أثر وضوح الغاية وسلامة الوسيلة في مسير الجماعة… طالبان نموذجًا – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد الثامن والثلاثون ⁨ذو الحجة ١٤٤٣ هـ

الدكتور: أبو عبد الله الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

يقول تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي “سَبِيلِ اللهِ” وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» وعليه فغاية جهاد المسلم التي لا يصح جهاده إلا بها أن تكون كلمة الله هي العليا، فكل جهاد لا يكون لله وبالله هو جهاد باطل لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم، وهذا إن كان في حق المسلم الفرد ثابت؛ فهو في حق جماعات الإسلام الحركي أولى وأثبت، فإن عدم وضوح هذا المعنى في نفوس القادة والأتباع؛ يحرف مسار الجماعة عن الطريق السني في التغيير المنشود، وهذا ما حصل واقعًا، فمن المعلوم أنه ما من جماعة منسوبة إلى جماعات الإسلام الحركي إلا قامت في أصل نشأتها على هدف وغاية تحكيم شرع الله في أرضه، معتبرة نفسها قائمة بنوع من أنواع جهاد الدفع لغزو شامل للأمة على مختلف الأصعدة، ثم طرأ ما طرأ على هذا الهدف من تغييب أو تشويه أو انحراف، ولذلك فإن من الخلط الكبير والجناية العظيمة تصور أن هذه الغاية تتحقق بدعاوى مزعومة ورايات مرفوعة وشعارات كاذبة، بل لا بد فيها من سلوك ومسير سني -لا إفراط فيه ولا تفريط- يترجم هذه الغاية واقعًا في حياة القادة والأتباع فيعيشون بها ولها قاصدين إحدى الحسنيين.

ثم إن الغاية الشرعية لا بد لها من وسيلة مشروعة صحيحة بتطبيق سني لا إفراط فيه ولا تفريط؛ فكما تعبدنا الله بتحصيل المقاصد الشرعية تعبدنا بالوسائل الموصلة لها بعيدًا عن البراغماتية والميكافيللية التي تقوم على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وفي هذا الصدد من المهم جدًا التنبه إلى تأثير الوسيلة المعتمدة على الغاية نفسها ترسيخًا أو تغييبًا أو انحرافًا أو تشويهًا.

* بالمقابل المنظومة الدولية الجاهلية تعاملت مع جماعات الإسلام الحركي عبر أسلوبين خبيثين رئيسيين هما:

1 – الاحتواء المفضي للتنازل، والتوظيف وصولًا للإنهاء.

 

2 – العزل والتشويه، وصولًا للاستئصال.

وأسلوب ثالث مطور متمثل بتجربة “حكم فاشلة” (إخوان مصر وجماعة الدولة وحزب النهضة التونسي وحزب العدالة والتنمية المغربي وغيرهم) الأمر الذي ساهم في إجهاض معظم الثورات والتجارب، وعمل على بث روح العجز والانهزامية والإرجاف؛ لمنع الشعوب المسلمة من تكرار ثوراتها وانعتاقها من حكم الطواغيت.

وفي ضوء ما سبق يمكن توصيف وتفسير ما آلت إليه تجارب الجماعات وفق الآتي:

1 – أثبتت كل من التجربة الجزائرية والتجربة المصرية، بما لا يدع مجالًا للشك، فشل وكارثية تجربة جماعات الإسلام السياسي وخيارها الديمقراطي الباطل شرعًا ومسارها السلمي المجرد من الشوكة العسكرية، أمام الدولة العميقة -بمكوناتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية- المدعومة من قبل المنظومة الجاهلية، كما اتضح جليًا عند هذه الجماعات طغيان البراغماتية على حساب السياسة الشرعية، ولذلك فإن قليلًا من التأمل في مواقف هذه الجماعات وسلوكها، يجعلك تدرك حجم التناقضات القائمة بين المبادئ والشعارات والدعاوى من ناحية، وبين المواقف والحقائق والوقائع من ناحية ثانية، والأزرى أن تتناقض مواقف هذه الجماعات من قضية واحدة لاعتبارات وظيفية تتعلق بالمصالح المتوهمة المتعلقة بالأوطان والأحلاف وغيرها.

