الشيخ: محمد سمير
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ).
هذه طبيعة من طبائع اليهود فهم أشد الناس قاطبة حرصا على أي حياة وتمسكا بها أيا كانت هذه الحياة، ولو كانت مترعة بالذل والإهانة والظلم والخسف.
وقد أنتجت هذه الطبيعة جبنا فائقا حتى صاروا كما قال الله: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) ولذلك لم يقاتل اليهود المسلمين إلا كذلك في خيبر، أما القبائل الثلاثة بنو قينقاع والنضير وقريظة فلم يقاتلوا أصلا؛ بل أجليت قبيلتان وضربت أعناق رجال القبيلة الثالثة.
قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: “يعني بقوله جل ثناؤه: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) – اليهود -. يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود..، وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل..، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة”، وقال: “القول في تأويل قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ).. هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا – الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة – يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا – الآيس بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور – لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض: «عشرة آلاف عام» حرصا منهم على الحياة”.
وقال ابن عاشور: “وقوله: لتجدنهم من الوجدان القلبي المتعدي إلى مفعولين. والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة..، ونكر (الحياة) قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه «الحياة وكفى»”.
ويقول سيد قطب: “وليس هذا فحسب. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ).. أية حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام! إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء. وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة. فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس، وعنت الجباه جبناً وحرصاً على الحياة.. أي حياة!
(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) يود أحدهم لو يعمر ألف سنة. ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة.
وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة.. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة. نعمة يفيضها الإيمان على القلب. نعمة يهبها الله للفرد الفاني”.
وقال الشوكاني: “ثم أخبر سبحانه بمزيد فشلهم وضعف نكايتهم، فقال: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا) يعني لا يبرز اليهود والمنافقون مجتمعين لقتالكم ولا يقدرون على ذلك، إلا في قرى محصنة بالدروب والدور، أو من وراء جدر، أي: من خلف الحيطان التي يستترون بها لجبنهم ورهبتهم”.
ويقول سيد قطب في تفسير قوله: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا): “وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان. بشكل واضح للعيان. ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة. فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين. فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان. حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء.
وسبحان العليم الخبير!”.
الشيخ محمد سمير
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٤ شوال ١٤٤٢ هـ