {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}.
وشتان شتان بين من يتنازل عن مبادئه وثوابته فيعيش ذليلا مهانا ومن يثبت على دينه ويبذل روحه في سبيله ليموت عزيزا مهابا.
شتان بين من تخلَّق بأخلاق من ذمَّهم الله في كتابه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وبين من يُنحر في سبيل الله وهو يهتف:
ولست أبالي حين أقتل مسلما … على أي شق كان لله مصرعي.
وذلك في ذات الإله وإن يشأ … يبارك على أوصال شلو ممزع.
الشيخ: أبو اليقظان المصري