2 – تجربة جماعات الإسلام الجهادي من ناحيتها تم اختراق بعضها بالغلو (التجربة الجزائرية والتجربة الشامية كمثال)، أو احتواؤها بالتدجين والإقناع بإمكانية التعايش مع المنظومة الجاهلية، عبر مساراتها وأدواتها (جماعات الجهاد الوطني الديمقراطي) ولكن لم يمنع ذلك كله من بروز نماذج جهادية استطاعت أن تحافظ على مسارها السني، ثابتةً على مبادئها، مستمرةً في جهادها، فارضة أقدامًا ثقيلة لا تستطيع المنظومة الجاهلية تجاهلها مستندة في ذلك إلى قراءة صحيحة للواقع ومعرفة جيدة بحقيقة الصراع والتجارب القديمة والمعاصرة وتعاطٍ راشد؛ حيث ثبتت على مبادئها من ناحية، واستفادت من معطيات واقعها وسنن التدافع المحيطة بها، محافظة على استمرار عجلة الجهاد السني الذي يدفع الصائل ويحكم شرع الله من ناحية أخرى (طالبان مثالًا).

* جملة ما سبق وبمقارنة بسيطة بين مسار حركة طالبان -ثبتها ربي ومكن لها- وبين مسار جماعات الإسلام الحركي إبان ما عرف بثورات الربيع العربي؛ يجعلنا ندرك أهمية وأثر وضوح الغاية وسلامة الوسيلة -مشروعية وصحة وتطبيقا سنيًا- على مسار الجماعة؛ حيث نلاحظ:

1 – وضوح الغاية عند طالبان في جميع مراحلها استضعافًا وتمكينًا ومنذ التأسيس حتى دحر احتلال الحلف الأمريكي، وبالمقابل نجد تغييبها وانحرافها عند الآخرين تحت شعار الواقعية السياسية حتى باتت لا تختلف بعض هذه الأحزاب عن الأحزاب العلمانية، لا بل استثمر بعضها كالنهضة والعدالة والتنمية بأدوار قذرة لحساب الثورات المضادة.

2 – سلامة الوسيلة مشروعية وصحة وتطبيقًا عند طالبان، التي اعتمدت الجهاد منهجًا في التغيير ومقاومة المحتلين، مع الأخذ بالسياسة الشرعية المرتكزة على توحيد الله، وحاكمية الشريعة، وفقه الواقع، وتقوى الله، والهادفة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به، يقول ابن تيمية رحمه الله: “فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نَعِموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلا به من أمر دنياهم”.

ويقول أيضًا: “جميع الولايات في الإسلام مقصدها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإنَّ الله تعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون”.

في حين اتخذت جماعات الإسلام السياسي لعبة الديمقراطية -الباطلة شرعًا والكارثية واقعًا- منهجًا؛ وطغت البراغماتية عندها على حساب السياسة الشرعية، فانحرف مسارها وضاعت هويتها وحرفت غايتها وتم احتواؤها وتدجينها وتوظيفها، أما الجماعات الجهادية الغالية والجهادية الوطنية الديمقراطية فقد قدمت نماذج وتطبيقات مشوهة وظفها الأعداء في خدمة أجنداتهم المدمرة.

* أخيرًا: المشروع الإسلامي الراشد يحتاج إلى عقلية راشدة، تقوم على تصور صحيح وسلوك سني لا إفراط فيه ولا تفريط، وبناء هذه العقلية يحتاج إلى تحرر من العقلية الجبرية وإفرازاتها والمنهج البراغماتي وطاماته من ناحية، والتربية الإيمانية والجهادية والسياسية الراشدة من خلال تطبيق (فعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) من ناحية ثانية، والله الموفق.


لتحميل نسخة من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد 18 اضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى