الأستاذ: غياث الحلبي
كنت لا أزال في المكتب الدعوي في حي السكري مقابل مدرسة الثورة مقر حركة أحرار الشام الإسلامية حين سمعت صوت المؤذن ينادي لصلاة الظهر، توضأت ثم نزلت متجها إلى مسجد فاطمة عقيل والذي لا يبعد عن المكتب سوى 100 متر، ولهذا المسجد مكانة عظيمة في قلبي لا يمكن أن يمحوها تعاقب الأزمان مهما طالت، فقد كان الأم الحنون الذي احتضن المجاهدين بعد تحريرهم لحي السكري، وكان مركز نشاطهم، بل قد مر شهران ولا مكان للمجاهدين ينامون فيه سوى هذا المسجد، ولا مطعم يأكلون فيه سوى سُدَّته.
وصلت المسجد فدخلته ووجدت متسعا في الصف الأول فوقفت وصليت السنة، ثم انتظرت حتى أقيمت الصلاة وتقدم إمام المسجد وهو شاب كنى نفسه بأبي مسلم وأصله من عندان، فصلى بنا الظهر.
وبعد قضاء الصلاة جلست أقرأ الأذكار، وشممت رائحة غريبة منكرة؛ وإذ برجل سمين جدا يظهر بشكل واضح أن في عقله شيئا يقترب مني ويجلس بجانبي، ثم يشرع بسؤالي عن معنى الإسراف؟
فقلت له: الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق في المباح، ومن الإسراف أن تشتري كل ما تشتهي.
فقال: وما التبذير؟
فقلت: أن ننفق مالا في غير ما أحله الله، وقد قال تعالى في شأن الإسراف (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وقال في شأن التبذير: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ).
فقال: لقد شققت علي بقولك: إن من الإسراف شراء كل ما اشتهيت.
فقلت: هذا كلام العلماء وأنا مجرد ناقل، ورجوت أن ينصرف الرجل فقد آذتني رائحته جدا، إلا أنه أقبل يتبع السؤال بالسؤال، حتى ظننت أن الرجل يريد أن يختبرني، وكان نموذج المختبرين في تلك المدة قد كثر جدا خاصة بعد ظهور الخوارج ونشرهم لبدعهم وكثرة خوضهم في لحوم العلماء وطلبة العلم في الباطل.
فقلت له: أتريد أن تمتحنني بأسئلتك هذه؟
فارتسمت على وجهه علامات الحزن والأسف، وقال: “sory”، فتعجبت من رجل يظهر عليه اختلال العقل ثم يذكر كلمة باللغة الإنجليزية، إلا أن عجبي زاد جدا وبلغ منتهاه عندما قال لي بعد قليل أثناء حديثه: إن نسبة أي عدد إلى “Infinity” يساوي صفر، ثم قال: إنفينيتي تعني اللانهاية، وذكر بعض المصطلحات الأخرى إلا أني لم أحفظها لضعفي في اللغة الإنجليزية.
وبدا واضحا أن هذا الرجل على درجة عالية من الثقافة، وأن حادثا ما قد صيره إلى تلك الحال، وأردت أن أسأله عن قصته إلا أني تهيبت من ذلك وخشيت أن أجرحه، فهذا الرجل ذو إحساس مرهف جدا، وندمت على قسوتي عليه في الكلام قبل قليل.
وتابع الرجل حديثه فقال: أنا دكتور، وكنت أدرِّس في جامعة حلب مادة العقل الجمعي للبورصة.
وهنا غلب فضولي الحياء فسألته: ما الذي صيَّرك إلى ما أرى؟
فتنهد الرجل بعمق، ثم قال: إنها قصة طويلة.
فقلت: وأنا ملقي السمع لتقصها علي.
فقال: كنت أدرس في جامعة حلب، ومع بداية الثورة بدا واضحا أني مؤيد لتلك المظاهرات السلمية التي كانت تطالب بالكرامة والحرية، فقام جواسيس النظام لا كثرهم الله بكتابة تقرير فيّ.
ولم تمض إلا أيام حتى استدعاني عميد الكلية في نفر من الدكاترة، وبعد مقدمة مقيتة عن الوطن وقائد الوطن وتضحياته والمقاومة والممانعة والمؤامرة الكونية التي تتعرض لها البلاد طلب منا التوقيع على بيان دعم للنظام وشتم للمتظاهرين ورميهم بأشنع التهم من الارتزاق والعمالة والإرهاب وتدمير البلد وما إلى ذلك، فرفض بعض الدكاترة التوقيع على ذلك.
فقال: أمامكم خياران؛ إما أن توقعوا على هذا البيان، وإما أن توقعوا على طلب استقالتكم.
فقلت: وإذا رفضت التوقيع على أي منهما؟
فقال: إذا عليك أن تراجع الأمن السياسي فلديهم ما يقولونه لك.
وبما أني لا أبيع مبادئي، ولست مستعدا للتنازل عنها، وفي الوقت ذاته لا أرغب برؤية وجوه الوحوش البشرية في الأمن السياسي فقد رضيت أن أوقع على طلب استقالتي وخسرت بذلك وظيفتي التي أنفقت قرابة عشرين عاما من عمري لأحصل عليها، ومع ذلك لم ألق لذلك بالا فأنا على علم أن الرزق بيد الله وسيأتي إليّ رغما عن النظام، ويكفيني أني انتصرت في هذه المعركة، انتصرت كرامتي على الأنانية والمادية.
وعلى أي حال فقد كنت ميسور الحال، وكان لدي ولد كفلقة القمر أسميته خالد وهو أحب إلي من بصري، وكنت أرسله ليتعلم القرآن في مسجد قريب من بيتي فكان يبهرني بذكائه وسرعة حفظه وجودة فهمه وصفاء ذهنه، ولأحثه على المتابعة والمثابرة والجد فقد أفرغت له غرفة في الدار ودعوت أطفال عمارتنا ليدرسهم، وأسميت تلك الغرفة: مكتب خالد.
ثم دخل المجاهدون مدينة حلب، وحررت المنطقة التي أسكن فيها، وكانت سعادة غامرة أن ينكسر قيد الذل والاستعباد، ولكن سعادة الناس لم تكتمل؛ إذ بدأ النظام بقصف المناطق المحررة بعشرات قذائف المدفعية والهاون يوميا، وفي ذات يوم نرسل خالد ليشتري لنا شيئا من البقالة، وما إن مضى قليلا حتى سمعت صوت قذيفة هاون تنفجر وتحدث دويا عظيما، فقمت مسرعا فزعا فقد خشيت أن يكون خالد قد أصيب بمكروه.
نزلت إلى الشارع أعدو كالمجنون، ولكني لم أر خالدا، بل رأيت أشلاء ممزقة كانت خالدا قبل قليل، ولست أقدر أن أصف لك ما حل بي ساعتها، إنه ابني حبيبي ثمرة فؤادي فلذة كبدي نور عيوني، لقد رحل!
أغمي علي ونقلت إلى المشفى، ولم يحتمل عقلي هول الصدمة فصرت أرى خالدا في كل مكان، أدخل غرفته فأراه، أصعد على درج العمارة فأراه، صرت أذهب إلى السوق لأشتري له الألعاب وأعود إلى البيت لأقدمها لخالد، أشتري له الحلويات والملابس.
ثم إني هممت بالانتحار مرارا، ولم يكن انتحارا على الحقيقة، إنما كان خالد يتراءى لي وأنا في الأماكن العالية وهو في الأسفل، فأنظر إليه فأجده يقول لي: تعال يا أبي، اقفز إلي هيا، أنا أحبك وفي شوق إليك. فأهم بذلك ثم أنتبه إلى نفسي فأقول له: يا خالد أأأأخشى أن يدخلني الله إلى النار، علي أن أصبر حتى نلتقي في الجنة.
اغرورقت عيناي بالدموع؛ فقد صدعت قصة الرجل قلبي.
نظر إلي الرجل، وربت على كتفي، وقال: ولا زلت إلى اليوم أتلقى العلاج، وهذا السمن بسبب تناولي بعض الحبوب التي تؤدي إلى ذلك، فهذه قصتي وهذا ما أوصلني إلى حالتي هذه، وإن أحببت أن تسأل عني فأنا الدكتور عمر المدرس في جامعة حلب.
ثم نهض الرجل وتركني أمسح دموعي وأكفكفها، ثم قمت بعده لأخرج من المسجد وأنا أفكر في هذا النظام المجرم الذي دمر البلاد والعباد ماديا ومعنويا؛ فبلد عامرة بالخيرات والعلماء والمفكرين يلقى علماؤها في القبور أو السجون أو يطردون من وظائفهم ويتعرضون لأنواع الضغوط حتى يفقدوا عقولهم، وأمثلهم حالا من يفر إلى بلد آخر لينجو بنفسه من جحيم النظام.
وهنا وجدتني لا إراديا أقول وقد خرجت من المسجد واتجهت إلى المكتب: “يلعن روحك يا حافظ على هالجحش إللي خلفته”.
انتهت.